عبدالرحيم خليفة
محمد خليفة يكبرني بحوالي 15 سنة، وهو فارق كان كفيلًا بأن يجعلني أتأثر به كثيرًا، وأكون مشدودًا إليه، لحضوره الطاغي في الأسرة ومكانته الكبيرة بيننا، حتى لدى والدي الذي وقف حائلاً بينه وبين طموحاته الكثيرة والمتعددة، في مجالات الأدب والفن والتحصيل العلمي والنضال السياسي.
شكل محمد، لي، نموذجًا يحتذى ويقتدى به، مع مراحل تشكل شخصيتي في مقتبل العمر، بين نهايات المرحلة الابتدائية وسنوات المرحلة الاعدادية، وهي الفترة التي كان لايزال يقيم فيها معنا، نحن أهله وأسرته، في سورية/ حلب، قبل أن يغادرها، في بدايات شباط/فبراير 1981، طوعًا وكرهًا، لتكون محطته الاولى بيروت/ لبنان في مشوار التشرد والبعد والهجرة، حتى رحيله عن دنيانا في السويد/ استوكهولم 22_ 04_ 2021.
التأثر والانشداد اتخذ فيما بعد أشكالا مختلفة تجاوزت شخصه كنموذج لتتخذ طابعا صداقيا، ورفاقيا كفاحيا، في مسيرة نضال وعمل مشترك، كل من موقعه، استمر بيننا لحوالي أربعة عقود.
محمد هو الأكبر بيننا، نحن الاخوة الأشقاء، وأنا الأصغر ما جعل ظله ورافا ومخيما علي بنتيجة المشتركات التي نمت بيننا دونا عن الشقيقين الآخرين، التي كانت لهما طرقا أخرى مختلفة في مسيرة حياتهما.
الصورة الاولى:
صيف العام الدراسي 1977_ 1978 كنت قد نجحت للصف السادس الابتدائي طلبت منه أن يعطيني كتابا لأقرأه، وكنت قد بدأت أعي اهتماماته الأدبية، وانحيازاته الثقافية والفكرية ونشاطه السياسي والنضالي، فبحث في مكتبته الضخمة وجال في نظره بين رفوفها، التي يغلب عليها الفوضى، ومد يده ليناولني قصة (التراب الحزين) للدكتور بديع حقي وعلى ما أذكر أنها كانت مقررا، ككتاب مطالعة، في المنهاج الدراسي لأحد صفوف المرحلة الثانوية.
قرأت القصة، مع قصص أخرى، أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت دموعي تزرف حزنا وألما وتأثرا، وهي تحكي عن طفل فلسطيني نازح حاول التسلل لبيارات البرتقال التي اغتصبتها العصابات الصهيونية ولم تفلح محاولته فأردته طلقات الموت شهيدا وهو يحتضن حبات البرتقال الذي اصبطغ لونها بالأحمر القاني، الطاهر الذكي.
كان اختياره ذاك ذو عبرةً ومغزاً فهمتهما فيما بعد، وبالطبع سألني عن ماخرجت به من الرواية، فلسطين… الأرض… الشهادة، ومعاني أخرى كثيرة.
الصورة الثانية:
بين سنوات 1978_ 1981 لاحظ اهتماماتي وتأثري به فبدأ يمنحني كثيرا من الثقة، مع تحذيره الدائم بأن تبقى الأمور بيننا سرا، دون معرفة الأهل أو الأصدقاء، كإيصال ظرف مغلق لأحد الأخوة (م_ ال)في داخله وثائق أو منشورات تخص التنظيم ( تنظيم الطليعة العربية وفرعه السوري التنظيم الشعبي الناصري)، أو جلب شيء ما من عند أخ آخر( ع_ خ)، أو تسليم شيء ما لأخ سيحضر الى بيتنا في غيابه لاستلامه، أو مساعدته في حمل كراسي مستأجرة لمؤتمر أو معهد إعداد حزبي وشراء الخبز باكرا للمجتمعين، في منزل أحدهم، في مؤتمر أو معهد، وإيصاله للمكان المحدد، أو في إخفاء وثائق مهمة مع اشتداد الصراع بين الاخوان المسلمين ونظام الأسد الأب ومعرفتي بمكانها دونا عن الآخرين من أفراد الأسرة، وبعضها يعود لقوى سياسية صديقة (رابطة العمل الشيوعي)عدا عن كوني الوحيد المسموح له بدخول حجرته أثناء الاجتماعات شبه اليومية والطويلة نسبيا.
