د/ نعيمة مزرارة
مرﱠت بمخاضٍ عسير حتى خرجت للحياة، لم تـﹸخـﹶط حروفها تحت رفاهية الزمان والمكان ولا نـﹸسـﹻجت خيوطها في وضح النهار، إنما خـﹹطﱠت على أرصفة المعاناة وسط فوضى الحياة وتحت جنح العذابات، لم تـﹸكتب بحبرٍ على ورق إنما كـﹸتبت بدماءٍ ظلـﱠت تنزف قرابة عشرٍ خلت فحطﱠت رحال معانيها تحت بساتين الكرز، هنالك حيث تركها كاتبها معلقة على أغصان الشجر بعدما أعلنت حتفه شغفاً منذ الصفحة الأولى التي تلبـﱠسته فيها حالة من المس الدمشقي وعاش تفاصيلها كتجلٍ صوفي مردداً ” ما في الجبة إلا هي” فساقته الثمالة على إثرها إلى نقش اسم الرواية على جذع شجر الكرز الممتد امتداد الذاكرة السورية، وراح يحذر القارئ في بدايتها من عدوى هذا المس وأنه قد ينتقل إليه بالقراءة و يتمكن منه عشقاً على حد قوله ” لا أعلم فيما إذا كان المس الدمشقي ينتقل بعدوى القراءة، لكنه محقق سينتقل إليك إذا أكلت من كرز الكرم القبلي”.
تلك هي رواية ” الخاطوفة ” للكاتب أحمد أنيس الحسون الصادرة عن دار نون 4 للطباعة والنشر بغازي عنتاب في تركيا، دمشقية الروح تجعلك تستنشق أريجها وعبق ياسمينها كلما توغلت أكثر بين سطورها، ولدرجة غناها بمفردات الأرض والشجر تحس أنك تلتهم حبات الكرز المنبعثة منها كلما قلبت بين وريقاتها، تغوص بك في عمق الحدث حيث لامست جرح المواطن السوري الذي تواطأت عليه أيادي الغدر بغية إخراجه من جنته وقطع أوصاله من خلاف، لكن هيهات إذ غاب عن هذه الأيادي أن السوري الممسوس بهوى دمشق الثمل بنوازع الأرض والشجر- المتهم بالحلاجة على حد تعبير الكاتب- تربطه بأرضه علاقة متينة وعصية عن القطع كالذاكرة العميقة التي لا تنضب مهما عصف بها اليباس، وهذا ما نستدل عليه من خلال قول الكاتب:” لم نكترث وقاومنا قحط فتاويهم بترانيم الكرم القبلي”، ” انتشر اليباس في أرجاء أشجار الكرز إلا أننا لا نزال نزرعه ونجدده لرغبة لا نتقنها تماماً”، لا نستطيع التملص من تكرار زراعة أشجار الكرز لأنها استجابة لذاكرة عميقة”. نلتمس هنا مكنونات الذات السورية التي تنمّ عن طول النفس والإصرار والتمسك بالحياة والرغبة الملحة في الاستمرار. وعلى الرغم من كل محاولات طمرها تحت الأرض إلا أن فرعها لا يزال للسماء كشجرة الياسمين التي ارتبطت هي الأخرى بدمشق ارتباطاً مقدساً لا يمكن الخوض في مدى عمقه، حيث أصبحت رمزاً من رموزها عبر العصور كما هو جبل قاسيون ونهر بردى وكل معالم الحضارة الأموية، فتألقت بها أقدم عاصمة في التاريخ.
نستشف في مستهل الرواية حالة من الهيام تقمصت الراوي، ولهذا جاء صدى إهدائه مدوياً من جبل الزاوية بـإدلب حيث نوازع الكرز والتين والزيتون إلى ياسمينة في حي دمشقي مفاده: ” متمردة في كل شي وعلى كل شيء، تتسلق على الجدران بكل جمالها ودمشقيتها، ياسمينة في حي دمشقي فرعها للسماء زيتونة شمالية تحفها تينة شرقية وشجرة كرز غربية”.
