حسن النيفي
ليست الثورة السورية هي الوحيدة التي أخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة التي أرادها السوريون في آذار 2011 ، إذ لا يبخل علينا التاريخ بالحديث عن أطوار متباينة من عمر الثورات وسيرورتها، إلّا أن الثابت هو أن الإخفاقات العسكرية أو الميدانية لأيّة ثورة، لا تتزامن – بالضرورة – مع ( وعي مهزوم)، بل ربما كان العكس من ذلك أحياناً، إذ غالباً ما تدفع الانتكاسات الميدانية أرباب الفكر والسياسة والثقافة إلى مراجعات نقدية معمّقة لعوامل الهزيمة، ومن ثم محاولة البناء على معطيات جديدة تتخطّى عوامل الإخفاقات السابقة، وهنا تظهر الحاجة الشديدة إلى الفعل المقاوم الذي يُعوَّلُ عليه في مثل هذه الحالات، للسعي نحو ضبط حالة التردّي، والحيلولة دون انتقال البؤس الذي انتجته الهزيمة إلى منظومة الوعي القيمي والأخلاقي.
لعله من البدهي ألّا يحمل المثقفون والساسة في جعبهم حلولاً عملية ناجزة لاستدراك الشروخ أو ردمها على الفور، وكذلك ليس مطلوباً منهم إيجاد تصوّرات تداعب الحالة النفسية للناس أكثر مما تقارب الواقع بجرأة وصدق، ولكن ما هو مطلوب منهم – دون أدنى ريب – هو السعي الجاد لفهم عوامل الهزيمة، ومن ثم الوعي الدقيق والموضوعي لتداعياتها الاجتماعية، وكذلك الانحياز التام إلى تحليل الوقائع وفقاً للمعطيات المنطقية الملموسة وليس امتثالاً للرغبات المركونة في دواخلهم والقناعات القارة في أذهانهم.
واقع الحال يشير إلى أن جانباً كبيراً من فداحة المأساة السورية تكمن بواعثه في انعدام التوازن المُفترض بين الهزيمة وعوامل مقاومتها كما جاء في المقدمة، بل يمكن الذهاب إلى أن الفعل المقاوم حين يتحوّل إلى عامل خذلان وانكسار، يصبح – حينئذ – معزِّزاً للانهيار ومُكرِّساً لاستمرار شتى أشكال التداعي الأخلاقي. لن أتحدث في هذه المقالة الوجيزة عن نخب ثقافية من بينها أسماء ذائعة الصيت من أدباء ومثقفين وفنانين أظهروا انحيازهم منذ البدء إلى جانب نظام الإجرام الأسدي، فهؤلاء أعلنوا موقفهم بوضوح وكانوا منسجمين مع مسارهم الذي اختاروه، ولكني اتحدث عن صنف آخر من النخب السياسية والثقافية أعلنت انحيازها إلى ثورة السوريين في طور توهّجها ( 2011 – حتى منتصف 2013 )، وحاولت التماهي مع الحراك الثوري بشقيه – المدني والعسكري – في محاولة منها لإيجاد رواكز شعبية لخطابها السياسي والإعلامي، وذلك باعتبارها نخبة تصدّرت المشهد القيادي للثورة، وفي هذا السياق شهدنا سباقاً محموماً للعديد من الشخصيات السياسية ذات العضوية في المجلس الوطني، ثم الائتلاف، تتدافع بقوة للتجوال في الداخل السوري، لا للعمل أو العيش أو الإقامة بين السوريين، بل لمجرّد زيارة الفصائل العسكرية والتقاط الصور مع قادتها، وإلقاء الخطب الرنّانة على مجموعات الجيش الحر آنذاك، ولم يكن عامل الإيديولوجيا – آنذاك – محدِّداً أو موجّهاً لنشاط تلك الشخصيات، طالما ان الهدف هو حيازة الشرعية ( الثورية) وكسب الولاء الذي من شأنه أن يوفر غطاء لأي منصب في كيانات المعارضة، فكثيرة هي الحالات التي شوهد فيها علمانيون يلتقون مع فصائل إسلامية، وتؤخذ لهم الصور وهم يعانقون قادتها، مشيدين ببطولاتهم وصمودهم، ومؤكدين في الوقت ذاته على أحقية السوريين بحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم بوجه العنف الأسدي، ولئن كان سعي القوى ذات التوجه الإسلامي سبّاقاً إلى شراء ولاءات العديد من الفصائل العسكرية من خلال الدعم المالي والإغاثي، فإننا في موازاة ذلك ، شهدنا أيضاً العديد من القوى والأحزاب اليسارية حاولت إقامة جسور مع فصائل عسكرية، تارةً من خلال تقديم مساعدات إغاثية مباشرة، وتارةً تحت ستار عمل منظمات المجتمع المدني التي كان العديد منها يعمل تحت إشراف الفصائل العسكرية وبتوجيه منها، والغاية المشتركة لكلا الطرفين هي القبض على مفاصل ثورة، ظهر يُتْمها السياسي منذ الأيام الأولى لانطلاقتها، فلماذا لا تسعى تلك النخب لفرض أبوّتها على تلك الثورة اليتيمة؟.
