سميرة المسالمة
يتزامن كلّ لقاء قمة أول، بين رئيسي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، مع ضجيج الأزمات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية التي تسبقها، إلّا أنّها هذه المرّة تتحقق وسط أجواء متوترة بين شخصي الرئيسين الأميركي جو بايدن، والروسي فلاديمير بوتين، وليس فقط بين سياستيهما في إدارة بلادهما، وملفات الأمن العالمي والقضايا والملفات العالقة بينهما، ومنها الملف السوري الذي كان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قد أودعه كاملاً في عهدة روسيا، مكتفياً بالرقابة عن بعد، ووضع خطوط تماسّ قابلة للانفجار، كما حدث أكثر من مرة في وجه محاولات روسية وإيرانية في شمال شرق سورية.
وفيما يصعب التكهن بما يمكن توقعه من لقاء بايدن بمن وصفه بـ”القاتل”، أي بوتين، أو وافق على وصفه بـ”القاتل” في لقائه مع شبكة “إيه بي سي”، إلا أنّ الأنظار ستّتجه إلى قمة جنيف في 16 يونيو/ حزيران الحالي، وهي غير مراهن عليها لتحقيق كثير من التقدم في ردم الخلافات البينية، وفكفكة عقد الملفات، ومنها قضية مراقبة الأسلحة النووية، وملفا إيران وكوريا الشمالية النوويان، وقضايا مناخية وصحية، في مقدمتها جائحة كورونا. ولا بدّ من أنّها لن تتغاضى عن قضية بيلاروسيا ونظامها واعتقال المعارضين.
وعلى الرغم من عدم وضوح موقف الإدارة الأميركية وخطتها في إدارة ملف سورية، فإنّ بوتين، كعادته السابقة في لقاءاته مع الرئيس السابق ترامب، أعدّ أوراق اعتماده من جديد في سورية، مستنداً إلى واقع أولويات الرئيس الأميركي بايدن التي أعلنها في خطاب فوزه في الانتخابات، وتجاهله قضايا الشرق الأوسط، ومنها سورية، ما يمكن فهمه تمديداً لسياسة ترك الملف في عهدة روسيا، حالياً على الأقل، بينما تنتهي الإدارة الأميركية من مباحثات فيينا مع إيران بخصوص الملف النووي وتوابعه في المنطقة، وهو قد يثمر ما من شأنه تغيير خريطة الوجود الأجنبي في سورية، وتبدل أدوار اللاعبين في الصراع على سورية.
ووفق ذلك، يحمل بوتين معه إلى لقاء جنيف (بما يخص الشأن السوري) نتائج انتخابات بشار الأسد التي جرت في 26 مايو/ أيار الماضي، ومشاهد عودة الرعب الأمني إلى نفوس السوريين، وتأكيد قدرته على إعادة سورية إلى ما قبل 2011 من الناحية الأمنية، من دون النظر إلى تقلص خريطتها الجغرافية، وتقسيمها إلى ثلاث دويلات، تقع حصة نظام الأسد وروسيا وإيران على نحو 62%، وداخلها تقع مدينة درعا التي تعود الهيمنة فيها إلى لجنة المصالحة من أهالي وفصائل مسلحة مع روسيا، حيث لا سلطة أمنية حقيقية للنظام فيها، وهذا ما أفسح المجال لدرعا، وبعض المناطق في ريفها، لمنع وضع صناديق انتخابية في مراكز كثيرة وتعطيل عملية إجراء “انتخابات” بشار الأسد فيها. وتسيطر قوى تابعة لتركيا على نحو 11%، بينما يسيطر الأكراد بدعم أميركي على نحو 27%.
يبرّر هذا الملف المعدّ مسبقاً تجاهل بوتين كلّ أنواع النقد الغربي والأميركي، وحتى السوري التي صدرت بحق شرعية انتخابات بشار الأسد، واصطناع ديمقراطيتها، سواء قبل الانتخابات أو بعدها، حيث الالتفات إلى مثل تلك الانتقادات ينزع منه إحدى أهم أدوات المساومة التي يعتقد أنّها قد تفيده في ملفات أخرى، للمقايضة أو للمساومة، خصوصاً في ظلّ احتمالات التقارب الأميركي – الإيراني الذي يُخشى أن يتم على حساب مصالح روسيا في سورية والمنطقة.