شقت رواية ” الخاطوفة ” طريقها ضاربة في العمق لتدافع عن ذاكرة وطن بكل مقوماته(أرضه وسمائه، بحاره وأنهاره، أشجاره ورجاله، نسائه وأطفاله) من مغبة الاغتيال والاندثار معبرة عن امتداد هذه الذاكرة بطريقة فنية جديدة حسب توصيف الناقد والناشر السوري محمود الوهب، وبأبجدية لا تضاهيها أبجديات الأرض وإن اجتمعت كلها وهي لغة عيون الموتى الشاخصة المعاتبة من وجع الحال والمآل لتوثـق للتاريخ أن الذاكرة السورية عميقة متأصلة، لا يمكن قطع أطرافها أو تقطيعها حتى ولو بعد الإغماض الأخير.
الأبعاد الرمزية والدلالية لعنوان الرواية
ترمز كلمة ” الخاطوفة ” في الميثولوجيا الاجتماعية التاريخية إلى شبح يداهم الفرد ويخطف أنفاسه، وهي حكاية أسطورية متوارثة عبر الذاكرة الشعبية ترويها الجدات والأمهات للأطفال بهدف ردعهم، وتشير في سياق الرواية إلى أشباح تجوب كوابيس الآبار وتترصد الأطفال قصد اختطافهم والتهامهم إذا ما رافقوا أمهاتهم عند جلب الماء من البئر، لذلك تقوم الأمهات بخداع أطفالهن وإشغالهم بقضم قطعة السكر إلى حين عودتهن من الاستقاء بهدف كبح فضولهم وشغفهم نحو اقتحام المجهول، ولعل هذا الكبح لعب دوراً كبيراً في تنشيط المخيلة عند الطفل، وتغذية الجانب الفونتازي الذي تتصوره ذاته وتركّبه في قالب من سيناريو غارق في الوهم، وقد يصل لأن يصبح هاجساً يثير استيهاماته اللاشعورية ويتوغل في ذاكرته ليتحول إلى إسقاطات مع الزمن يلاحقه مع مختلف مراحل حياته مثلما هو الشأن مع الشخصية البطلة “آدم” والذي يعيش بعد خروجه من المعتقل بشخصية “صالح”.
” الخاطوفة” بمعناها الدلالي تشير إلى ذلك الخطر الذي يحيطه الكثير من اللبس والغموض؛ إذ يترصد الأراضي السورية ويترقب ضحاياه من أجل اغتيال أحلامهم قبل اغتيالهم ومحو آثارهم، فهي تمثل صراعاً قائماً بين قوتين واحدة حاكمة مستبدة وأخرى حالمة تسعى إلى تحقيق ذاتها الفردية والوطنية والقومية؛ ما أدى بالشعب السوري إلى انقسامه بين مؤيد ومعارض.
المعاني والدلالات الرمزية في الرواية
رواية “الخاطوفة” فيها من المعاني والدلالات الرمزية ما يختزل معاناة ومأساة شعب تحت وطأة نظام دكتاتوريّ سائد، بحيث استمدت مادتها الحكائية من الواقع السوري المؤلم سواء داخل المعتقلات أو في مخيمات اللجوء أو في بحار الهجرة.
لقد صرح الكاتب في لقاء صحفي لحرية برس أن الخاطوفة عنوان لقصة قصيرة كتبها سنة2008 لترمز إلى مصير مجهول لسوريا بعد انقلاب السبعينيات الذي قاده الأسد الأب، وباتت هذه الخاطوفة تترصد الآبار والأراضي وتهدّدها باليباس حيث قطعت الأشجار وجفت الآبار ولم تروِ نهمها مما ابتلعت، بل وظلت تلاحق رسم مخططها على نفس الخطى مرددة هل من مزيد؟ ، وقد لاقت القصة بعد نشرها في عدة دوريات العديد من الإشكالات و التساؤلات باعتبارها تشير لخطر داهم يلاحق آمال وأحلام الشباب ليذريها مع الرياح، هذه الأحلام المحبطة التي غيبتها عنهم السلطة المستبدة بوعودها المعسلة كقطعة السكر لكبح وعيهم وتكميم أفواههم، ليعود المشهد بعودة الهاجس لحقيقة فعلية مع بداية الثورة السورية و ثورات الربيع العربي، ويكتمل ليصبح مصيراً معلوماً لابتلاع شعب بأكمله في بحار الهجرة إلى المجهول.
