عبد الرحيم خليفة
قبل سبع سنوات في مثل هذا اليوم،21 نوفمبر/ تشرين ثاني 2013، اختطفت استخبارات العصابة المتسلطة على شعبنا المناضل الحقوقي، والسياسي البارز رجاء الناصر أثناء مروره في أحد شوارع حي البرامكة الدمشقي المكتظ بالناس. جرت العملية الاجرامية في رابعة النهار، وعلى مرأى من المارة.
ومنذ ذلك الحين والسلطة تنفي مسؤوليتها عن خطفه وتغييبه، وهو سلوك لا يختلف عن تقاليدها التي تشبه سلوك عصابات الاجرام في العالم كله، وكثيرًا ما لجأت اليه عندما تريد تصفية أحد المعارضين البارزين بلا جريمة، ولا جريرة. والجدير بالذكر أنه خلال السنوات السبع تدخلت جهات خارجية لدى النظام للسؤال عنه، وطالبت بالإفراج عنه، ولكن السلطة نفت وأنكرت وجوده في عداد مئات الوف المعتقلين في أقبيتها، رغم أن بعض هذه الجهات الخارجية التي تدخلت حليفة وقريبة من نظام العصابة!
سبع سنوات وما يزال مصير المعارض الرمز مجهولًا، كما مئات الآلاف، من المغيبين والمختفين قسريًا منذ أن انفجرت ثورة الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011، ليكون ورفيقه الدكتور عبدالعزيز الخير، أبرز شخصيتين سياسيتين وطنيتين يعتقلهما نظام الطاغية الكوني، ويمثلان ألمع قادة المعارضة الداخلية، ممثلة ب(هيئة التنسيق الوطنية) التي شكلت خياراتها موضوع جدال وخلاف عميقين بين السوريين عامة، استفزت النظام، ولم ترض جمهور الثورة.
من المهم الاشارة الى أن المناضلين إياهما، الناصر والخير، سبق أن تعرضا لاعتداء بدني مدبر وسيل من السباب والشتائم من عملاء ومخبري نظام دمشق، في مصر، سواء المباشرين أو الذين حملوا خطابًا وتوجهات كانت وبالًا على الثورة وأهلها، حدث ذلك بينما كانا يهمان بدخول جامعة الدول العربية يوم 9 تشرين ثاني/نوفمبر 2011، عندما كانا يتحركان ويعملان مع مناضلين سوريين آخرين للوصول لحل سياسي وطني يجنب سورية السيناريو الدموي الحربي الذي اختاره بشار الأسد وأخذ يسير عليه على عمى وبدون تبصر، ولكن بإرادة كاملة، وعن سابق قصد وعمد مسبقين، بدعم وتحريض من طغمة المجرمين شركائه في السلطة، وبمساندة وتوريط مبرمج، حتى لا نقول بضغط مكثف من حليفه الايراني الذي رأى في الثورة الشعبية السورية تهديدًا لنظامه الحاكم في طهران، ولمشروعها الاقليمي، وتشكيل (الهلال الشيعي) الممتد بين طهران الى بيروت.
لم يشفع للمناضلين الكبيرين تاريخهما الوطني الحافل بالعمل والنضال في سبيل سورية أولًا، وفي سبيل الحرية والديمقراطية بأعلى درجة من السلمية والمسؤولية، والحرص البالغ على حماية المجتمع من الفتنة الطائفية التي خلقها النظام وعمقها طوال عقود تسلطه على السوريين، ولم يشفع لهما رفضهما أي تدخل خارجي، أو استغلال للثورة للنفاذ الى الساحة الوطنية، ولم يشفع لهما دعوتهما المستمرة للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، سبيلًا لتقوية الدولة السورية في مواجهة أعدائها ولا سيما “اسرائيل”.
غير أن النظام الذي تأسس منذ انقلاب حافظ الأسد 16 تشرين ثاني/نوفمبر 1970 على الفساد والاستبداد والطائفية والبطش وإقصاء المجتمع والغاء المعارضة والرأي الآخر، رفض الخيار الوطني الديمقراطي الذي جسدته رؤية المناضلين المذكورين ومواقفهما وسعيهما الجاد لتغليبه على بقية الخيارات غير المضمونة العواقب مع بقية أطراف المعارضة الثورية الوطنية، سواء من النظام، أو من بعض الأطراف المحسوبة على الثورة.
لقد كان المناضل الرمز رجاء الناصر أمين السر في هيئة التنسيق الوطنية، وأمين السر في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وكان قبل المنصبين وبعدهما قامة وطنية شامخة، في نظر جميع قادة ورموز وقوى المعارضة الوطنية، بما فيها الذين اختلفوا معه أو اتفقوا، وكان صاحب تاريخ نضالي حافل بدأ منذ سنوات صباه وشبابه الأولى، وتذوق مرارة الاعتقال المتكرر على أيدي النظام واستخباراته الارهابية، وفي عهود ومراحل مختلفة، كما عاش سنوات طويلة متخفياً ومتوارياً، في زمن الأسد الأب.