الصورة الثالثة:
اشتد العنف بين النظام وجماعة الاخوان في ربيع 1980 وحوصرت حلب وبدأ تفتيشها حيا حيا، ومنزلا منزلا.
من شرفة منزلنا في حي الموكامبو في حلب تصل لنا أعمدة اللهب المشتعل من الجهة الاخرى للمدينة وتصل روائح المواد المشتعلة وسحب الدخان الكثيف مع تضييق الخناق على المدينة وحصارها، يقف (أبو فراس) كما كان يحب أن ينادى، تيمنا بالشاعر العظيم أبو فراس الحمداني، يطلب مني أن أشتري له كمية كبيرة من دخانه المفضل (الكنت الأميركي الورقي الطويل)، قبل أن تقفل المحال التجارية أبوابها، ويبدأ نقاشا في البيت بينه وبين أبي، رحمهما الله، على ضرورة إنزال صورة عبد الناصر من على الجدار فوق سريره واخفاء بعض الكتب أو اتلافها أو حرقها، لكي لا تكون دليلا على جرم مشهود، أو موصوف، ولكنه يرفض بإصرار وعناد شديدين وقد تملكنا جميعا الرعب من القادمين والمجهول الذي ينتظرنا مع أنباء الاعتقالات والقتل العشوائي.
اكتفى بعد طول تفكير بكيس كبير عهدني بنقله بمساعدة أحد أبناء عماتي، اسماعيل خليفة، الذي رحل عن دنيانا هو الآخر قبل سنوات، وكان مقربا جدا منه، من خلال شاحنة نقل يملكها وخبأنا ما أعطانا اياه في أحد الآبار الجافة في قريتنا المحاذية للمدينة، مع اكتمال الحصار والطوق الأمني وانتشار الحواجز ودخول الدبابات للمدينة وتمركزها عند كل منعطف وفي بداية ونهاية كل شارع.
يقف أبو فراس أمام مدخل البناية التي نقطنها يدخن بشراهة لا حدود لها، يديه خلف ظهره، ينظر جهة المدينة تارة والى السماء تارة آخرى، ربما، أدركت يومها أن أبو فراس يفكر عميقا بشيء ما…!!
الصورة الرابعة:
قبل مغادرته لسورية بحوالي الشهر طلب مني شراء بعض الأكياس الكبيرة، من منطقة باب الفرج المعروفة وسط المدينة، وبعد أن فعلت ذلك سألته لماذا هذه الأكياس وماذا ستفعل بها، أجابني: سأخبرك فيما بعد.
قبل مغادرته الأخيرة لحلب بأيام قليلة انتحى بي جانبا في غرفته الخاصة، التي شاءت الأقدار والترتيبات المنزلية أن تكون غرفتي وأن يكون سريره سريري وطاولته طاولتي، مع المكتبة التي إئتمنني عليها.
في الحديث الذي طال بيننا، قال لي بصوت منخفض لم يعد هناك من داع للأكياس، لقد قررت الرحيل ولو قمنا بحزم الكتب ووضعها في الأكياس سيثير ذلك ريبة وفضول أمنا وأبانا.
انتبه للمكتبة واحرص عليها ولا تفرط بها أو تسمح لأحد بالعبث بها.
تلك كانت اولى وصاياه…
كتب لي على ورقة صغيرة بخط يده أسماء وأرقام هواتف بعض الأصدقاء ان احتجتهم، بعضهم أطباء لأي طارئ صحي، خصوصا للوالدة رحمها الله، (مضر صقال_ محمود العريان) وبعضهم مدرسين لمساعدتي في دروس خصوصية لمادتي اللغتين العربية والانكليزية (حسام الدين كردي_ هشام نيازي)، وقال لي ثق بالأخ (أ_ أ_ ف) وابقى على تواصل معه، وكان ذلك بداية صلة وصل بمحيطه وعالمه، الذي بدوره عرفني على الأخ المرحوم، الشهيد باذن الله، وديع شعبوق/ أبو علاء الذي ألزمني فيما بعد بالتنظيم الشعبي الناصري وأنا فتىً يافعاً في مرحلة من أخطر المراحل الأمنية في تاريخ سورية الحديث، حتى حينها، يملأني الحماس والثقة بالنفس والاعتزاز والفخر.
تلك كانت رغبته التي أرادها لي، دون قسر أو اكراه، أو إلحاق وتبعية، ليكون ذلك مسارا لحياتي، منهجي وسلوكي.
