عبد الباسط حمودة
من أهم التأملات في ربيعنا العربي أن نفكر بالدرس التاريخي الذي يتطلب التوقف عند ما حصل؛ أين نجحنا؟ وأين أخفقنا؟ وما أسباب الإخفاق؟ وما السبيل لإنجاز عملية التغيير دون الخسارات التي حصلت طوال السنوات العشر؟ أكانت في البلدان التي حصل فيها التغيير، أو تلك التي أُنّجِزَت فيها المرحلة الأولى من عملية التغيير، بانتهاء أنظمة واستبدالها بجديدة، أو بالبلدان التي لم تنجح فيها عملية التغيير لاحتراباتٍ داخلية، وتدخلاتٍ خارجية، واستثماراتٍ أجنبية سلبية آذت شعوبها وهي سورية، ليبيا، اليمن، لبنان وأخيراً فلسطين المحتلة.
يبدو أن قدر شعبنا الفلسطيني أن يكون لشهر أيار/مايو عموماً، وأيار/مايو الأخير خاصةً، شاهداً على مآسيه ونضاله وانتصاراته، وما حصل في الحرم القدسي والشيخ جراح والداخل الفلسطيني لعرب الـ 48 وصولاً إلى غزة خيرُ دليل على ذلك، فلم يقف الشباب الفلسطيني داخل الخط الأخضر مكتوفي الأيدي لما جرى من أعمال قمع لأهل حي الشيخ جراح، فهبوا تضامناً مع أهلنا هناك، وضد أن يُخرج الصهاينة بالقوة عائلاتٍ فلسطينية من بيوتها ليسمح للمستوطنين الدخول إليها وتملكها، فتصاعدت المواجهات بين أصحاب الحق من جهة وبين المستوطنين الصهاينة وكلاب حراستهم من جهةٍ أخرى.
لقد هب الشعب الفلسطيني بمظاهرات تضامن قوية في حيفا وعكا والناصرة ويافا والرملة واللد والنقب والجليل ومدن الساحل بشكلٍ ليس له مثيل، الأمر الذي أربك الاحتلال، واتسعت دائرة النضال والرفض ضد المخططات الصهيونية لتصل غزة.
بعيداً عن الخطأ الكبير للنظم العربية، بتغافلها عن حقائق التكوين المتماثل، حين يعتقدون أنّ بإمكانهم مخاطبة أميركا لتمييز موقفها عن الصهيونية، فيلجؤون إليها، لكي تدين الإرهاب الإسرائيلي، وتدين هدم بيوت المواطنين في الضفة وغزة، أو الحدّ من نزوع الصهاينة التوسعي العدواني على حساب أصحاب الحقّ الشرعيين، فكيف يُطلَب من واشنطن، وهي نفسها تقوم على ممارسة الهيمنة والتوسع ورعاية الإرهاب الصهيوني والصفيوني؟!
إن المسؤولين الأميركيين، ديمقراطيين وجمهوريين، يستثنون، في كلّ خطبهم وتصريحاتهم الإعلامية وبياناتهم، “إسرائيل” من صفة الإرهاب، على الرغم من كلّ ممارساتها الإرهابية، حكومة ومنظمات، وهي ضد شعبنا الفلسطيني والسوري واللبناني وغيرهم، بينما يطلقون صفات الإرهاب على حركات النضال وأحرار المقاومة العربية لتبرير سلوك الحركات الإرهابية في “إسرائيل” مثل “كاخ” و”لاهافا”، ولم نسمع أيّ إدانة لها من الدول حاملة لواء محاربة الإرهاب؛ إن واشنطن تتحكم بعموميات المنطقة وليس فقط بالمعضلة السورية وتفاصيلها وتفرعاتها العربية والإقليمية والدولية، وتتدخل بطرق انتقائية تخدم مصالحها، وتصفي حساباتها مع خصومٍ متنوعين، وتزيد قدرتها على التحكم بأوضاع الفلسطينيين العرب جميعاً، بينما تعيد إنتاج هيمنتها في ظروف تبدل هيكلي ومرحلة انتقالية معقدة جداً، تعيشهما المنطقة من أقصاها الفلسطيني لأقصاها العربي، يتم خلالها تجريدها من أوراقها ومصادر حصانتها، وتعزيز احتمالات اختراقها ورسم للعلاقات الأميركية معها في حاضنة سياسية ذات أبعاد تاريخية خطيرة جديدة.
