مارتن إنديك
يجب على واشنطن أن تدير بفاعلية نزاعًا لا يمكنها إنهاؤه، فحسب. فقد دخلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المنصب وهي تتوقع تبني نهج أقل استباقية تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من العديد من سابقاتها. وكان هذا النهج قيد العرض في مؤتمر صحفي حول جائحة “كوفيد -19” عُقد يوم الأربعاء -بعد أربعة أيام من بدء الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس. وفيه، تلقى بايدن سؤالاً حول الصراع، وأجاب بصراحة بأنه تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وبأنه يأمل أن ينتهي القتال “عاجلاً وليس آجلاً”. وبشكل منفصل، أعلن وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكين، أيضاً أنه كان على اتصال مع نظيره الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن). كما أشار إلى أنه سيرسل هادي عمرو، وهو مسؤول متوسط المستوى من ذوي الخبرة، إلى إسرائيل ليكون على تواصل مع الأطراف.
في هذه الأثناء، تحترق الأرض في غزة، والمدن الإسرائيلية تعصف بها الهجمات الصاروخية الليلية، فضلاً عن اندلاع العنف الطائفي اليهودي-العربي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ إسرائيل. وترتفع أعداد القتلى المدنيين من كلا الجانبين، بما في ذلك بين الأطفال. وتدعو قاعدة بايدن الديمقراطية التقدمية بشكل متزايد واشنطن إلى تكثيف جهودها -ليس لوقف القتال الدائر فحسب، وإنما أيضًا لوضع نهاية للصراع جملة وتفصيلاً.
وقد رأينا حروب إسرائيل وحماس من قبل –كانت كانت في العام 2014- ونعرف كيف ستسير الأمور. ستقوم حماس، بمساعدة حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية المدعومة من إيران، بإطلاق صواريخها بشكل عشوائي على المدن والبلدات الإسرائيلية. وسوف تنتقم إسرائيل بشكل غير متناسب. وسوف تدعم الولايات المتحدة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وستلوِّح أوروبا بإصبعها في وجه إسرائيل. وستقرر حماس في النهاية أنها أوضحت وجهة نظرها. وسوف تتوسط قطر ومصر لوقف إطلاق النار على أساس اتفاق “الهدوء مقابل الهدوء” المعتاد. ثم سيقوم الطرفان بدفن موتاهما وإزالة الأنقاض والعودة إلى العمل كالمعتاد، بينما يستعد الجيش الإسرائيلي وكتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس للجولة التالية من القتال.
يشير النهج الذي اتبعته إدارة بايدن حتى كتابة هذه السطور إلى أن واشنطن ستكون مرتاحة بقبول هذه النهاية غير السعيدة. فهي لديها أولويات أخرى أكثر أهمية. ويكفي مجرد سرد هذه الأوليات -الوباء، التعافي الاقتصادي، تغير المناخ، صعود الصين، وطموحات إيران النووية- لتوضيح هذه النقطة. ويدلُّ إذعان الرئيس الأميركي للجدول الزمني الذي وضعه نتنياهو على هذا التغيير في النهج، الذي تُترك فيه الأطراف للتعامل مع الصراع بينما تتحول الولايات المتحدة عن هدف إنهائه إلى مجرد تهدئة مظاهره الأكثر عنفًا.
هل ينبغي أن يحاول بايدن فعل المزيد؟ بعد كل شيء، كل أزمة تخلق فرصة. فهل يمكن أن تنتج الظروف هذه المرة لحظة توتر وانعطاف، والتي إذا زادت واشنطن انخراطها فيها فقط، فإن الولايات المتحدة تستطيع أن تحقق تقدمًا نحو هدفها المعلن المتمثل في تحقيق حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟
حقائق، وليس أولويات
الجواب، للأسف، هو لا. إن الوضع الراهن يناسب كلا الجانبين بشكل جيد جدًا وليس لأي منهما مصلحة في تغييره. لكن حماس استاءت من إلغاء الانتخابات الفلسطينية التي كانت تأمل في أن تتمكن من خلالها من توسيع نفوذها ومده إلى الضفة الغربية؛ ولذلك استغلت التقاء هذا الإلغاء مع اندلاع للمواجهات اليهودية العربية في القدس الشرقية لمحاولة بسط نفوذها هناك بطريقة أخرى بدلاً من الانتخابات. وقد فعلت ما لم يكن من الممكن تصوره في السابق، فأطلقت الصواريخ باتجاه القدس. وأثار هذا بدوره غضب نتنياهو، الذي كان قانعاً بحكم حماس في غزة، ولكن ليس في الضفة الغربية، وبالتأكيد ليس في القدس الشرقية.
