أحمد العربي
رغدة حسن كاتبة سورية معارضة كانت قد اعتقلت في سجون النظام السوري في ثمانينات القرن الماضي، بتهمة انتمائها الى حزب العمل الشيوعي، واعيد اعتقالها في عام ٢٠٠٩م لكونها ارادت نشر روايتها نجمة الصبح التي تحكي فيها تجربة اعتقالها السياسي.
كنت بحكم متابعتي لأدب السجون والرواية السورية وخاصة المرتبطة بمعارضة النظام منذ سنوات قد حصلت على معلومة أن هناك روائية سورية هي رغدة حسن قد نشرت روايتها نجمة الصبح قبل سنوات من تاريخ الشهر الثالث من عام ٢٠٢١م. وبحثت عنها وكتبت لها على الواتس آب معرفا بنفسي وانني اود الحصول على روايتها نجمة الصبح على شكل ب د ف لأكتب عنها، وهذا جزء من حقها بالتنوير والتنويه. واستجابت لي قائلة إن الرواية صدرت ولم تجد المتابعة المطلوبة. وان هناك رواية اخرى لها بعنوان “حيث لا دمشق هنا”، ولم تجد من ينشرها، وعدتها أنى سأهتم بموضوع نشرها في دار نشر عربية في اسطنبول، وعدتني أن ترسل لي روايتها نجمة الصبح لأقرأها واكتب عنها. وفي اليوم الثاني تفاجأت بخبر وفاتها، رحمها الله. كان ذلك في ٢٥/٣/٢٠٢١م.
بحثت عن الرواية وحصلت عليها ب د ف وقرأتها وها انا الان اكتب عنها، بعضا من وفاء لفتاة وهبت أغلب عمرها لتكون معارضة للنظام المستبد السوري، حتى آخر لحظة من حياتها.
الرواية التي اكتب عنها هي مزيج متناغم بين الخبرة الذاتية المعاشة للكاتبة كشهادة عما حصل معها ومع جيل معارض واجه النظام السوري عبر عشرات السنين السابقة، إضافة للإبداع الروائي الذي يتناول أدب السجون، حيث أصبح له حضوره الكبير في الرواية السورية والعربية عموما.
تبدأ الرواية من خاتمتها على النمط السينمائي الخطف خلفا. حيث تستقر فرح وزوجها عامر في فرنسا مع طفليهما، بعد رحلة من الاعتقال والمنافي التي انتهت في فرنسا، حيث تتابع طبيبة نفسية ما عاشته فرح، تساعدها في تجاوز ما عانته، وما شكل ندوبا في نفسها.
فرح ابنة الساحل السوري من مدينة جبلة من الطائفة العلوية، تعيش مع والدتها واختها جمال وأخيها ايمن الذين يكبرونها، الأم منفصلة عن الأب وهي تعمل لتعيل اولادها، حيث لا يساعدهم والدهم ابدا. امها نموذج للمرأة العاملة المعطاءة، ربت أولادها على الجد والمثابرة وضرورة التفوق لمواجهة صعاب الحياة. عوض الاولاد امّهم بالجد والمثابرة في تعلمهم وكانوا من المتفوقين دوما. كبرت فرح، بدأت تكتشف قيمة القراءة سواء من مكتبة المدرسة، أو مما يتداوله الاصدقاء. كما بدأ ينضج في ذهنها احساس بالتفاوت الاجتماعي والمظلومية وحضور النظام الأمني، بدأ وعيها بالنضج في أحداث الثمانينات في الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة والاخوان المسلمين والقوى الوطنية الديمقراطية المعارضة وبطش النظام ودمويته. بدأت تتوسع علاقتها مع اصدقائها ومنهم اخوها ايمن في قراءة الكتب اليسارية وتعمقت بموقفها النقدي من الواقع على كل المستويات. توسعت علاقاتها ووجدت نفسها جزء من مجموعة من الشباب والصبايا المعارضين للنظام والداعين للثورة عليه. كانوا يدركون كنه النظام الامني العسكري الطائفي الذي يستغل الطائفة العلوية، وان ذلك لم يخدعهم. ووجدت نفسها بعد وقت منتمية لحزب العمل الشيوعي، ينشطون ويوزعون المناشير و يكتسبون منتسبين جدد.