تجسد لنا الرواية المأساة السورية بعد ثورة 2011 حيث غيرت هذه المأساة أحداث وطن بأكمله، وهزت كل أركانه، فحولت تلك الجنة الخضراء المخضبة بعبق الياسمين إلى ساحة غارقة في الدماء.
يعود النص بالراوي في مستهل الرواية إلى طفولة بطل الرواية آدم حيث شده عبق الاشتياق إلى الماضي في القرية المنسية وبات ملزماً بالعيش مع نوازع الكرز والتين والزيتون مقترناً بهاجس الخاطوفة الذي تملكه أنساق مع استيهاماته، ورسخت في ذهنه تخيلات وأفكار عن قوى غيبية تترصده في كل حين، وباتت تلاحقه في كل تفاصيل حياته من القرية إلى الجامعة إلى العمل.
تأتي ” الخاطوفة” لتكشف عن واقع مرير تدور أحداثه مع بدايات 2011 في العاصمة دمشق عندما تم اعتقال شباب سوريين بسبب أمسية شعرية من بينهم بطل الرواية ” آدم ” ليخرج بعد ذلك من المعتقل على أمل أن يعود إلى قريته المنسية، لكن الأحداث تأخذ مجراها في اتجاه مغاير إذ تنطلق الثورة بمظاهرات وهتافات للمواطنين في الوقت الذي تـﹶشكـﱠل لديهم الوعي بضرورة التغيير الوطني وإطلاق الحريات بغية الخروج من ذل حكمٍ مستبد، يخرج آدم في هذه المظاهرات الشعبية ويصاب على إثرها بطلق ناري ليُعتقل مجدداً و يتعالج في إحدى أقبية المعتقلات معالجة شبه بدائية، وهنا تبدأ حكاية سردٍ متشظية في وصف الألم السوري داخل المعتقلات، وما بطل الرواية ” آدم” إلا نموذج لعذابات الآلاف من السوريين داخل السجون، تبدأ رحلة معاناته وسط كل أشكال الظلم والتنكيل والضياع والانكسار في خنادق ودهاليز تحت الأرض لا يـسمع لها همساً ولا ركزاً، فيفقد آدم ذاكرته تحت وطأة التعذيب وهول المشاهد غير واع بكل ما يحدث من حوله، ليسخروه بعد ذلك كآلة لترقيم جباه جثث التعذيب الوحشي ذات العيون الشاخصة المعاتبة، يرتعد بداية من هذه السخرة وسرعان مايعتاد عليها ويجد فيها ملاذاً للهروب من ذاكرة عصيّة عن الاسترجاع، فبدأ يرقّم الجثث ويغلّفها بشريط لاصق، ويتأمّل العيون ويقيم معها حوارات؛ حيث اعتاد معايشتها إذ خلف كل عين شاخصة حكاية مشبعة بالوجع.