ومع ذلك، كانت أهداف كلا الجانبين في هذه الجولة محدودة للغاية. من جهتها، أملت حماس في تعزيز مكانتها بين الفلسطينيين؛ وعلى الجهة الأخرى، أملت إسرائيل في إعادة تأسيس ردعها ضد هجمات حماس على مواطنيها. ولا يهتم أي من الطرفين بجعل الولايات المتحدة تتوسط في التوصل إلى حل قائم على مبدأ الدولتين. فحماس ملتزمة بحل الدولة الواحدة التي لا يكون لإسرائيل وجود فيها. ونتنياهو ملتزم بحل الدول الثلاث، حيث تحكم حماس في غزة، وتسيطر السلطة الفلسطينية على جيوب في الضفة الغربية.
ويود الطرف الثالث في هذا الصراع -أبو مازن- أن يرى الولايات المتحدة وهي تنخرط من جديد، لأن ذلك سيكون من شأنه أن يجعله ذا صلة مرة أخرى. وقد انتظر، على مدى أربعة أشهر، أن يتلقى مكالمة هاتفية من بايدن من دون جدوى؛ ثم أذِنت الأزمة الحالية أخيرًا بتلقيه مكالمة من وزير الخارجية الأميركية. لكن لدى المفاوضين الأميركيين خبرة كافية مع أبو مازن ليعرفوا أنه ليس في وضع يسمح له بقبول تقديم التنازلات الضرورية لتحقيق حل الدولتين. الآن، وهو في سن الخامسة والثمانين، في العام السابع عشر من ولايته الرئاسية التي كان يفترض أن تكون أربع سنوات، والتي ترأس فيها، اسميًا، كياناً حكوميًا شديد الانقسام والذي سيُدانُ فيه من قبل حماس كخائن على أي تنازل يقدمه لإسرائيل، يعتزم أبو مازن الدخول في كتب التاريخ كقائد رفض المساومة على الحقوق الفلسطينية أو التنازل عنها.
قبل أن يندلع هذا الصراع الأخير، كان هناك أمل في أن يتم تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل، والتي تضع حداً لحكم نتنياهو. كان يائير لابيد (رئيس حزب “يش عتيد”)، ونفتالي بينيت (رئيس حزب “يمينا”) على وشك تشكيل تحالف من اليسار والوسط واليمين، والذي سيعتمد على دعم الأحزاب العربية لكسب أصوات الأغلبية معًا لتأمين الثقة. وعندئذٍ، اندلعت موجة صادمة من أعمال العنف الغوغائية بين اليهود والعرب، وامتدت من القدس إلى مدن إسرائيلية أخرى. وسوف يؤدي هذا القتال، على الأقل، إلى تعقيد مهمة تشكيل حكومة بشدة. وتبدو إسرائيل الآن أكثر احتمالاً للذهاب إلى إجراء انتخاباتها الخامسة خلال عامين، وبعد ذلك الوقت سوف تذهب أي مرونة ربما تكون قد نشأت عن الأزمة الحالية إلى مزيد من الصلابة.
وحتى لو ثبت أن هذا التوقع خاطئ وظهرت حكومة وحدة وطنية، فإن أول رئيس لوزرائها سيكون نفتالي بينيت. ومن بين قادة إسرائيل، يُعرف بينيت بأنه الأشد معارضة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، والسياسي الأكثر إخلاصاً وحماسة لفكرة ضم الضفة الغربية.
بعبارات أخرى، يبدو أن الغرائز الأساسية لإدارة بايدن صحيحة. إن هذا الصراع يتطلب إدارة، ببساطة لأن الشروط اللازمة لحله غير موجودة. للأسف، لا يتعلق هذا الأمر بالأولويات. إنه يتعلق بالحقائق القائمة. وكان وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، قد اختبر الاقتراح القائل إن قوة الإرادة الأميركية وحدها يمكن أن تغير تلك الحقائق، لكنه عجز عن تحقيق الهدف. وحاول جاريد كوشنر، بصفته مستشارًا كبيرًا للرئيس الأميركي دونالد ترامب، معاقبة الفلسطينيين ومنح إسرائيل شيكًا على بياض، ولم ينجح ذلك أيضًا.