في أطوار لاحقة من عمر الثورة، وتحديداً منذ العام 2015 فما بعد، بدأ مسار الثورة يشهد انتكاسات شديدة، إذ بدأ نظام الأسد مدعوماً من حلفائه الروس والإيرانيين باستعادة معظم المناطق والمدن التي كانت خارج سيطرته، كما استطاع الروس إيجاد مسار أستانا كبديل او مواز لجنيف، كما ادّى ازدياد التدخل الإقليمي والدولي في الشأن السوري إلى ضياع القرار الوطني وخروج المبادرة الوطنية من أيدي السوريين، فضلاً عن ارتهان الكيانات الرسمية للمعارضة للأجندات والإرادات الدولية، إضافة إلى سيطرة الجماعات الإسلامية المتطرفة على مساحات واسعة من الجغرافية السورية والعمل على استنزاف الثورة عسكرياً وسياسياً واخلاقياً، الامر الذي ترك آثاراً كبيرة على جمهور الثورة، لعل أبرز تلك الآثار تدفّق السوريين نحو الهجرة بأعداد هائلة، وانتشار حالة من اليأس والقنوط حيال ردّة الفعل السلبية للمجتمع الدولي الذي لم يعبأ بمأساة السوريين، بل وقف متفرجاً على استمرار الأسد وأعوانه في حربهم الإجرامية على المواطنين.
وحيال هذه الحالة الموغلة في التردّي، كان يُنتَظر من النخب الثقافية والسياسية أن تقوم بدور حائط صدّ امام حالة الانهيار، لا من خلال التعالي على ما يحدث، بل من خلال التنقيب وسط الركام عن عوامل الخلل، وعدم التنصّل من المسؤولية وإدارة الظهر، والتفكير بصوت عال وواضح ومكاشفة السوريين بما جرى ويجري، وإبداء الاستعداد بكل شجاعة وإحساس بالمسؤولية للمحاسبة والمساءلة عن أي خطأ. ولكن مجمل المعطيات تؤكد ان ما حدث لقسم كبير من تلك النخب المزعومة هو شأن مغاير، بل هو سلوك مريب، إذ لم تتورّع بعض القوى الموغلة في يساريتها وعلمانيتها أن تبدأ بخطاب يساري متطرّف، يوازي في تطرّفه خطاب داعش ، فاستبدلت مشروع الثورة السورية بمشروع آخر عابر للحدود، وأصبح انتصار قسد على داعش بمساعدة التحالف، هو البديل عن إسقاط نظام الاستبداد الأسدي، وباتت النسبة العظمى من سكان سورية ( العرب السنة) هم إرهابيون وطائفيون، وانتقال سورية إلى بلد ديمقراطي علماني بات مرهوناً باقتلاع أو نفي او قتل أكثر من سبعين بالمئة من سكانه. وثمّة طائفة أخرى من محدثي نزعة التقدّم راحت تنعي غياب القيم العلمانية التي أتاحت المجال لانتشار التطرّف، بالطبع هي لا ترى جوهر القيم العلمانية الكامن في الحقوق بشتى أشكالها، والديمقراطية واحترام الرأي الآخر، بل تراها فقط بحقوق المثلية الجنسية واحتقار الشعائر الدينية والتحدّي السافر للقيم المجتمعية. ولا نستغرب إن رأينا عدداً كبيراً، سواء من قادة المعارضة أو قوى أخرى، ممن كانوا يزعمون أنهم يتحدثون باسم الجيش الحر، فضلاً عن كونهم أول