عبد الحفيظ الحافظ
لكي لا نقع في شباك الأوراق ومكر ” البصاصين ” سأعرفكم على معالمها: ” البصاص ، الحاوية ، الزاوية ، الشِّقَّة ” . البصاص : أنا – والعياذ بالله من كلمة أنا – صاحب مكتبة داخل عبارة مفتوحةٍ على الشرق وعلى الغرب ، وهي تواجه درجاً يصعد إلى شِقَّةٍ فوقها ، فأكحل عينيَّ برصد الحاوية والزاوية والشِّقِّة ، والعلاقة توطدت بيننا بالرغم من تفخيخها بالشك . الحاوية: تقف مزروعةً في مدخل العبارة الغربي، وقد أخفقتْ كلُّ جهودي في زحزحتها عن موقفها، وكانت تعود إلى مكانها الأول، ولا تكفُّ عن بث تنهداتها. الزاوية: تلتصق بخاصرة بقاليةٍ في مدخل العبارة الشرقي ، اختارها أولُ مراقبٍ كُلفَ بمراقبةٍ ” لصيقةٍ ” ، متناوباً مع زميلٍ آخر ، وربما نسيهما مَنْ أرسلهما لهذه المهمة ، كقصة ناطور المبنى العثماني ، الذي بقي في موقعه حتى أُحيل على التقاعد ، وهو يرددُ : ” أوعا الزيت ” بعد طرش المبنى بالكلس، وكان من عادتهم في تلك الأيام إضافة الزيت إلى الكلس . الشِّقَّة : تؤجر مفروشةً بضعة أيامٍ من الشهر ، ثم تشكو الوحدة ، فيتردد إليها مالكها ليؤنسها مع امرأةٍ في خريف العمر ، وبعض النسوة دخلن الشقةَ أكثر مرة . اليصاص أمقتُ مهنة البصاص ، ولم أذق طعم ” البصة ” في طفولتي ، لأنها فعلُ عيبٍ في عرف ذاك الزمان ، لكن قدمي زلت بي ، وأنا مقيمٌ بين هذه المعالم ، فوجدتُ نفسي أمارس مهنة البصاص ، فلا تغيب عن عيني الحاوية والزاوية والشقة . مَنْ يتسمرُ في الزاوية يعلق عينيه على باب المكتبة وزبنها وزوارها ، فتقمصتُ دوره ، وهكذا أصبحتُ بصاصاً ، وبإمكان أي إنسانٍ أن يصبح بصاصاً ، وما عليه إلا أن يمعن التحديق فيما حوله. دار دولاب الأيام ، فتبادلت التحية مع مريدي الزاوية والاطمئنان على الصحة والسؤال عن العائلة ، بل تبادلنا الخدمات من شراء الخبز ودفع فواتير الهاتف والكهرباء والماء ، وأقسم أنها تمت على الطريقة ” الحلبية ” أي ” قبيض بقبيض ” . عندما كان يتأخر مريدُ الزاوية أفتقده ، وأنتظر بلهفةٍ مرورَه أمام المكتبة ، خشية أن يكونَ قد أصابه مكروهٌ ، وخوفاً أن أجد نفسي فجأةً بلا مرافقة . أعترف الآن أنه كان يتصل بي ليطمئن على صحتي عند تأخري عن ساعة وصولي ، وتبادلنا التهاني والتعازي ، واحتفلنا بلا شموعٍ بمرور العام الأول على تسمره بالزاوية ، واكتشفنا أننا من طينةٍ واحدة ، بغض النظر عن موقع كلٍ منا ، فهو موظفٌ يقوم بواجبه برصد تحركاتي ، ويكتب تقريره اليومي ، وأنا بدوري أرصد حركة الحاوية والشقة ومريدي الزاوية ، لكنني لا أتقاضى أجراً. عندما تقتضي ظروفي المشي في شوارع المدينة وأزقتها القديمة أمثل دور ” علي الزييق” و”عياري” بغداد في عهد الرشيد ، وأزوغُ عن عينه ، وكم سجلتُ ضرباتِ جزاءٍ في مرماه ، ولم يفسدْ هذا الودَّ والأُلفةَ بيننا . الحاوية أسعدني قدوم الحاوية ، واعتبرتها ظاهرةً جمالية ، وإن استأتُ من اختيارها الوقوف في مدخل العبارة الغربي . وفدت تتهادى بحلةٍ جديدةٍ وألوانٍ ربيعيةٍ زاهية ، ولمْ تدرٍ المسكينة أنه سيأتي مَنْ يشعل النار في قلبها الحنون . في البداية تجاهلها سكان الشارع ، وسمعتُ شكواها وحنينَها لضم الأكياس بين جوانحها ، فطبعتُ عباراتٍ رقيقةًٍ ألصقتها على أبواب الأبنية ، راجياً وضع الأكياس في حضن الحاوية ، وتفهمتُ عجزَ الأطفال عن رمي الأكياس بين شفتيها الخمريتين . بعدَ وصول الحاوية بأيامٍ أثار انتباهي بعضُ المراهقين ، الذين يزورونها منقبين فيها على