شفان إبراهيم
يُعتبر معبر سيمالكا الحدودي بين كُردستان العراق ومنطقة الكُرد في سورية، مع دير الزور والرقة، شريانَ حياة للمنطقتين، فهو أولاً ورقة ضغط لكُرد العراق ضد تركيا والعمق العراقي، ومصدر اقتصادي مهم للتخلص من ابتزاز الطرفين الإقليم، ورئة كُرد سورية للخلاص من ابتزاز النظام في دمشق لهم ثانياً، ويُمكن أن يتحوّل إلى أحد روافد شمال غرب سورية؛ عبر التبادل التجاري بين شرق الفرات وغربه، ودور معبر سيمالكا في ذلك.
وشهد المعبر تحولاً استراتيجياً، بوصفه منفذا للعيش والاقتصاد، إلى وجهة دولية إقليمية محلية، فهو أولاً إحدى محطات الصراع الروسي – الأميركي، وما كانت جرأة قوات الأمن الداخلي الكردية (الأسايش) قبل فترة بالتصدي للدوريات الروسية التي اقتربت من المعبر، لتصير لولا الدعم والتوجيه الأميركيان بذلك، عدا عن الصدامات بين الدوريات الروسية والأميركية بالقرب منه أو منابع النفط. وثانياً، ترغب روسيا بالسيطرة عليه لجعله رئة اقتصادية تدرّ الأموال على خزينة النظام السوري الفارغة، وورقة مواجهة ضد قانون قيصر. كما أن سيطرة روسيا ستعني عودة النظام بكامل ثقله إلى المعبر، وهو غير مستعد لأبرز مُحدّدين يوضحان طبيعة العلاقة بينها وبين كُردستان العراق: أنها غير مستعدة لتقديم أيّ حقوق سياسية للكُرد في سورية، إذ تعتبرها تنازلاً عميقاً غير وارد في قواميسها. وأنها ليست على استعداد لنسيان موقف الإقليم، وخصوصا الحزب الديمقراطي الكُردستاني من الحدث السوري، ورفض التعامل مع دمشق، عوضاً عن تركيا والائتلاف السوري المعارض.
وثالثاً، ترغب تركيا بالسيطرة على المعبر، ورُبما إغلاقه، إن تمكّنت من ذلك؛ للضغط على الإقليم لترك كُرد سورية من جهة، وتعميق التجارة عبر معبر إبراهيم الخليل الذي يربط تركيا وكُردستان العراق من جهة ثانية. ومن جهة ثالثة، إبقاء كُردستان العراق مرتبطاً بالاقتصاد التركي. ورابعاً رغبة عراقية لمنع تصدير النفط من عموم المنطقة الكُردية صوب تركيا، لتستفيد هي من تصدير نفطها صوب تركيا.
وخامساً: أيُّ تغير على موازين قوى الفواعل الرئيسية للمعبر سينعكس على مجمل العملية السياسية في الإقليم، وحتماً على طبيعة العلاقات والتوازنات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني مع تركيا والحشد الشعبي وإيران. ومن السهل جداً تشكيل لوبي جديد من هذه الأطراف الثلاثة، ضاغط ومُحارب للتطلعات القومية الكُردية على طرفي الحدود، ما يعني مزيدا من التغلغل الإيراني. كما أن اقتراب الحشد الشعبي من معبر سيمالكا سيعني فرض طوق من الحصار الاقتصادي، وتالياً السياسي، على مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تعيش، هي الأخرى، مخاوف عسكرية لخسارة مزيد من الجغرافيا التي بقيت تحت سيطرتها، وستجد نفسها ما بين الاتفاق مع الحشد الشعبي وإيران والنظام السوري وروسيا. ومن دون شك، سيكون في مجمله ضد مسار جنيف والمعارضة السورية، أو الدخول في معارك أخرى، من شبه المؤكد توافق تركيا وفصائل المعارضة السورية معهم ضد “قسد”.