ومما يؤسف له أن قضية خطف واخفاء رجاء الناصر (وربما تصفيته) لم تنل ما تستحقه
وتستوجبه من الاهتمام والتعميم والمتابعة على صعيد الاعلام ومنظمات العالم الحقوقية. ولم يعمل رفاقه على طرحها وتبنيها كجريمة سياسية كبرى، ولكن الوقت لم يفت، بل ما زال مطلوبًا تدويلها وتعميمها، لا بالنظر الى أهميته، ومكانته، هو ورفيقه عبد العزيز الخير، ولكن بالنظر لبشاعة السلوك الارهابي الذي يتنافى مع أبسط قيم الدول والحكومات والانظمة في التعامل مع رعاياها بواسطة القانون والقضاء.
إن التحرك الدولي المطلوب لقضية المناضلين الكبيرين لا يعد تمييزًا وتفضيلًا لهما على بقية المعتقلين في أقبية النظام، بقدر ما هو إدراك لأهمية الرجلين ودورهما المؤثر في توجيه بوصلة العمل الوطني في سورية، ودورهما الحاسم في توفير التوازنات الداخلية والخارجية، وبلورة مسارات وحلول، كان يمكن أن تفضي إليها سياقات ما جرى.
ومن اللافت جدًا أن يتم الحديث عن أمر اعتقالهما إما بفتور، وإما بتناوله كخبر عابر عن شخصية عادية، وللأسف، يتم ذلك من أخوتهما ورفاقهما، وفي صيغ تفاضلية، ما يعكس العقلية الحزبية التي تتحكم بأصحابها، والتي لا ترى الأمور الا بمنظار ضيق جدًا، ولا تريد أن تحلق في أفق وطني واسع وعريض يليق بهؤلاء وتاريخهم وتضحياتهم، بالرغم من أنه يفترض أن هؤلاء الرموز أصبحوا بحجم قضية شعب، وأكبر من أي تجمع أو حزب سياسي.
الوقت لم يفت المخلصين من التحرك والعمل لتدويل قضية اعتقال رجاء الناصر ورفيقه عبد العزيز الخير، والاتصال بمنظمات حقوق الانسان العربية والدولية لمطالبة النظام بالكشف بشكل خاص عن مصير (الرجل الذي تبخر في شوارع دمشق) بحسب الكاتب الصحفي بسام سفر، في مقال له عن رجاء الناصر نشرته صحيفة العرب اللندنية، ( 12 تموز/ يوليو 2014)، يستحق التقدير والاحترام، والحسرة والألم على فقدانه، بالنظر الى الفئة التي سيطرت على الثورة ومثلتها، لجهة هزال شخصياتها، وضعفها، ومن ثم ارتباطاتها الخارجية التي رهنت الثورة العظيمة لحساب أجندات استخبارات عالمية.
في مراجعة أمينة وصادقة لمسار رجاء الناصر والخيارات التي مثلها الكثير مما يجب أن يقال عنها وفيها، وتستوجب الوقوف عندها، باعتبارها جزءًا من تاريخ سورية خلال نصف قرن، في تحولاتها صعودًا وهبوطًا، لا تاريخه هو كمناضل وطني وعروبي وناشط حقوقي ومثقف فقط، على الرغم من أهمية كل ذلك.
تبقى الاشارة إلى أن الرجل في (مغامرة) بقائه داخل وطنه كان يدرك أنه في دائرة الخطر والاستهداف، وتعاظم ذلك الادراك بعد استشهاد ابنه الدكتور طارق في ريف حلب أثناء معالجته للجرحى من ضحايا حرب النظام الهمجية على الشعب، وهو الشاب الذي ذهب قبل ذلك للقتال في العراق أثناء العدوان الأميركي في 2003، ثم اعتقل بعد عودته لسنوات في لبنان، في قضية ملفاتها معروفة ومنشورة، ولكن رجاء آثر بالرغم من كل ذلك البقاء في دمشق التي لم تمنحه خيارات الأمان والحرية، ولم تعطه أي حصانة خاصة.
رجاء الناصر وعبد العزيز الخير وآخرون كثر يجب أن تعطى لقضيتهم الأولوية على ما عداها، ليس باعتبارها قضية إنسانية وحقوقية فقط، بل باعتبارها قضية وطنية سياسية تمثل ذروة فصول المواجهة بين القوى الوطنية الديمقراطية ونظام طغيان شامل ما انفك يعمل على تدمير ما تبقى من وطن وإرادة شعب.
تحية لرجاء الناصر في يوم اعتقاله وتغييبه.
الحرية له من سجون الطاغية الكوني، أو أقله الكشف عن مصيره.
تحية له أينما كان حيًا في قبر أو سجن.
المصدر: موقع ملتقى العروبيين