لا شيء أشدﹼ وطأة على الروح كحديث النفس لصاحبها، يخرج آدم من المعتقل ليصبح ممزقاً بين أصداء ذاكرة عميقة – تحاول أن تطفو على السطح محملة بطيف ياسمين وروايته الضائعة بقبو دمشقي تارة وببساتين كرز في قرية منسية وهواجس خاطوفة تحوم حول فوهة البئر تارة أخرى- ، وبعد خروجه من معتقل دام سنوات التزم الصمت والتحديق في عيون الناس، إذ يتحدث معها مثلما كان يتحدث من قبل مع عيون قتلى التعذيب الوحشي في المعتقلات، ويتخيل رقماً يتوسد جبينها، فباتت تلك عادة يومية له وسط ذهوله في كل ما حوله بعدما تراءت له دمشق وهي تفقد دمشقيتها بوجوه غريبة يتقطر الشر منها، فبدأ يرى عيون هذا وذاك ويتمتم في سره: هذه العيون رأيتها من قبل لكنني نسيت رقمها، وهذه رأيتها وقد كان رقم صاحبها كذا أو كذا، وتلك اشارة إلى أن العيون السورية واحدة في آلامها وآمالها، فقد حفظ كل عينٍ، ولكل عين حكاية ولكل منها في الخارج أخ أو أخت أو أم أو أب أو صديق أو قريب، ثمة تلاحم عضوي تحكيه كل العيون فوق وتحت ( حسب المصطلح الدارج في لغة المعذبين مشيرين بــ “فوق” للخارج وبــ “تحت” للأقبية والسجون المكدسة بلحم الإنسان السوري)، وبين رحلة البحث أو التأسيس لذاكرة جديدة باسم “صالح” وقد أطلقه عليه رجل عجوز في إحدى حدائق دمشق وقد تحوّلت لمخيّم لجوء، فسمّاه باسم ابنه المفقود في المعتقلات(صالح)، وقد كان آدم يمعن النظر في عينيّ هذا العجوز مدركاً في ذاكرته العميقة والمتلاحقة أن هذه العيون مرّت عليه وأنه غلّف صاحبها بيديه ووضعَ لها رقماً على الجبين، وهي إشارة إلى أنه صالحاً كان من بين ضحايا التعذيب الوحشي، وهنا ينقلنا المبدع أحمد الحسون من وصف عالمٍ مخيفٍ وقاس تحت الأرض إلى عالمٍ أشدﹼ قسوة وضياعاً فوق الأرض، وهذا أكثر ما يشد القارئ في الرواية، فالبعد الدرامي للنص يبرز جلياً، و دقة الكاتب في توصيف المأساة السورية التي تجسدت في شخوص الرواية ، تتداخل الأحداث لسرد واقعٍ مرير لحياة اللاجئين داخل المخيمات وفيها يحتدم الصراع بين عدة أصوات وتكتلات بعضها حسبـﹸـه أن يعيش فوق أرضٍ تحمل الأمن والسلام والكرامة، وبعضها يحلم مضيفاً لما سبق ببناء جيلٍ متشبع بقوة العلم والفكر، وآخر يتبنى توجهات متطرفة تتاجر باسم الدين بعيدة كل البعد عن أصالة وثقافة الشعب السوري الثمل بالمس الدمشقي، والذي دائماً ما يكون هو ضحيتها، لقد عكس الروائي التكتلات الحاصلة من خلال شخوص الرواية (السيد فهمان، جواد، العم صطوف، أبو سارة). لكن وسط كل هذه الصراعات تبقى شخوص الرواية يجمعهم هم واحد لا سبيل إلى سواه الآن وهو الهجرة نحو اليونان ومنها إلى الدول الأوربية لتحقيق أحلامهم أو ما تبقّى منها، والتي بقيت مؤجلة تبحث عن بصيص أمل تتشبث فيه، ليكتمل مشهد الرواية عبر قوارب الهجرة إلى المجهول بحثاً عن حياة في حين أن الموت لا يزال يترصد ضحاياه، يهاجر الجميع على زوارق الموت إلا صالح لم يتركه آدم ليركب معهم، ” فالعائدون بعيونٍ شاخصة ومعاتبة يحتاجون لآدم كي يودع عيونهم بآخر حديثٍ معهم ليرقّم جباههم”. هكذا يوحي آدم لصالح بعدما بدأ يسترجع أهم مفاصل ذاكرته المنسيّة.
تهبﹼ رياح الخاطوفة لتغرق معها كل الأحلام وتلتهم جميع الأصوات (صوت الأمن و السلام، صوت العلم والفكر)، ما عدا صوت الشيخ أبي سارة تركه الكاتب دون غرق كدلالة ترمز إلى أن فصائل الشر وأُجراء الفكر الظلاميّ تترك ذيولها في كل مكان وكأنها على موعدٍ دائم للمصافحة مع الخاطوفة ومع أعداء الحياة والثورات والتحرّر؛ حيث لا تزال السلطة و التنظيمات الإرهابية قائمة تهدد هوية الكيان السوري الطامح لسوريا تليق بها دمشق عاصمة حضارية كدأبها منذ تواريخ غارقة في القدم.