الضغط على الدواسات للمضي إلى الأمام
ومع ذلك، فإن إدارة الصراع لا تعني الابتعاد عنه، كما أشارت إدارة بايدن عن غير قصد منذ البداية إلى أنها أرادت أن تفعل. لم تقم واشنطن حتى الآن بتعيين سفير في إسرائيل (ولو مؤقتاً)، أو قنصل عام في القدس للتعامل مع الفلسطينيين. ولو أنها كانت قد فعلت، لزاد احتمال أن تكون في وضع أفضل لتفادي اندلاع العنف في المقام الأول. بدلاً من ذلك، تُركت الإدارة لمسؤول متوسط المستوى ويفتقر إلى الموظفين في وزارة الخارجية. وتستحق إدارة بايدن الثناء لتدخلها على مستوى أعلى لحمل نتنياهو على وقف عمليات إخلاء الفلسطينيين ومسيرات اليهود المتطرفين وعنف الشرطة الإسرائيلية في القدس الشرقية. وحتى مع أن هذه الوساطة أثبتت كونها قليلة جداً ومتأخرة جداً، إلا أنها أظهرت فعالية الانخراط الأميركي رفيع المستوى وفي الوقت المناسب.
الآن، من المرجح أن تكون هناك حاجة إلى مزيد من التدخل رفيع المستوى لحمل كلا الجانبين على التراجع. ويبدو أن حماس مستعدة للقيام بذلك مسبقاً. وفي الأيام المقبلة، بمجرد أن ينتهي الجيش الإسرائيلي من تدمير البنية التحتية لحركة حماس والقضاء على أكبر عدد ممكن من قادة جناحها المسلح، من المحتمل كثيراً أن يكون نتنياهو مستعدًا لذلك هو أيضًا. وبما أنه عادة ما يكون حذرًا، فإنه لن يرغب في دخول انتخابات خامسة بينما تكون هناك حرب محتدمة. وهو يتعرض للوم مسبقاً عن التسبب في تعطيل الحياة الإسرائيلية.
ولكن، بمجرد أن تهدأ النيران الحالية، سوف تحتاج إدارة بايدن إلى إدارة الصراع بطريقة تساعد على خلق أفق سياسي للفلسطينيين -أفق يمنحهم الأمل في أنهم سيتمتعون في النهاية، مثل الإسرائيليين، بـ”مقادير متساوية من الحرية والأمن والازدهار والديمقراطية” التي وعدهم بها وزير الخارجية بلينكن مؤخرًا. وسيكون تجميد نمو المستوطنات الإسرائيلية، وخاصة إيقاف الجهود المبذولة لإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية الاستيطانية، بداية جيدة. وسيكون الضغط على إسرائيل لتجنب عمليات الإخلاء وهدم المنازل في القدس الشرقية أمرًا مهمًا أيضًا.
وعلى الجانب الفلسطيني، يجب تشجيع
أبو مازن على إعادة تحديد موعد لإجراء الانتخابات. كان الفلسطينيون متحمسين لفرصة التصويت لقيادتهم لأول مرة منذ 15 عامًا. وقد أسهمت خيبة الأمل التي شعروا بها عند إلغاء الانتخابات في تفجر العنف. وخلال الاستعدادات السابقة لتلك الانتخابات، تبنت إدارة بايدن موقفًا محايدًا. وهذه المرة، ينبغي أن تحث لجنة الانتخابات على توضيح أن المرشحين الذين ينبذون العنف فقط هم الذين يمكنهم الترشح، كما هو منصوص عليه في اتفاقيات أوسلو. وعليها أن تُلزم إسرائيل بتنفيذ التزامها المنصوص عليها في تلك الاتفاقات أيضاً بالسماح لعرب القدس الشرقية بالتصويت.
كما يُظهر هذا الاندلاع الأخير للعنف، فإن إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أشبه بركوب دراجة هوائية: إذا لم تضغط على الدواسات وتسير إلى الأمام، فإنك ستسقط. وعند الخروج من هذه الأزمة، سوف تحتاج إدارة بايدن إلى تعزيز عملية تساعد على إعادة بناء الثقة والأمل في تطبيق حل الدولتين. وبالنظر إلى التضاريس الوعرة، سيكون التقدم على هذا الطريق بطيئًا وتدريجيًا بالضرورة. ولكن، في ظل الظروف الحالية، فإن عملية تدريجية تجري خطوة خطوة ستنطوي على وعد أكثر من إدارة الوجه والنظر بعيدًا، أو اتباع أغنية الحوريات المغوية التي يشكلها السلام النهائي.
*Martin Indyk: هو زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية، ومبعوث أميركي خاص سابق للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ومؤلف الكتاب القادم “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط” Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The U.S. Can Neither Ignore nor Solve the Israeli-Palestinian Conflict
المصدر: (فورين أفيرز) / الغد الأردنية