الصورة الخامسة:
غادر حلب في يوم جمعة في بداية شهر كانون ثاني/ يناير 1981، صباح ذلك اليوم أرسلني الى عند الاخ رجاء الناصر/ أبو طلال، رحمه الله ان كان حيا في قبر أو سجن، والذي كان يسكن في حي قريب من حينا، لاتستغرق المسافة مشيا على الأقدام أكثر من عشرة دقائق، وأحضرت له من عنده مبلغا بسيطا، لا أذكره بدقة، عرفت فيما بعد أنه آخر مرتب شهري له من التنظيم الذي كان مفرغا له في السنوات الأخيرة من حياته النضالية في سورية.
حزم حقائبه ورغم الهدوء الذي كان باديا عليه الا أنه كان في داخله حزينا، ومتوترا، لأن الأمر بقي سرا عن الجميع، وبقراره المغادرة بدأت صفحة جديدة من حياته الحافلة بالعطاء والنضال والتضحية.
نسي رواية (لكع بن لكع) لأميل حبيبي التي اختارها للقراءة في رحلته، ربما، للمتعة وليروي شغفه بالقراءة وتمضية الوقت الثقيل الذي سيمر بين حلب وبيروت …لحقت به مسرعا، بعد أن انتبهت أنه قد نسيها، وهو يهم بركوب سيارة أجرة توصله الى مركز انطلاق السيارات العامة نحو لبنان: قبلني قائلا لاتنسى ما أوصيتك. !!
الصورة السادسة:
محمد خليفة في بيروت يعيش تجربة الاجتياح والحصار وخروج المقاومة الفلسطينية ومجازر صبرا وشاتيلا …تنقطع الأخبار عنه تماما، الى أن وصلت رسالة منه مكتوبة بخط يده عبر صديق جاء الى حلب واتصل بنا… استلمتها منه وقرأتها أكثر من مرة ناحبا باكيا، وفخورا به، قبل أن أعود الى البيت وأطلع باقي أفراد أسرتنا عليها، قال فيها، فيما قال: أن ما حصل لبيروت سيتكرر لعواصم أخرى، وان لم يصح العرب ويتعظون ويعدون ما استطاعوا من القوة سيصل الصهاينة الى مكة المكرمة ومثوى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد تحققت نبؤته بمعنى ما…
عندما خرج من لبنان واحتلت بيروت، وبمساعدة الاخوة الفلسطينيين، دخل الى سورية خلسة بوثيقة سفر فلسطينية، سافر بها عبر مطار دمشق الى طرابلس الغرب/ ليبيا حيث حصل على جواز سفر ليبي باسم (محمد مصطفى المهدي) وبقي معه حتى حصوله على اللجوء السياسي في السويد ربيع 1992.
في مروره بدمشق مكث لساعات في بيت الاخ المغيب رجاء الناصر في دمشق، وبعد اقلاع طائرته جاء أبو طلال الى حلب حاملا رسالة منه تفيض في معاني الثورة والاستعداد للتضحية، طالبا من أمي وأبي الدعاء له ومسامحته على ماتسببه لهم من ألم وحزن، قائلا “لاتحزنوا ولا تهنوا وأنتم الأعلون”.
راجيا لقاءهم قريبا في مكان ما.
الصورة السابعة:
آب/ أغسطس 1983 أرسل لي، عبر صديق، ثمن تذكرتي سفر لزيارته، أنا وشقيقتي، في اليونان/ أثينا التي استقر فيها ومكث فيها حتى مغادرته للسويد في 1992.
عندما خرجت من مطار أثينا بحثت عنه بين وجوه المستقبلين فلم أجده، انتظرت طويلا لكني لم أعثر عليه، ولم نلتق به، رغم علمه بموعد وصولنا، وحديثي معه تلفونيا من مطار دمشق قبل إقلاع الطائرة، وتأكيد موعد وصولنا.!!
استبد بنا القلق، شقيقتي وأنا، وبطريقة ما وبعد عناء تفكير اهتديت لطريقة أوصلتني اليه والى منزله، من خلال عنوان أحد الأخوة والأصدقاء الذي كان بحوزتي .
كان مامر من سنوات كفيل بأن لا يعرفنا أو نتعرف عليه، فقد كان بانتظارنا حتى مل الانتظار وعاد لبيته مخمنا أن شيء ما حدث في مطار دمشق ولم نتابع الرحلة الى أثينا.
تغيرت ملامحه وتغيرت ملامحنا…نحن بحكم دخول مرحلة الشباب والتبدلات الفيزيولوجية
وهو بعوامل الزمن وقسوته.
الخروج من بيروت أصابه بحالة انكسار روحي ووجداني، كما شكل له منعطفا حادا …
بقي مشدودا لبيروت في حله وترحاله…
عندما وصلت لمنزله وقابلته مرت دقائق موجعة وقاسية قبل أن يستوعب كل منا
ماحصل.!!