من كان يطالب بالتدخل الخارجي، نراهم الآن يقدحون صخباً وضجيجاً وهم ينتقدون بشدّة إنزياح السوريين من الحراك المدني إلى الكفاح المسلّح، وكأن نظام الأسد كان يمطر المتظاهرين بالورود وليس بالرصاص والبراميل، او كأن السوريين كان عليهم أن ينتظروا حتى يبادوا جميعاً ليثبتوا سلميتهم وشرعية مطالبهم، ربما كان الكثير من السوريين ينتظر دور تلك النخب وهي تبحث في الأسباب العميقة لقدرة النظام على اختراق الثورة واستثمار قوى التطرف والإرهاب ، وكذلك تتحدث بجرأة عن دور العوامل الإقليمية والدولية في توظيف المال السياسي والدعم المسموم لسرطنة الحراك الثوري في سورية، إلّا أنها لم تفعل شيئاً جدّياً من هذا، بل اكتفت بإلقاء التهم على الغير، وسعت – وما تزال تسعى – للتبرؤ من تلك الثورة التي قدّم فيها السوريون أكثر من مليوني شهيد، وامثالهم من الجرحى والمهجرين والمعتقلين.
بقاء نظام الأسد، واستمراره بقتل السوريين لم يعد معضلة لدى اكثر السياسيين والأحزاب والتيارات، بل باتت القضية الكبرى هي حقوق المكوّنات القومية والدينية والإثنية، بل ربما تطور الأمر أكثر من ذلك، وأصبح الحديث عن حقوق المناطق والمدن، وأحقية كل محافظة او مدينة بالانفصال ضرباً من الموضى السياسية، ولعل هذا ما دفع العديد من الشخصيات السياسية والثقافية إلى التخلّي عن الخطاب الوطني الجامع والإرتداد إلى حواضنهم الدينية أو العشائرية البدائية، ومنهم من جعل من مناطقيته مركزاً للقضية السورية، فحصر جلّ همّه وشطارته في تبيان مزايا مدينيته، أو ريفيته، متناسياً أنه كان في يوم ما يطرح نفسه كأحد قياديي ثورة السوريين.
البحث وتسليط النقد نحو المنزلقات الكارثية للثورة ، واجب أخلاقي لكل غيور عليها، أمّا التبرؤ منها بسبب مآلاتها الموجعة، واعتبارها ثورة مهزومة، واعتلاء موجة الاستنكار لكامل سيرورتها، والتشدّق باستهجان قيمها وثوابتها ، ما هو في حقيقة الأمر سوى تعبير صريح عن هزيمة لرطانة الوعي وبؤس التفكير وبلادة الضمير.
لئن كان من الطبيعي أن يؤدّي غياب مفهوم الوطنية السورية، نتيجة الحقبة الطويلة من الاستبداد، إلى ظهور وشيوع مفاهيم تنتمي إلى ما دون الدولة، فإن التصدّي لهذه الإشكاليات الكبيرة بحسّ نقدي جريء وقدرة عالية من التفكير الموضوعي النابع من الإحساس بالمسؤولية ما يزال غائباً، ولعل غيابه كان السبب المباشر لشيوع أنماط من الدجل السياسي والزيف الثقافي، وإن كان ثمة فضل في كشفه وافتضاحه، فإنما يعود هذا الفضل للثورة السورية التي كانت عظيمة بكشوفاتها المعرفية والثقافية، والتي لا تتنكّر في الوقت ذاته لانكساراتها وإخفاقاتها السياسية.
المصدر: تلفزيون سوريا