منهل باريش
سعت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا إلى تطويق انتفاضة مرتقبة في مدينة منبج في ريف حلب الشرقي، أكبر المدن المأهولة والتي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية منذ 15 أب (أغسطس) 2016 إثر هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». واستنفرت الإدارة الذاتية وجهاء العشائر والهيئات الخدمية وجيش الثوار أحد فصائل «قسد» وقوات الأمن الداخلي «أسايش» وأجرت اجتماعات أيام الأربعاء والخميس والجمعة، انتهت بتشكيل لجنة في يوم الجمعة لتحضير كامل طلبات الأهالي وتقديمها بعد أسبوع، بعد أن رفض الأهالي الاتفاق الأول، يوم الخميس، كونه علق موضوع التجنيد الإجباري في منبج وريفها، بغرض الدراسة والنقاش، إضافة إلى الوعد بتشكيل لجنة تحقيق لمحاسبة من قام بإطلاق النار.
وخلفت الاحتجاجات سبعة قتلى وعشرات الجرحى، يومي 31 أيار (مايو) والأول من حزيران (يونيو) وبدأت الاحتجاجات مطالبة بوقف التجنيد الإجباري الذي تفرضه الإدارة الذاتية، وهو ما يعرف باسم «واجب الدفاع الذاتي» إضافة إلى مطالب اقتصادية تتعلق بالوظائف وغلاء الأسعار. ردت قوات «أسايش» بإطلاق نار على المتظاهرين وهو ما أشعل المنطقة مع سقوط عدد كبير من القتلى، أغلبهم من عشيرتي البوسلطان والبوبنا، وقتيل من عشيرة الجيسات وقتيل بني عصيد، وهو ما حول الاحتجاج المطلبي إلى انتفاضة عشائرية في وجه «قسد».
ورغم التوتر الشديد، لجأت الإدارة الذاتية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية إلى تصعيد خطابها واتهام عدة أطراف بالوقوف خلف الاحتجاجات، كالبيان الذي أصدرته القيادة العام لقوى الأمن الداخلي في منبج وريفها والذي اتهم «المتربصين والعابثين بأمن واستقرار المدينة» والمرتبطين «بأجندات خارجية تهدف لخلق حالة من الفتنة بين مكونات الشعب والقوى الأمنية» مضيفا «استغلوا هذه التظاهرات والمسيرات السلمية عبر أعمال الشغب والتحريض وتخريب وتكسير الممتلكات العامة والخاصة في الأسواق الرئيسية».
وقال بيان «أسايش» ان من وصفهم بالمخربين اعتدوا «على النقاط والمراكز والمؤسسات العسكرية إضافة إلى حرق سيارات» وحملهم مسؤولية سقوط القتلى بسبب استخدامهم السلاح ضد المتظاهرين والقوات الأمنية.
وتزامنا مع بيان «أسايش» أصدرت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بيانا حملت من خلاله ثلاثة أطراف خارجية مسؤولية ما حصل في منبج يومي الأثنين والثلاثاء، وهي النظام السوري وخلاياه في المدينة وريفها. وكذلك تركيا ومرتزقتها وخلاياهم، وأيضاً خلايا تنظيم داعش، حيث تملك الإدارة الذاتية «دلائل دامغة» على ان أولئك الأطراف «يعملون على استغلال الاحتجاجات والمطالب الشعبية لأهالي منبج».
من جهة أخرى، احتشد المئات من عشيرة البو سلطان في مزرعة الكرامة، لعدة أيام وكلفوا الشيخ حسن العبادي أحد وجهاء العشيرة بالاجتماع مع الإدارة الذاتية والمجلس العسكري لمنبج وريفها. وفي نهاية الاجتماع، أكد الشيخ حسن في تسجيل مصور، حصلت «القدس العربي» على نسخة منه، التوصل لاتفاق مبدأي. وقال أنه «حصل على ضمانات من جهات هامة» وان الإدارة الذاتية طالبت كتابة المطالب، واعطائها فرصة عشرة أيام لتحقيقها. داعيا كل العشائر الأحد المقبل (اليوم) لاتخاذ موقف موحد. ولفت إلى أن جيش الثوار تعهد بحماية الأهالي والمتظاهرين في حال عدم تنفيذ الاتفاق. وأرسلت قوات سوريا الديمقراطية «قسد» قيادة جيش الثوار ونائب قائد المجلس العسكري لمنبج وريفها، إبراهيم البناوي للتعزية بالقتلى وزيارة الجرحى في مستشفى منبج.