ويدفع هذا التشبيك المعقد بين الدول ذات الشأن في الملف السوري الكُرد إلى التمسك بالجانب الأميركي الذي لم يكن يحمل أيّ تصور للقضية الكُردية، قبل زعمه جديته لتقريب الأطراف الكُردية في جسم سياسي عسكري موحد، وهو ما يلزمه بالضرورة عدم التفريط بمعبر سيمالكا. وبالتأكيد لكل منطقة كُردية خصوصيتها وعلاقاتها مع المركز، ولكن من الخطأ الاستراتيجي الكبير النظر إلى القضية الكُردية في سورية والعراق، من دون تشبيك أو تأثير متبادل بينهما.
غالباً ما كانت جملة العوامل تتضافر فيما بينها للنيل من الكُرد وقضيتهم القومية، لذا يسعى الكُرد في سورية والعراق إلى نسيانِ ظلم التاريخ وقدر الجغرافيا التي أطاحتهم بين دول لم ترحمهم، لا باعتبارهم بشرا، ولا أصحاب خصوصيات وهويّات قومية، وبل أرهقتهم تلك الخصوصيات التي منحتها لهم المشيئة السماوية. وتتجسّد المساعي الكُردية عبر مداواة جراحهم بنظام سياسي، يضمن عدم عودة القتل على الهويّة. وتتكور نظرة الكُرد إلى التاريخ بألا يعيد نفسه، فالإقليم يعيش فترة عصيبة، من محاولاتٍ لإفشال الحكومة، إلى تعطيل البرلمان، وصولاً إلى إنتاج أزماتٍ وافتعال مواضيع مفخّخة تأخذ الإقليم بعيداً، وتحديداً عبر أذرع لإيران، سواء لإفشال النظام السياسي في كُردستان، أو للضغط على أيّ تقارب كُردي – كُردي في سورية ومنعه. كُل تلك الأحداث تدخل في صندوق السعادة الإيراني، السوري، والتركي، مع ارتفاع وتيرة قصفها كوباني (عين العرب) تارةً، والجغرافيا الحدودية مع الإقليم تارة أخرى. وفي كل مرة، فإن وجود حزب العمال الكُردستاني يُعتبر الذريعة الأكثر أهمية لتركيا، وبل بمثابة هدّية قيمة.
أمام هول الضغوط المباشرة والضمنية على الكُرد في العراق وسورية، فإن العامل الاقتصادي وطرق نقل النفط البرية والمائية من مناطق انتشارها في شرق الفرات، عبر معبر سيمالكا، تُعتبر أبرز البطاقات القوية التي رُبما يُضحّي الكُرد بدمائهم في سبيل الإبقاء عليه (المعبر) تحت سيطرتهم؛ للاستفادة السياسية والاقتصادية. وضمن السياق نفسه، فإن إفشال القضية الكُردية في سورية ومحاولات إضعاف الإقليم أو خنقه، اقتصادياً، باعتبار السيطرة على معبر سيمالكا إحدى أبرز أدوات حصار الإقليم وكُرد سورية، يعني أن الكرد مرة أخرى سيكونون ضحية للآخرين، وسقطة أخلاقية كبيرة للدول العظمى، وسيعني مزيدا من الفوضى والحدود الأمنية الهشّة، والدور المخيف للآثار المترتبة عليها، من أن تستجد أجيال تحمل أفكاراً للابتعاد عن الآخر أكثر.
ووفق ذلك، أفضل الحلول المتاحة حالياً للكُرد هي في إنجاح الحوار الكُردي الداخلي المرتقب، والذي أضحت زاوية النظر له متكئةً على الإيجابية، والاقتناع بجدّية الإدارة الأميركية لإنجاح هذا الحوار، وتحديداً لجملة من العوامل، من قبيل جدّية الولايات المتحدة في منع وصول روسيا إلى منابع النفط، وعدم السماح لها بالاقتراب من معبر سيمالكا، حتى لو كلف ذلك اشتباكاً بين دوريات الطرفين في المنطقة، إذ إن “قانون قيصر” جاد في تحطيم كيانات السلطة وركائزها في دمشق، كما أن تشكيل منصة/ كتلة كُردية بمطلب سياسي موحد سيشكل دعماً عميقاً لصالح الاصطفاف الذي سيتحالف معه الكُرد، والواضح أن “سيمالكا” سيكون شريان منع تأثير “قانون قيصر”على شرق الفرات برمته.