الصورة الثامنة:
أيلول/ سبتمبر 1986 تعرض التنظيم الشعبي الناصري لضربة استئصالية طالت المئات من كوادره، مما اضطرني وبعض الأخوة الآخرين الى الهرب والتواري في لبنان.
عدا عن كل مخاوفه علي من الاعتقال وتأثره بما جرى وهو على معرفة وثيقة بعدد كبير ممن طالهم الاعتقال، وعدا عما بذله من جهود في حملة إعلامية كبيرة وحملة ضغط على النظام السوري، عدا عن كل ذلك وهو ما يهمني هنا، فقد اتصل بالأخ الاستاذ حسن صبرا رئيس تحرير مجلة الشراع، وصديقه وزميله على مدى أكثر من أربعة عقود، ليبلغه أن يعطيني ما أحتاجه وأطلبه من مستحقاته المالية، علما أن دخله ومصدر رزقه الوحيد هو ما كان يحصله من قلمه.
مساعدتي ومساندتي ماديا بدأت منذ مغادرته لسورية، وحتى قبل ذلك عندما كان لايزال بيننا، واستمرت حتى عام 1994 عندما وصلت لرومانيا وبدأت العمل ما أتاح لي استقرارا أعفاه من مسؤوليته تجاهي.
أزعم بعد كل تلك السنوات، وبكثير من الموضوعية، بان لدعمه المادي، والذي أغناني عن طلب أي شيء من والدي، كان له كبير الأثر في حياتي، وربما استقلاليتي، أمام الضغوط الاجتماعية والأسرية التي حاولت أن تحد من اندفاعي وانغماسي في الشأن العام.
لم يقتصر الأمر على تكفلي ماديا، بل ومعنويا بوقوفه بلا حدود الى جانبي في قصص صراع وخلاف أسروي بعضها ذات صلة بعملي السياسي، واقتفاء أثره، وتتبع خطواته، وهو ما أرعب أبي، رحمه الله، الذي تعرض مرارا للاستدعاء والتحقيق والسؤال.
مثل لي، محمد، على الدوام الشقيق والأب والمسؤول والموجه والمرشد.
الصورة التاسعة:
بعد طول عناء للحصول على فيزا سياحية الى اليونان/ أثينا وصلت في بدايات شهر أيلول/ سبتمبر 1990 بصفة مراسل صحفي لمجلة الشراع اللبنانية، بعد حصولي على كتاب رسمي من الأخ والصديق الأستاذ حسن صبرا، رئيس التحرير، موجه إلى السفارة اليونانية بدمشق…
تزامن مع وصولي لعند محمد/ أبو خالد الى أثينا عودة الرئيس أحمد بن بلة الى الجزائر الذي عمل معه أبا خالد لعدة سنوات وأصدر كتابا عنه(حوار معرفي شامل) الذي طلب منه مرافقته ولكنه اعتذر استعدادا لاستقبالي، واللقاء بي، بعد أن حالت الظروف من عدم تمكننا من اللقاء لعدة سنوات.
بقيت عنده مايقرب من ستة شهور قبل أن أعود الى سورية/ حلب ويحزم هو حقائبه مغادرا اليونان لاجئا الى السويد …
في هذه الأثناء، مع بداية كانون الأول/ ديسمبر رزقه الله بابنه خالد، بعد ربى التي ولدت في باريس، وكان آخر مارزق به، آخر العنقود، رؤى التي أبصرت النور في استوكهولم/ السويد …
كانت شهور عصيبة تجري فيها التحضيرات لحرب إخراج العراق من الكويت، من خلال قوات التحالف الدولي في حفر الباطن في السعودية والتي كان صدام حسين قد دخلها فجر 2 أغسطس/ آب.
سهرنا ليلة انتهاء المهلة الدولية لخروج العراق من الكويت، والتي رفضها العراق كما هو معلوم، يوم 15 يناير حتى الفجر بانتظار ساعة الصفر بصحبة صديقنا العزيز محمود خزام، ولكن الضربات لم تقع والحرب لم تبدأ.
في الليلة التي تلتها، 16_ 01 بدأ العدوان مع ساعات الفجر…أيقظني من نومي قائلا بدأت الحرب…!!
يستمع أبو خالد الى محطة CNN وهو يدخن دون توقف يقطع غرفة الجلوس ذهابا وايابا بتوتر وقلق واضطراب باديين…!!