لم يبق في المشهد الأخير من فصول الرواية إلا البطل آدم بعد أن خلع رداء صالح واستعاد ذاكرته العميقة ليفاجأ بياسمين ممدة على الرمال، عازماً العودة بها إلى سوريا بكل جهاتها الأربع وزراعتها فيها، فهي ممثلة فيها ومنها وبها وبكل بأشجارها وآبارها، برجالها ونسائها وأطفالها، بسمائها وأرضها. ما يعني أن الكاتب أراد قول الكثير بلغة تضمينية ترسم أمل الحفاظ على الذاكرة السورية العميقة، إذ يستحيل اندثار حضارة الشام وتاريخها الأصيل أو اغتيال ذاكرة غنية بموروثها الشعبي ومشبعة بمفردات الكرز والتين والزيتون والياسمين الدمشقي.
تداخل الدلالات الزمنية
تستدل الرواية ببعض المؤشرات الزمنية التي يتم من خلالها تحريك بعض شخصيات الرواية، لكنها تبقى ذات صبغة هلامية، إذ نجد الكاتب عمد في نصه الروائي إلى تداخل دلالات زمنية، وهي فن إبداعي في عالم الرواية، لكن المفارقة العميقة في التداخل الدلالي والتي يقع القارئ أمامها في حيرة وإيحاء هي شخصية الراوي؛ فقد جاءت مستقلة ظهرت في بداية الرواية ولازمت البطل آدم من قريته المنسية إلى قبوه في إحدى ضواحي العاصمة دمشق، ومع تتالي الأحداث وفقدان آدم لذاكرته في المعتقل اعتزلت عنه وبقيت بشكل ضمني كأصداء مبهمة تصارع البقاء في ذاكرته العميقة على حد قولها: ” وأنا أتجول في ذاكرته وهي تتلاطم كأمواج عاتية “..” وأنا أفتش في ذاكرته عن مكان أستظل فيه بعدما شعرت بانتهاء حياتي من روايته”..”حاولت أن أوثق أي شيء يجول في وجدانه ولم أستطع لأنه لم يمنحني فرصة لذلك”. لتعود للظهور شخصية الراوي بشكل فعلي في المشهد الأخير من الرواية بعد غيابها منذ لحظة اعتقال آدم، وعند ظهور ضمير الراوي في آخر سطور الرواية أشاح آدمُ النظرَ عنه، منشغلاً بمسح الغبار عن وجوه الغرقى ومتجاهلاً ضمير الراوي الذي قرر الغرق في جوف البحر تاركاً آدم وياسمين، بقوله: “عرفت حينها أنه رقم جبهتي مذ ذالك الوقت… شعرت أنني يجب أن أختار الغرق لتكتمل روايته فلا أفسد عليه متعة اللقاء بياسمين”.
كما جاءت في ذات الصدد دلالة ” ياسمين” مموهة وعائمة، حيث تركها الكاتب بلا ملامح وهي بدت كفكرة لازمت بطل الرواية آدم وقت كان يسرد أوراق روايته المتناثرة على مكتبه في القبو الدمشقي وياسمين مُمدّدة على الأريكة الخضراء بضفائرها، لتغيب عن الرواية منذ أن اجتمعا في مظاهرة بحي دمشقي فأُطلق الرصاص عليهم، وانقطعت السبل بينهما باعتقال آدم الذي فقد ذاكرته طيلة الخمس سنوات التي قضاها في المعتقل، وبقيت ياسمين فكرة ضمنية تصارع البقاء في ذاكرة آدم الممزّقة تأتيه على هيئة مموهة يحاول استرداد ملامحها ولا يستطيع، ليجدها في آخر مشهد من الرواية – بعد أن استعاد ذاكرته- ممدة على الرمال دون أي تقديمات من الكاتب كيف وصلت إلى هنا ولماذا؟!، استعاد آدم مع ذاكرته العميقة عدة أشياء كان أهمها أن ذاكرة دمشق عصية عن الموت، ولابد من زراعتها مجدداً بياسمين التي هي رمز للأم والأرض والحبيبة والثورة والحرية والحياة، و الولادة المتجددة، هي سوريا من كل جهاتها الأربع.