دمج الورقتين، السياسية العسكرية والاقتصادية اللتين تعمل عليهما الإدارة الأميركية، سيدفع صوب إعطاء شرق الفرات أهمية جديدة، وخصوصا في الإستراتيجية الأميركية المقبلة، ونوعية النظام السياسي للمنطقة الذي سيتبلور وفق صبغة الإدارة الجديدة ما بين الكُردية أو العامة. وإذا كان معبر سيمالكا يشكل عصب التغيرات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية بالعمق والمستقبل السياسي على شرق الفرات والإقليم الكردستاني، فإن قوات سورية الديمقراطية تتحمل وزراً كبيراً صوب إنقاذ ما تبقى للكُرد من إنقاذه في سورية، وبشكل أكثر عمقاً، ضبط إيقاع التيارات الرافضة للحوار والساعية صوب إفشاله، وطمأنة الإقليم لعدم دخوله خانة الابتزاز المحلي والإقليمي.
وإذا كان معبر سيمالكا، والمداخيل الاقتصادية لعموم شرق الفرات، لا يجوز أن تكون من نصيب الكُرد وحدهم، فإنها لن تكون من حصة مكونات شرق الفرات وحدها أيضاً، فالمطلوب ليس خنق العمق والداخل السوريين، ما يُحمّل الكُرد أعباء سياسية إضافية وأحقادا عميقة ضدهم، خصوصا مع الماكينة الإعلامية المضادّة للوجود الكُردي. وطمأنة باقي المكونات وجدّية مشاركتهم في أيّ عمليةٍ سياسيةٍ مستقبليةٍ هي من صميم العمل السياسي والعيش المشترك، الحقيقي والجاد.
رُبما لو سنحت لتركيا الفرصة لإجهاض أيّ فرص لنجاح الحوارات الكُردية، فلن تبخل بها، أو إن لها من الأذرع السورية لبعض الشرائح الكُردية والعربية، العاملة على زعزعة أي استقرار أمني، ما يكفل بمنع تحويل الحدود الأمنية الحالية إلى حدودٍ سياسية ثابتة. لكن الثابت الآخر أيضاً أن تركيا لن تستطيع الوقوف ضد الرغبة الأميركية في لجم الخلافات الكُردية – الكُردية، وتالياً شرق الفرات – تركيا، ومن مصلحة الأخيرة أن يكون كُرد سورية ومناطقهم والمناطق العربية في شرق الفرات، قيمة اقتصادية مضافة لناتجهم القومي المحلي، عبر تحويل التطلعات الكُردية من العسكرة إلى الاقتصاد والعمل، وهذه تحتاج إلى الاستقرار السياسي على مستويين: الحقوق الكُردية خصوصا، والحل السوري الكُردي عموما، والضاغط الآخر أن الجيل الكُردي الجديد ما عاد مهتما بالحرب، ولا راغبا بها، وبل أدرك استحالة هزيمة دولةٍ يحميها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد ثلاث تجارب عسكرية مع تركيا، انتهت بالفشل الذريع.
رُبما لم يعد أمام الكُرد في سورية سوى التحول من حُلم القوة العسكرية الصاعدة، صوب قوة اقتصادية واعدة تقترب من دوائر الاقتصاد العالمي، والاندماج الاقتصادي بين كُردستان وشرق الفرات، بما سيخدم عموم السوريين وتركيا والطرق البرية التي تسعى أميركا للسيطرة عليها، فسيكون من شبه المؤكد تسريع وتيرة الحل والمستقبل السياسي الكُردي في العراق وسورية.
المصدر: العربي الجديد