استبدت بنا حالة من الخوف من القادم والمجهول…
بعد أيام بدأت حملة أمنية واسعة في اليونان طالت العشرات من العرب، الذي رحلتهم السلطات بشكل تعسفي، وغير قانوني، وكانت منظمة 17 نوفمبر اليسارية (المتطرفة) نفذت عدة عمليات ضد مقر حلف الناتو والسفارة الأميركية.
في هذه الأجواء المتوترة جلسنا أنا وهو، ولم يكن في البيت من أحد سوانا، وتحدثنا طويلا عن مخاوفه وقلقه من عدم حيازة جواز سفر يمنحه الأمن والحماية ويخوله تسجيل أولاده في قيود صحيحة وقانونية… حكى لي عن عزمه بعد مغادرتي شد الرحال الى السويد.
يوم عودتي اعتذر عن مرافقتي للمطار، وقدم لي هدية كتاب (الديمقراطية وحقوق الانسان في الاسلام) لراشد الغنوشي وكتب عليه عبارته المكررة في كل ما أهداني من كتب وهي بالعشرات: أقل من هدية وأكثر من رمز.!!
اكتفى بوداعي من على مدخل بيته في حي غليفادا الراقي الذي يقطنه الدبلوماسيين والأجانب وتقع في محيطه القواعد الأميركية، وتكفل ايصالي للمطار الأخ والصديق الراحل أحمد شاهين، أو أحمد جمول، رحمه الله، أحد أهم مؤسسي رابطة العمل الشيوعي الذي شكل موته في الجزائر في شقته، وحيدا، فاجعة من فواجع السوريين، وتغريبتهم القسرية المبكرة، ومحنة نخبهم الوطنية المشردة في أصقاع الأرض …
ودعته بالقبل وبعناق حار، أمام منزله، لكنه فورا استدار مسرعا دون تلويحة وداع، أونظرة عن بعد، أو كلمة واحدة…
استدار وغادر مسرعاً.!!
في الطريق من منزله للمطار كان الحديث مع الراحل الكبير أحمد شاهين عن الغربة والهجرة …الوطن والأحلام العصية…
مواعيد للقاءات لم تتم …وأمنيات مجهضة لم تتحقق.
رحمهما الله…
الصورة العاشرة والأخيرة:
1992مع بداية شهر أيلول/ سبتمبر أصبحت مطلوبا للجهات الأمنية بتهمة تقديم مساعدات مالية لأسر ومعتقلي التنظيم الشعبي، فاتصلت به مسرعا وأبلغته بالأمر، قال لي غادر فورا الى الجزائر، أو مصر، وسأتكفلك…
غادرت الى مصر/ القاهرة وبقيت هناك حوالي السنتين، وفشلت أكثر من محاولة للالتحاق به الى السويد، لاجئا، وكان ذلك متعب له جدا.
1993 قرر أداء فريضة الحج فأبلغني أنه اشترى تذكرة سفر فيها عدة ساعات ترانزيت في مطار القاهرة لنلتقي وهو ماحصل…
حمل لي معه مبلغا كبيرا (3000) دولار أميركي قائلا احتفظ بهذا المبلغ لتتدبر أمور حياتك، فقد لا تجدني دوما الى جانبك، هذا نصف ما أملك، تركت مثله لي ولأسرتي، وكانت قد وصلت لتوها الى السويد بعد انتظار، في سورية، لمدة زادت عن عاما كاملا، حتى استكملت اجراءات لم الشمل بموجب القوانين والأنظمة المرعية، بعد حصوله على اللجوء السياسي.
كان قد كتب لي رسالة طويلة بعد وصولي الى القاهرة، وفشل اولى محاولاتي في الالتحاق به الى السويد، أرسلها عبر الفاكس لمكتب صديق وأخ في القاهرة، بقيت في ذاكرتي كأنها بالأمس، بدأها بالأية الكريمة بعد بسم الله الرحمن الرحيم (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) البقرة/ 155 – 157.
=====
رحم الله شقيقي واستاذي وصديقي ومثلي الأعلى محمد خليفة/ أبو خالد الذي أدين له بالفضل والعرفان ماحييت، فكثيرا مما أنا فيه الآن يعود سببه اليه.
رحمه الله وتقبله وغفر له، مع اقراري بالعجز عن الإحاطة بمسيرة عطرة وطيبة عمرها من عمري.
الى جنان الخلد والنعيم.
ستبقى حيا في وجداني داعيا المولى أن يجمعني بك في عالم أكثر عدلا وصدقا وطهرا، بعد أن باعدت بيننا دروب الحياة ووعورة الطرق التي سلكناها.
المصدر: ملتقى العروبيين