البنية السردية للرواية
أظهرت الرواية على مستوى بنيتها وأحداثها تصويراً وسرداً فريداً للمأساة السورية، حيث مزج المبدع بين البناء الفني وواقعية الأحداث ومأساتها، وجاء هذا المزج متوافقاً إلى حد رائع استطاع من خلاله الحسون تحويل نصه الروائي من سياقه الإخباري إلى وظيفته التأثيرية مخاطباً وجدان الإنسان وضميره؛ ليبيّن حجم مأساة المواطن السوري بكل أطيافه ممثلة في شخصية البطل آدم وجواد والعم صطوف والحاج أبي صالح..، ليؤكّد و إن نضبت كل لغات السوريين في العالم ولم يسمع صوتهم أحد فإن الذاكرة العميقة لا تنضب، وستترجمها لغة العيون المعاتبة.
لقد أبدع الكاتب في استخدام الزمن من خلال تقنية الاسترجاع ليربط بين الماضي والحاضر؛ حيث نوﹼع في التشكيل الزمني للأحداث التي جاءت تخالف الترتيب الحقيقي للحكاية في الاستباق، الإلحاق، التواتر، إذ انطلق بنا من ماضي طفولة البطل آدم في حياة الريف بالقرية، حيث حكايا العجائز وقصصهم وما يتناقلونه من موروثات شعبية تغني الماضي الأصيل، و تحمل القارئ عبر بساط الذاكرة الجماعية نحو عبق الاشتياق للزمن الجميل، وقد أظهرت بنية الرواية استحضار مشاهد من الحكايات الشعبية الأسطورية في بدايتها كحكاية الخاطوفة، لينتقل بنا إلى الزمن الحاضر وحياة المدينة بالعاصمة الدمشقية، بداية بيوميات آدم في القبو مروراً إلى حياة المعتقلات، ثم مخيمات اللجوء والاستعداد للركوب في قوارب الهجرة إلى المجهول، ليعود بنا مرة أخرى إلى مشاهدة لوحات من الماضي لطفولة صديقه في مخيّم طواحين الهواء على الحدود السورية التركيّة واسمه ” الأستاذ جواد” الشاعر والمسرحيّ الذي يسرد له حكاية شعبان الأعور وشجرة التوت العملاقة التي ينام تحتها ضريح الولي المزعوم، وفي نهاية الاستطراد يعود بنا الكاتب إلى اللحظة الحديثة التي تسدل آخر مشهد من الرواية حيث غرق الجميع إلا بطل الرواية آدم.
واستطاع الحسون بأسلوبه الفني الجميل وبراعته اللغوية من خلال توصيفاته السردية أن يسلط الضوء على الزوايا المظلمة في وطنه سياسياً واجتماعياً وثقافياً، حيث يقدّم لنا فصلاً من حقيقة مأساة ومعاناة الشعب السوري العريق، معبراً عنها في قالب سردي تتداخل فيها جزالة الفصحى وغنى دلالاتها.
رواية الخاطوفة لأحمد أنيس الحسون تجسد لنا عدّة أبعاد في طيها: بُعداً يرسم مدى العلاقة التي تربط المواطن بوطنه وأرضه، وبعداً يرسم لنا مدى المأساة والمعاناة ( داخل المعتقلات، مخيمات اللجوء، بحار الهجرة و شبح الضياع والموت) التي تكبدها هذا المواطن في سبيل هذا الوطن، وبعداً أبلغ معنى لكل الحالمين بسوريا حرة كريمة، وهو أن ذاكرة الوطن والأرض لن تفنى أبداً، ولن تُغتال، وستظل تقاوم وتجدّد حياتها وقوتها بعد كل محاولة اغتيال.
المصدر: ألوان والفنون للثقافة