ما جرى ويجري في القدس والأقصى وحيّ الشيخ جرّاح تحديداً، كانت السبب المباشر لإشعال بوادر الانتفاضة الشعبية المدنية السلمية بطول فلسطين التاريخية وعرضها، وأنّ زج القصف والعمل العسكري، كان قطعاً لذلك الحراك الشعبي وكأنه تلبية لرغبة صهيونية غير معلنة، من حيث جذب الأضواء للتحرّك العسكري، على حساب انتفاضة الفلسطينيين المدنية التي حازت تضامناً عالمياً واسع النطاق وأربكت الصهاينة وحُماتهم، وبالتالي نقلت التركيز الإعلامي والسياسي لأخبار رشقات صاروخية عبثية، وغارات إسرائيلية مدمّرة شكّلت فرصة للكيان الصهيوني لتوظيفها بدعم موقف حكومته الإرهابية داخلياً وخارجياً، في وقت لم يكن لدور ’سلطة عباس‘ إلا التشفي بخسائر الفلسطينيين، والخوف من تجذر الانتفاضة، الثورة، كخوفه- والأنظمة العربية كلها- من مخاطر الربيع العربي عموماً.
بالمقابل فإن ’سلطة غزة‘ لم تكن أفضل حالاً، فقد استثمرت بآلام الفلسطينيين لتضعها في خدمة المشروع والاستراتيجية الإيرانية بذريعة الممانعة، وما هي إلا مماتعة وشكر لها، ومناولة مواقف على حساب شعوبنا وأمتنا، بعد كلّ ما فعلته وتفعله إيران الصفيونية، من تخريب ممنهج وجرائم بحق شعوبنا في سورية ولبنان والعراق واليمن وفلسطين، خدمةً لمشروعها الإمبراطوري التوسّعي؛ أليس ما قدّمته وتقدّمه من دعم لأذرعها ومرتزقتها ومشايعيها، هو جزء من استراتيجيتها للهيمنة على المنطقة تحت شعارات فلسطين والقدس والأقصى وليس لخدمة شعوب المنطقة وقضاياها العادلة؟! أوليس الاعتقاد بعكس ذلك هو من العته والبلاهة؟ ألم تغفل ’سلطة غزة‘ وجهابذتها الإشارة لمعاناة فلسطينيي سورية ومخيّماتهم في حين اكتفت بذكر مخيمات لبنان والأردن؟ أم لأنه يُذكّر جيداً بما فعلته ميليشيات إيران الصفيونية وجيش الإرهاب الأسدي في تلك المخيمات، وكيف دكّتها فوق رؤوس الفلسطينيين العُزّل؟ أم أن ذلك جاء في سياق عملية تزوير للنضال الوطني الفلسطيني التحرّري الشامل العابر للأديان والطوائف عبر هذه العقلية التي تريد مسخه في صورة ’’صراع إسلامي- يهودي‘‘ وحصره في هذا التحديد الأيديولوجي/ الديني!؟
لقد احتفت النُّظم ومناصروها بما يزعمونه ’’فشل الربيع العربي‘‘، ويستدلون على فشله بما آلت إليه أوضاع بلدان ذلك الربيع، وها هي انتفاضة الأقصى وعموم فلسطين تؤكد أن الربيع له موجاته المتجددة المتواصلة، دحضاً لمزاعمهم التي تُرضي أوساط صنع القرار الدولي للهيمنة على إرادات الشعوب وحجز التغيير بشتى الحيل والجرائم لنظم وظيفية وعلى رأسها نظام القتل والكيماوي الأسدي المغطى أميركياً ودولياً للاستمرار بمهزلة انتخاباته بعد جرائمه المفضوحة، فإن للنظام شركاء دوليين متضامنين وسوريين ممثلين بفريق المعارضة المشارك بمهزلة اللجنة الدستورية، إذ لم يكتفوا بمساعدة فريق النظام بالوصول للانتخابات والمساهمة بالتسويف والتأجيل، بل إنه يلتزم الصمت الآن كالأموات كي لا يشوش على نظام الجريمة وانتخاباته كل ذلك بتوجيهات ورعاية إقليمية ودولية.
إن الانتفاضات حتى لو تلكأت أو تعثرت وتراجعت أو ارتكست ونكصت، هي كالريح الخفيفة التي تسبق المطر، إنها ريحٌ مُنعشة، ستُأتي أكُلها عاجلاً أمْ آجلاً، والأمر يحتاج لزمن وتراكم، بقراءةٍ جديدة ونقدٍ جديد، إذ لم تعبُر الثورة الفرنسية بطريقة سلسة، فقُتل خلال السنوات السبع الأولى أكثر من أربعة ملايين إنسان، لكن النتائج جاءت بعد مئة عام، أو أكثر، خصوصاً في ما يتعلق بهيكلية الأنظمة باتجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتلك هي قيم إنسانية ما زال العالم يتحدث عنها إلى يومنا هـذا. وينشُدُهـا.
المصدر: اشراق