في عام ١٩٨٦م قرر النظام توجيه ضربته الامنية الاولى لحزب العمل الشيوعي وبدأ باعتقالات واسعة. طالت كوادر كثيرة قيادية، كان منهم حاتم الكادر القيادي المتميز، الذي صنع لنفسه حضورا بطوليا داخل كوادر الحزب، كما انه صمد في التحقيق، وادى ذلك لوفاته تحت التعذيب. وهذا انعكس على الحزب وكوادره بمزيد من النشاط. وبناء خلية خاصة تعمل للانتقام له. ادى هذا لتزداد قسوة الاعتقالات وتوسعها. اعتقلت فرح هي وكثير من الكوادر نساء ورجالا. عذبوا كثيرا وبقسوة كانت مراكز الاعتقال اقرب لجحيم حقيقي. الكل يدخل في امتحان التعذيب واحتمال حصول اعترافات وموت البعض وتحويل البعض للمشافي للعلاج من التعذيب. كان بين المعتقلين الكثير من النساء والرجال من الطائفة العلوية ومنهم فرح واخوها ايمن وسمير صديقهم، كان المسؤولون عن التحقيق وأغلبهم ضباط علويين يعاملون فرح بقسوة ووحشية أكثر، يعتبرونهم خائنين للطائفة العلوية وللسلطة التي تمثل العلويين ومصلحتهم. تواجد في المعتقل حيث فرح ورفيقتها سيرين ورفاقها الكثير من القوى السياسية الاخرى، وحتى بعض التهم الجنائية كالدعارة وتحارة المخدرات أو التجسس لصالح إسرائيل أو المنتمين لمنظمات فلسطينية على صراع مع النظام. او تابع لقوى لبنانية يحاربها النظام. كانوا خليطا كبيرا في جحيم الاعتقال. أحدهم عامر حداد فلسطيني من كوادر الجبهة الشعبية الفلسطينية، يتبع لمجموعة وديع حداد الذين قاموا بعمليات فدائية دولية خطف طائرات وغيرها. اعتقل بسبب خلافات مع النظام السوري وأنهم لا يلتزمون أجندته. عامر مناضل وفي نفس الوقت فنان يرسم، كانت لوحاته موزعة داخل المعتقل، حيث كان رسم مشروع تخرج ابنة ضابط في المعتقل واستطاع الاحتفاظ بالأدوات وبدأ الرسم. واستمر بذلك بحكم الفساد وتعاون بعض السجانين لحصول فرجة في الجحيم الذي يعيشه المعتقلين. حيث يتم استثمار التواصل مع بعض السجانين المتعاطفين مع المعتقلين. وينقلون لهم اخبار اهاليهم وبعض الحاجات الاساسية والمال. زنزانة عامر قريبة من زنزانة فرح كان يراقب من فتحات الباب الصغيرة ذهابها وعودتها للتحقيق. كذلك يسمع صراخها وتألمها من شدة التعذيب، احس اتجاهها بجاذب نفسي، بحث عنها مع السجانين المتعاونين، علم اسمها وتهمتها، وبدأ يبحث عن وسيلة للتواصل معها. خاصة بعد انتهاء التحقيق معها، حيث نقلت الى غرفة جماعية مع نساء أخريات من تهم مختلفة، كانت معها سيرينا رفيقتها بالحزب، بدأت تتأقلم مع أجواء النساء حيث كان منهم نساء معتقلات رهائن عن أحد افراد عائلاتهم مطلوب للأمن السوري. بدأ عامر يتواصل مع نساء المهجع الجماعي، وطلب التواصل مع فرح، كان ذلك شبه مستحيل، لكنه حصل عبر تمرير التصريف بين الغرف، صوتا صاعدا من اعماق الارض، ثم تواصلوا عن طريق سقيفة مهجع النساء المجاورة لسقيفة مهجع الرجال، حيث عملت فرح وعامر بدأب على فتح ثقب بالجدار استطاعا رؤية بعضهم بصعوبة والتحدث بحميمية أكثر. وذلك لساعات طويلة. عرفا عن بعضهما كل شيء عامر الفلسطيني المسيحي المناضل، وهي عرّفت عن نفسها. زادت علاقتها توطيدا وعاهدوا بعضهما على التواصل بعد انتهاء اعتقالهم والارتباط الدائم. استمر هذا الحال الى ان تم ترحيل عامر الى لبنان، ترك لها لوحة رسمها لها خصيصا اسماها نجمة الصبح. كان الإفراج عن عامر وغيابه عن عالم فرح مؤلما لها كثيرا. عمل كل من حولها لتخفيف معاناتها عنها. حاول التواصل معها من الخارج. واستطاع ان يجد بعد المنافذ للوصول لها وانه مازال على العهد. أما فرح فقد تم تحويلها الى محكمة امن الدولة مع رفيقتها سيرينا، كانت محكمة صورية لا معنى لها، لكن انتهت بحكم على فرح وسيرينا لمدة سنتين وكان ذلك مرضيا لهما. حيث لم يحكم أحد من رفاقهم بأقل من خمس سنوات. فترة اعتقالها