هذا وتعتبر منبج أكبر مدن الإدارة الذاتية وأكثرها سكاناً وتضم نحو 300 ألف نازح، وأصبحت الأهم بسبب الدمار الكبير الذي لحق بمدينة الرقة نتيجة القصف الجوي الذي نفذه التحالف الدولي ضد داعش، في حربه ضد التنظيم. واستوعبت المدينة عشرات آلاف الهاربين من مناطق سيطرة تنظيم الدولة خلال معارك 2017 و2018.
بعد عامين، من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية والمجلس العسكري في منبج وريفها الملحق بها، وبسبب الضغط التركي على أمريكا من أاجل تسليم منبج، توصل الجانبان إلى اتفاق هش للغاية، سعت واشنطن من خلاله إلى امتصاص غضب تركيا والرئيس اردوغان وحكومته، وتباينت تفسيرات الاتفاق الشفوي بين الجانبين، وحددت آليات تطبيق الاتفاق بثلاث مراحل، تتلخص الأولى بإبعاد قادة «وحدات حماية الشعب» الكردية، المصنفة تنظيما إرهابيا بوصفه اليد السورية لحزب العمال الكردستاني، وأعطى «الوحدات الكردية» مدة شهر كامل لاستكمال انسحابها. ونصت المرحلة الثانية من الاتفاق على دخول وحدات مشتركة استخباراتية وعسكرية تركية وأمريكية، إلى منبج بعد 15 يوما على انقضاء الشهر وانسحاب القوات الكردية.
وفي آخر مرحلة من الاتفاق، تعمل أمريكا وتركيا على التفاهم وتشكيل مجلسين، عسكري ومدني بهدف توفير الخدمات والأمن في المدينة، يراعي نسبة السكان العرقية، خلال نصف شهر.
وفي رد فعل من الدبلوماسية الأمريكية على تصريحات وزير الخارجية التركي، نفت الخارجية الأمريكية التوصل إلى أي اتفاق مع تركيا يتعلق بمنبج، وقالت المتحدثة باسمها هيذر ناورت في إيجازها الصحافي اليومي، الأربعاء الماضي: «لم نتوصل لأي اتفاق بعد مع الحكومة التركية». لكنها أكدت لقاء المسؤولين الأمريكيين والأتراك في اجتماعات جرت في العاصمة أنقرة، المتعقلة بحل عقدة منبج. بالطبع فشل تطبيق الاتفاق واقتصر على الدوريات المشتركة في شمال منبج.
وتشكل منبج أهمية كبيرة بالنسبة لمشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي لا يفضل تسليم المناطق والتنازل عنها بدون حرب، ويعتبر اختبار مدينة منبج ذا كلفة عالية على الوحدات الكردية ومشروعها المسيطر والمتحكم بأبناء المنطقة. وتعي القيادة الكردية نية النظام الجدية في سعيه للسيطرة على مدينة منبج، من أجل تعويض خسارته في القامشلي، وفشله في تحصيل مكاسب في بلدة عين عيسى وكون المدينة ذات طبيعة عشائرية وغالبية عربية.
وفي الوقت نفسه، فإن النظام السوري يتواجد على بعد عدة كيلومترات من مدينة منبج، ويحاصرها من عدة نقاط، ويمتلك علاقات مستمرة مع عشائر المنطقة بدون استثناء. كما ان المزاج العام في المدينة أقرب للنظام من قربهم لقسد ـ خصوصا بعد السياسات الاقتصادية التي تميز بين مناطق قسد والمناطق العربية. والجدير بالذكر ان النظام لا يجد مناصرين له من «داعش» على غرار باقي المناطق، ويختزل اللاعبين في منبج إلى جانبين، أما مع النظام أو ضده مع قسد.
في نهاية الأمر، ستتوصل قسد إلى صيغة تفاهم ـ يرجح ان تكون ظالمة وغير عادلة بحق أهالي منبج، لكن في حال صدق هذا التوقع، فإن جزءا لا بأس به من السكان العرب سيتوجهون إلى مد يد العون والتضامن.
المصدر: القدس العربي