استحياء ، ومع مرور الأيام حملوا أدواتٍ معدنية ، وازداد عددهم حتى بلغ العشرات في اليوم الواحد ، وساهم في التنقيب كلُّ الأعمار ومن الجنسين ، وكان بعضهم يسير على قدميه حاملاً كيسه على كتفه ، وآخر يمتطي دراجةً عاديةً أو نارية ، وأخيراً قدمت السيارات بأنواعها المختلفة ، وظهرت طنابرٌ تجرها الخيلُ والحمير، وأرى فجر حرب بسوسٍ بين المنقبين وبين عمال التنظيفات . بدأ التنقيب برؤوسٍ مقنعةٍ ذكرتني بأفلام زورو التي كنا نشاهدها صغاراً ، أما اليوم فقد أصبح التنقيب علنياً وموشوماً بالجرأة والقدرة على القفز العالي والهبوط إلى بطن الحاوية . تألمتُ لشق بطون الأكياس ولصراخها وإخراج أحشائها خارج الحاوية ، وتدفق دمائها وجريانها على الأرصفة ، لكن التخصص في التنقيب أثلج صدري ، واعتبرتُه رقياً في التعامل مع الحاوية ، كما أكبرتُ موقف صاحب الشقة ، الذي كان حريصاً على وضع أكياسه السوداء فيها ، بعد خروج كل زائرةٍ لشقته. الزاوية لا أقصد بهذا المعْلم زاويةً صوفيةً ، كالتي كان يقيم فيها الشيخ ابن عربي أو الجنيد او فرقةً شاذلية، بل زاوية البقالية في مدخل العبارة الشرقي . لقد مرَّ على الزاوية الحلوُ واللفانُ والمرُّ من المراقبين اللصيقين ، وجاء بعضهم معتقداً أنه كُلفَ بمهمة قهر عدوٍ لدود ، لكن الأمر سلك درباً آخر بعد أيام ، فبعد السلام الذي جرَّ عربات الحوار انفرجت الأسارير ، وشقت العلاقة الإنسانية طريقها ، ومنهم من طلب النقل لغاية في نفس يعقوب ، أو الاستقالة هرباً من الوقوف الطويل في الزاوية ” ملطشةً ” لنظرات العابرين ، تلفحه حرارة الصيف ، وتلسعه رياح الشتاء ، وتغمر صدره تأوهات الحاوية في الطرف الآخر من العبارة ، ولا أدري إن سمعوا صهيل الشهوة فوق الزاوية ، وربما أملى تبديل مريدي الزاوية الخشيةُ من فيروسات البصاص . لا أخفي شعوري بالزهو بوجود المرافقة حولي ، لاسيما عندما يتتبعون خطواتي كظلي ، مع أن شعوراً بالشفقة ينتابني ، فمنهم المستأجر لبيتٍ في طرف المدينة ، أو يقيم في قريته ، ومنهم المحتاج وعنده عائلةٌ ينوء بأعباء تأمين العيش الكريم لها . الشِّقَّة عانيتُ كثيراً عندما بدأت الكتابة عن هذا المعْلم لهذه الأوراق ، فالحاوية منتصبةٌ أمام ناظري وكذلك الزاوية ، أما الشقة فأنا لم أدخلها ، ولا أعرف ما يجري فيها ، ولصاحبها سلوكٌ لا يغيره عند صعود الدرج ، فهو يترك باب المبنى موارباً إذا كانت امرأةٌ تتسلل خلفه ،. مارست مهنتي الجديدة كبصاص على الشقة ، عندما أخذ مالكها يتردد إليها في كل شهرٍ مرة ، تتبع خطاه امرأةٌ متشحةٌ بالحياء ومتعثرةٌ بالخوف ، ويشي مظهرها بطبيعة مهنتها . لكن الشقة أخذت تستقبل في كل أسبوع امرأةً وأحيناً في كل يوم ، وقد يرافق مالكها بعض الأصدقاء، وكما ارتقى الخط البياني للتنقيب في الحاوية بالتخصص ، عبَرت الدرج فتياتٌ في عمر الزهور ، ولا يوحي مظهرهن عما يجري فوق الزاوية . الذي يغيظني اليوم نظرتهن المترفعة إليَّ ، وهن يمسكن بالهواتف الجوالة ، ويضربن الأرض بأحذيتهن المدببة كخيولٍ جامحةٍ عائدةٍ من ” القادسية ” أو ” اليرموك” أو أنهن أخوات ” خولة ” . لا أخفي معاناتي في المكتبة بين الحاوية والزاوية وفوق رأسي تدمدم الشقة ، ولا بديل أمامي إلا المقهى أو البيت ، وأنا لستُ القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفني. أخشى أن أرى الزاوية بلا مريدين والحاوية بلا زوار والشقة بلا حور عين ، ومنذ أيام تطاردني الكوابيس ، وتداهمني الأسئلة ..