ويمكن قراءة التقارب الروسي – الإسرائيلي والتنسيق بين روسيا وإسرائيل من زاوية مصالحهما المشتركة وتبادل الخدمات لإبعاد إيران عن المنطقة، سواء باستمرار الضغط الإسرائيلي وضربات إسرائيل لأنشطة إيران في سورية تحت عين أجهزة الرصد الروسية وتجاهلها من جهة، أو بفعل التجييش الشعبي الرافض لسياساتها في تشييع المنطقة من جهة أخرى. وفي كلّ الأحوال، يعني روسيا التفرّد بالملف السوري، وإبعاد إيران عن السباق لمناصفتها في استثمار الصراع الحالي في سورية.
التخلي، الذي أحدثته سياسة الديمقراطيين في عهد باراك أوباما، عن سورية من تغاضيها عن الخطوط الحمر التي وضعتها بوجه النظام السوري، وتسهيل دخول روسيا العسكري إلى سورية عام 2015، والاتفاق السري في 9 سبتمبر/ أيلول 2016 بين وزيري خارجية البلدين، الأميركي جون كيري، والروسي سيرغي لافروف (تحت مسمى الحدّ من العنف واستعادة وصول المساعدات الإنسانية وإقامة مركز التنفيذ المشترك بينهما)، وترك المجال لروسيا في إدارة الصراع داخل النظام السوري، وبين النظام ومعارضته المسلحة، وبين موسكو وأنقرة وطهران، وصناعة مسار آستانة التفاوضي من خارج القرارات الدولية، من بيان جنيف، وصولاً إلى قرار مجلس الأمن 2254، يجعل كلّه من سقف التوقعات السورية تجاه اللقاء المرتقب بين الرئيسين منخفضاً أكثر من سقف الوطن السوري الذي انهار فوق رؤوس الأبرياء تحت عين الإدارة الأميركية الديمقراطية السابقة، وخلال إدارة الجمهوري ترامب، وربما استمر في ذلك، في ظل إدارة بايدن الديمقراطية.
لم تكن لقاءات بوتين واتصالاته مع رئيسي الولايات المتحدة الأميركية السابقين، أوباما وترامب، في ما يخص سورية، في أيّ منها في خدمة القضية السورية، ومطالب الحرية، على الرغم من التهليل لنتائجها واتفاقاتها، بل منحت روسيا مزيداً من مساحة التدخل في ملف الصراع على سورية وفي سورية. وخلال الأعوام السبعة الماضية، نقلت موسكو الصراع من صراع شامل سياسي وقانوني ومسلح بين نظام سوري ومعارضة إلى مسلح فقط بين النظام مع داعميه (روسيا وإيران)، في مواجهة فصائل معارضة له مدعومة من دول عربية وإقليمية، ثم حيدت الدعم العربي، لتبقى الفصائل المدعومة من تركيا طرفاً يقابل النظام، وبذلك أهدرت الجهود الدولية في تفعيل مسار مفاوضات جنيف وفقاً للقرار 2254، وقزّمته إلى لجنة دستورية مشتركة بين منصّات “معارضة” مختلفة في مواجهة النظام المتصلب ضدها. ما يعني أنّ فرصة شرعنة وجود بشار الأسد الفائز بأصوات 95.1% بانتخاباتٍ لم يشارك فيها نصف الشعب السوري، وبتجاوزاتٍ حدثت تحت أعين الكاميرات، تتساوى اليوم مع فرص رغبة “المعارضة” السورية في إعادة إحياء العملية الدستورية في جنيف، التي تريدها اليوم موسكو أكثر من أيّ شيء آخر، لأنّها من الهدايا التي يريد بوتين تقديمها لبايدن على أنّها خطوة باتجاه تحقيق القرار 2254، وإعادة إحياء العملية السياسية التي استبقتها موسكو بتصريحات “خلّبية” عن إمكانية إجراء انتخابات مبكرة في حال الوصول إلى توافق على دستور جديد، وهو ما سيحصل خلال سنوات، سواء مع المعارضة أو من دونها، لأنّه السبيل الدستوري الوحيد لعودة الأسد بعد انتهاء ولايته الحالية لحكم سورية.
المصدر: العربي الجديد