كانت اكثر من سنتين، قدمت اخلاء سبيل، وبعد وقت اعيدت الى المعتقل الذي كانت فيه اصلا واستمر سجنهم فيه لمدة شهرين وتم إخلاء سبيلها مع سيرينا. ذهبت مباشرة إلى صديق عامر في دمشق كانت تعرفه من خلال عامر سابقا. واخذها الى لبنان حيث يقيم. لأنه ممنوع من الدخول والعيش في سورية. كان لقاء عاصفا و حميميا بين عامر وفرح، استمرت معه ايام ثم توجهت الى امها واختها جمال. حيث كان اخوها ايمن مازال معتقلا مثلها ومحول للمحاكمة ايضا. كان لقاءها مع والدتها مثلجا لقلب الاثنتين وهكذا عادت إلى أسرتها مع انتظار الإفراج عن اخيها ايمن الذي حكم لاحقا ايضا سنتين سجن وينتظر إخلاء سبيله. استمرت فرح بالذهاب بشكل متقطع الى لبنان للقاء عامر، ثم استقرت عنده، واعلنوا ارتباطهم العلني الذي استمر لسنوات وأنجبت فرح ولديها ديتشي وهنيبعل، عاشت العائلة في لبنان عيشة متقشفة جدا. وبدأ يعمل عامر بعض المنحوتات التي أمّنت لهم لقمة عيش متواضعة. استمرت فرح وعامر يعيشان الم الاعتقال وما يحصل بالنسبة للقضية الفلسطينية التي بدؤوا دوليا في حلها عبر ادعاء عملية سلام على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. وكذلك مات الديكتاتور الأب في سورية وجاء بعده الديكتاتور الابن الذي لم يغير أي من واقع القمع والظلم والاستحواذ العائلي الطائفي على السلطة والجيش والأمن في سورية. وما أن بدأ الربيع العربي بالحصول حتى بدأ كثير من الناشطين بالتحرك لصناعة ربيع سوري. كانت فرح وعامر وولدهما اليافعين معهم.، اعتبروا هذه الثورة ثورتهم الشخصية. تم اعتقال عامر وابنه معه وتم ترحيلهم مجددا الى لبنان، كذلك تم تهديد فرح باعادة اعتقالها. وان ما يحصل لا يحتمل التسامح معه. وعادت بعد مضايقات الى لبنان مع زوجها وولديهما. ومن هناك وبعد سنوات من الحصار والضغط حصلا على حق اللجوء إلى فرنسا وانتقلوا إلى باريس وعاشوا هناك. كانت قد توفيت والدة فرح في هذه الفترة ، ودخلت فرح في ازمة نفسية استمرت لشهر تقريبا وثم خرجت منها بسلام. تعيش مع عائلتها في باريس تحلم ان يسقط النظام المستبد الظالم في بلدها ويتم بناء دولة الكرامة والعدالة والديمقراطية والحرية.
هنا تنتهي الرواية.
في قراءتها اقول:
اننا امام رواية اخرى تنضمّ إلى العديد من الروايات -الشهادات- عن واقع الظلم والاستبداد والتضحيات التي قدمها الشعب السوري وشبابه المناضل من اجل الحرية والديمقراطية والعدالة عبر عشرات السنين، ومن كل المشارب الفكرية والسياسية من اليساريين والقوميين والإسلاميين واللبراليين..الخ. ومن عموم الشعب المظلوم الذي قدم حياته واغلى ما يملك؛ حريته وبعض عائلته وغامر بالعمل لإسقاط النظام المستبد الظالم الممتد حكمه لنصف قرن، والذي جعل من الدولة مزرعته الخاصة ومن الشعب عبيده. كان ثمن الثورة غاليا جدا الى الان فقد قتل النظام أكثر من مليون إنسان سوري، ومثلهم معتقلين ومصابين، واكثر من نصف الشعب السوري ثلاثة عشر مليون إنسان مشرد بين الداخل والخارج السوري ، مع تبعياته من خسارة ممتلكاتهم وأعمالهم وانقطاع الكثير من أولادهم عن متابعة تعلمهم. نصف سورية مدمر، ومحتل من الروس والايرانيين والمرتزقة الطائفيين حزب وغيره من العراق وأفغانستان.. الخ. كذلك سيطرة ال ب ي د حزب العمال الكردستاني الانفصالي على شرق الفرات والشمال الشرقي السوري برعاية امريكية. لقد أصبحت سورية محتلة ومقسمة وغارقة بفقرها وفاقتها… هذا مافعله النظام المستبد المجرم الطائفي في سورية.
أخيرا: أني في قراءة رواية نجمة الصبح للراحلة رغدة حسن، أعبر عن وفاء متواضع لمناضلة رهنت حياتها حتى وفاتها بالمرض الخبيث لقضية الشعب السوري والمطالبة بحقوقه؛ الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل.