حسام جزماتي
قبل أيام عرض الصحفي الأميركي مارتن سميث فيلمه الوثائقي The Jihadist (الجهادي) الذي أعده عن قائد «هيئة تحرير الشام». وفور بثه تناولته أوساط سلفية جهادية، وسواها، بالتشريح والنقد والاقتباس، لترى معالم ابتعاد أبو محمد الجولاني عن «المنهج» ورغبته في فتح قنوات مع الغرب وتسويق نفسه هناك، وصولاً إلى الخروج من التصنيف العالمي بالإرهاب كهدف استراتيجي. ومن طرفهم، لم يتوان أعضاء بارزون في «مجلس شورى» الهيئة، ومنافحون إعلاميون عنها بمعرّفات رديفة، عن اتهام الناقدين بأنهم موتورون، يقودهم حقد شخصي على الجولاني مهما قال أو فعل.
قضى سميث أسبوعاً في إدلب في شباط الماضي، وسجّل لقائين مع حاكمها، ظهرت أجزاء منهما في الفيلم ونُشرت الترجمة النصية الإنكليزية الكاملة لهما بالتوازي مع إطلاقه. وفيهما بدا الجولاني أشد تواضعاً من أي وقت مضى، وأكثر صدقاً وانفتاحاً، رغم عدم خلوهما من أكاذيب رجل السلطة حول انتهاكات حكمه.
ووفق سياق الطغاة المحليين نفسه، القائم على تحصيل الاعتماد من الخارج والاحتفاظ بالقمع للداخل؛ ظهر الجولاني وهو يسرد مبرراته ويشرح مسيرته المتعرجة منذ المقاومة الجهادية في العراق حتى الصورة التي يريد أن يستقر عليها الآن ويقدّمها للعالم كقائد ثوري سوري ذي توجه إسلامي، مروراً بمبايعة تنظيم القاعدة والخروج منه.
في المقابل لا يظهر شيء من هذا الاهتمام في التسجيلات التي دأب إعلام الهيئة على بثها في السنة الأخيرة عن لقاءات قائدها بالناس وحضوره بعض المناسبات العامة وجولاته في الأسواق. ففي هذه المصوّرات القصيرة لا يبدو مهتماً بكسب رضا «رعاياه» بأكثر من سؤالهم، بلطف المستبدين المعتاد: «كيف الأحوال؟ كيف الشغل؟ في حدا عم يضايقكم؟». وما إن يسمع الإجابات البديهية في وضع كهذا حتى يشرع في حديثه عن واقع إدلب ورؤيته لما ينبغي أن تكون عليه.
ضمن هذه الترسيمة تقول حاشية الجولاني إن خصوم الهيئة من السوريين لا يطرحون ما تمكن مناقشته عملياً، وإنهم يكتفون بتصيّد أخطائها والمبالغة فيها ودعوتها إلى حل نفسها، منطلقين من عداء مبدئي مطلق. هذا صحيح نسبياً. والصحيح أيضاً أن الهيئة لن تقبل بشروط أقل للانفتاح عليها، كتنحية قائدها المهيمن وانخراط قواتها في الجيش الوطني وتبعيتها للحكومة المؤقتة، ومن ورائها المعارضة السياسية، مع ما يعنيه ذلك من تغيير آيديولوجي كبير. ولكن إذا كان جزء من العالم ينحو إلى التعامل مع الهيئة كقوة أمر واقع ليست في طريقها إلى الزوال على المدى المنظور، فإن بوسع قطاع من السوريين، ولا سيما أولئك الذين يقطنون في أماكن سيطرتها، أن يطرحوا مطالب محددة لتحسين ظروف عيشهم.
وربما كان أبرز هذه الأمور تخفيف قبضة الأمنيين على البلد. فهؤلاء، بوجوههم الملثمة ورئيسهم الغامض، صاروا مصدر رعب لعموم السكان، وليس فقط على الدواعش أو عملاء النظام كما قال الجولاني. فمن المعروف أنهم القوة الضاربة التي تُستخدم لتطويع الجماعات والأفراد، وأن سجونهم السرية/العلنية تكاد تقارب سجون مخابرات نظام الأسد. وفي هذا تُروى شهادات عديدة عن انتهاكات الاقتحام والتفتيش والإخفاء القسري وممارسة التعذيب والاحتجاز في شروط غير إنسانية من نواحي المكان والغذاء والدواء. ومن المهم هنا متابعة ما تعهد به الجولاني في المقابلة من السماح للجان من منظمات حقوق الإنسان، المحلية والدولية، بزيارة هذه المعتقلات، دون الاكتفاء بالسجون الجنائية التابعة لحكومة الإنقاذ، والتي زعم الجولاني عدم وجود سواها تحت سلطته.
ومن جهة أخرى يربط كثير من المطلعين بين تضخم جهاز الأمن العام وبين ضعف الجبهات أمام النظام. ويقول هؤلاء إن هذا الجهاز لا يكف عن تغذية نفسه بأفضل المقاتلين، مستبدلاً بهم عناصر غير مدربة بشكل كاف على خطوط «الرباط». وإن هذا من أبرز أسباب الانهيارات الكبيرة أمام حملة النظام الأخيرة قبل أكثر من عام، التي أدت إلى خسارة مدن كبيرة ذات رمزية عالية ومئات القرى وأعداد هائلة من النازحين. بالإضافة إلى تعيين قادة غير مؤهلين على رأس الجهاز العسكري، بالاعتماد على معايير الولاء للقائد وطاعته والتزلف له لا التخصص والخبرة.
مفصل آخر مؤثر بشدة في حياة السكان هو الجباية المالية بأشكالها المختلفة؛ معابر ورسوماً وزكاة تؤخذ بالإكراه، ومحاصصة من الباطن في واردات المنظمات العاملة. فضلاً عن سيطرة الهيئة على بعض كبريات الشركات العامة، والشراكات المفروضة من متنفذين فيها على القطاع الخاص الكبير والمتوسط، والتي باتت من بديهيات العمل في إدلب، حتى صار في وسع أي شخص حسن الاطلاع أن يسرد لك أسماء الشركاء المخفيين الذين يرعون هذا المعمل أو يحمون ذلك المطعم، في حالة لافتة من الفساد المعمم ومستغربة في تنظيم «جهادي»!
كما أنه سيكون من المفيد تقوية حكومة الإنقاذ، بوصفها الإدارة المدنية المفترضة، في وجه أمراء الهيئة وأمنييها. فهي حتى لو كانت حكومة أمر واقع، مضطرة إلى قدر من الشفافية وإلى قسط من الالتزام بما تتبناه من أنظمة وتصدره من قوانين. كما أنها مشكّلة من كفاءات محلية ليست جزءاً عضوياً من الهيئة وإن تناغمت معها. لكن درجة «التناغم» الحالية تجعل من الحكومة واجهة صورية لا تخدع أحداً، ومن وزرائها مجرد موظفين مدنيين لا حول لهم، يستخف بهم أيٌّ من أقوياء الهيئة الكثر.
كغيره من الطغاة، يعسر على الجولاني التركيز على شرعيته في الداخل وتقديم ما توجبه من تنازلات للناس، لكن ماضيه يصعّب طريقه لنيل الاعتماد من الخارج. ولذلك فإن عليه أن يفكر في هذه المعادلة جيداً، وأن يعرف أنه ليس بالشطارة وحدها يحيا الإنسان ويخرج من قائمة الإرهاب.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا