بيتر بينارت*
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مقدمة
في الشهر الماضي، كتب بنيامين والاس ويلز في مجلة “نيويوركر”:
“في المعارك حول مستقبل إسرائيل وفلسطين، والتي غالبًا ما يُفهم فيها أن العداوات بين الشعبين قديمة وأبدية على حد سواء، كان بيتر بينارت الشخص النادر المتحرر من هذه العداوات. وبعد أن صنع اسمه كنصير متحمس للصهيونية الليبرالية، وداعم بارز من يسار الوسط لحرب العراق، سواء كمحرر لصحيفة “ذا نيو ريببليك” أو كوجه دائم الحضور في البرامج التلفزيونية، أمضى بينارت معظم العقد الماضي منخرطاً في مراجعة عميقة لهذه المواقف. وفي الصيف الماضي، أحدث معها قطيعة كاملة. وكتب بينارت في مقال طويل لموقع “تيارات يهودية”: “الحقيقة المؤلمة هي أن المشروع الذي كرس الصهاينة الليبراليون من أمثالي أنفسهم له لعقود -قيام دولة للفلسطينيين منفصلة عن دولة لليهود- قد فشل”. ودعا الأطراف المعنية إلى العمل من أجل إقامة دولة واحدة في الشرق الأوسط، والتي تحمي حقوق اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
وفي 11 أيار (مايو) هذا العام، مع تصاعد العنف في إسرائيل وغزة، نشر بينارت مقالًا ثانيًا، جادل فيه بأن حق اليهود في العودة إلى ديارهم يجب أن ينطبق أيضًا على الفلسطينيين. وكتب: “إذا لم يكن للفلسطينيين الحق في العودة إلى وطنهم، فإننا لا نمتلك هذا الحق نحن أيضاً”. وبعد يومين، اقتبست رشيدة طليب، عضو الكونغرس اليسارية الفلسطينية، من مقال بينارت عندما قادت العديد من زملائها التقدميين في قاعة مجلس النواب إلى التنديد بالإجراءات الإسرائيلية الأخيرة. ولم يفوت أحد من المشاركين في هذه المناقشات المعنى الضمني لذلك: لم يعد الصهيوني الليبرالي الأكثر نفوذاً في جيله يؤمن بدولة يهودية حصرية في الشرق الأوسط. لقد غيّر بيتر بينارت موقفه.
عاش بينارت، الذي بلغ الخمسين من عمره هذا العام، عقدًا من الزمن داخل مجتمع يهودي أرثوذكسي محدَّدٍ جيدًا في حي “ويست أبر سايد” في منهاتن. وهو ما يزال يبدو شبيهاً بما كان عليه عندما أصبح شخصية عامة، في مطلع القرن تقريبًا -الشعر الأسود القصير، والبشرة الناعمة، والتقاطيع العريضة نفسها- واحتفظ بالمظهر الجاد والرسمي، كما ينبغي لشخص كان عاكفاً على مناقشة الأمور بالغة الجدية منذ سن مبكرة جدًا. ولكي يؤدي الصلوات لروح والده، اليهودي الجنوب أفريقي المناهض للفصل العنصري الذي توفي منذ وقت ليس ببعيد، يزور بينارت كنيسًا يهوديًا مرتين في اليوم، ويقضي ساعة كل صباح في دراسة التلمود. وفي داخل هذا المجتمع يكون منسجماً دينياً أكثر من كونه سياسياً. وفي أحد الأيام في وقت ليس ببعيد، كان يمشي ويفكر عندما تقدم إليه رجل وسأله عما إذا كان هو بيتر بينارت. ويقول: “ومثل أحمق كامل، فكرت: ‘أوه، نعم، كم هو لطيف منك أن تتعرف إليّ’”. قال الرجل: “إن سياستك محض قاذورات”.
لبضع سنوات، كان بينارت باحثًا مقيمًا في برنامج لإحياء عيد الفصح اليهودي -وهي مناسبات جيدة الترتيب يسافر فيها معظم اليهود الأرثوذكس إلى فنادق في أماكن مثل يوكاتان أو ويسلر، مستأجرة لهذه المناسبة، مع تنظيم المحاضرات والاحتفالات الدينية. ويقول بينارت: “يبدو الأمر كما لو أن اليهود يصبحون جامحين. كل ما يفعله الناس هو الصلاة، وتناول الطعام، والتحدث عما سيأكلونه. إنني أحب هذا كثيراً. إنه رائع”. وفي إحدى المناسبات، سرت إشاعات بأن إيفانكا ترامب موجودة بين الحضور. وفي عام آخر، كان قد نشر كتاب لبينارت، شرح فيه بالتفصيل ما رآه أزمة داخل الصهيونية. وانتشر الخبر في المكان. وفي النهاية علم بينارت أن شخصًا ما قرع جرس الإنذار. “قال: ‘إذا كان بينارت سيتواجد هناك، وتريد مني أن لا أنسحب، فعليك أن تؤكد لي أن أنظاري لن تقع عليه أبدًا”. وأصبح بينارت عاطفيًا بعض الشيء. قال لي: “يمكنهم أن يكرهوني إذا أرادوا. لكنهم يظلون شعبي”.
كان بينارت قد فجر مفاجأة مدوية حين نشر، في الثامن من تموز (يوليو) 2020، مقالاً في صحيفة “نيويورك تايمز” واسعة الانتشار بعنوان: “لم أعد أؤمن بدولة يهودية!”، ومكان من المعروف عن بينارت التزامه المخلص باليهودية، حيث ظل يكافح في مناظراته وظهوره الدائم في وسائل الإعلام الكبرى عن حق اليهود في دولة يهودية في فلسطين.
وكتب بينارت في المقال: “لقد آمنت بإسرائيل كدولة يهودية لأني نشأت في عائلة كانت تعيش في الشتات اليهودي وتقفز من قارة إلى أخرى. وقد رأيت تأثير إسرائيل في جدي ووالديَّ اللذين لم أرهما سعداء وآمنين مثلما رأيتهما حين يكونان داخل مجتمع لليهود. وعرفت أن إسرائيل هي مصدر الراحة والفخر لملايين اليهود. وفي بدايات بلوغي زرت القدس، وشعرت بالفخر حين قرأت أسماء الشوارع التي تشير إلى التاريخ اليهودي. وعرفت أن إسرائيل مخطئة في إنكار حقوق الفلسطينيين في المواطنة وحرية الحركة والانتخاب، لكن حلم الدولتين الذي سيعطي الفلسطينيين دولةً خاصةً بهم أعطاني الأمل بأنه يمكنني أن أظل ليبرالياً وداعماً للدولة اليهودية في آن واحد”.
لكن موقف بينارت تغير مع انتهاء إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ونشر خطة ترامب التي تعطي دولة الاحتلال الحق في ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية. وخلص إلى موقفه الجديد الذي يدافع عنه منذ ذلك الحين: “لقد اتخذت إسرائيل قرارها: دولةً واحدةً يعيش فيها ملايين الفلسطينيين بلا حقوق أساسية. الآن حان الوقت لأن نتخذ، نحن الليبراليين الصهاينة، قرارنا أيضاً: التخلي عن حل الدولتين وتبنى هدف الحقوق المتساوية لليهود والفلسطينيين. لقد حان الوقت لنتخيل أن مأوىً يهودياً لا يجب أن يعني دولةً يهوديةً”.
أطروحة يهودية دفاعاً عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين
صادف يوم السبت، 15 أيار (مايو) “يوم النكبة”، الذي يحيي ذكرى السبعمائة ألف فلسطيني الذين طردتهم إسرائيل -أو الذين فروا خوفًا من العنف- خلال تأسيس الدولة في العام 1948. وكان لإحياء الذكرى صدى خاص هذا العام، حيث ترافق مع الطرد الإسرائيلي الوشيك لست عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، والذي ساعد على إشعال فتيل الصراع العنيف الذي يجتاح إسرائيل وفلسطين حاليًا. وبالنسبة للعديد من الفلسطينيين، كان هذا الطرد الوشيك دليلاً على أن النكبة لم تنته بعد.
في كل عام، يمثل إحياء ذكرى النكبة نوعًا من الكفاح الذهني لتذكر الماضي والحفاظ على الأمل في إمكانية التغلب عليها -من خلال ضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين وأحفادهم إلى ديارهم. وفي المقابل، في مجتمعي الخاص، يطالب القادة اليهود، في إسرائيل والشتات، بأن ينسى الفلسطينيون الماضي ويمضوا قدمًا. وفي العام 2011، أقر البرلمان الإسرائيلي قانونًا يمنع التمويل الحكومي لأي مؤسسة تحيي ذكرى النكبة. ووجهت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية توبيخاً للمعلمين الإسرائيليين الذين يذكرون النكبة في فصولهم. وفي العام الماضي، نشر كاتبان إسرائيليان، أدي شوارتز وإينات ويلف، كتابًا بارزاً بعنوان “حرب العودة”، وانتقدا فيه رغبة الفلسطينيين في عودة اللاجئين باعتبار ذلك رمزًا لـ”نمط المواجهة المتخلفة” و”عدم القدرة على التصالح مع الماضي”.
وكما حدث، قرأت “حرب العودة” العام الماضي قبل “تيشا بآف”، اليوم الذي يحزن فيه اليهود على تدمير المعابد في القدس وموجات النفي التي أعقبت ذلك. وفي “تيشا بآف” نفسه، استمعت إلى عقدة القرون الوسطى، أو الترانيم الحزينة التي تصف تلك الأحداث -التي حدثت، على التوالي، قبل 2000 و2500 عام- بصيغة المتكلم وصيغة المضارع.
في الخطاب اليهودي، يثير هذا الرفض لنسيان الماضي -أو القبول بأحكامه- فخرًا عميقًا. وكان الفيلسوف أشعيا برلين يتباهى ذات مرة بأن لليهود “ذاكرات أطول” من الشعوب الأخرى. وفي أواخر القرن التاسع عشر، استخدم الصهاينة هذه الذاكرة الجماعية الطويلة لتأسيس حركة للعودة إلى أرض لم يرها معظم اليهود من قبل أبداً. ومنذ 2000 عام، صلى اليهود من أجل العودة إلى أرض إسرائيل. وعلى مدى الأعوام الخمسة عشر الماضية، جعل اليهود من هذا التوق القديم حقيقة. ويقول إعلان الاستقلال الإسرائيلي: “بعد نفيهم قسرًا من أرضهم، ظل الناس يؤمنون بالعودة إلى الأرض طوال فترة تشتيتهم”. وتشكل دولة إسرائيل “التحقُّق” لهذا “الحلم القديم”.
لماذا يكون حلم العودة جديراً بالثناء بالنسبة لليهود ولكنه يكونُ سلوكاً مرَضياً عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين؟ ولا يعني طرح السؤال أن الحلمين متماثلان. إن العائلات الفلسطينية التي حزنت على مدن مثل يافا وصفد عاشت هناك في وقت قريب، وهي تتذكر تفاصيل حميمة عن منازلها المفقودة. وقد عانت مباشرة من الطرد من إسرائيل-فلسطين. أما اليهود الذين عذبوا أنفسهم بالحزن لقرون في “تيشا بآف”، وأولئك الذين أنشؤوا الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر ردًا على تصاعد القومية ومعاداة السامية في أوروبا -فقد تخيلوا كل هذا فحسب.
ذات مرة قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش لمحاور إسرائيلي: “إنكم لم تتوقفوا عن الحلم. لكن حلمكم كان أبعدَ كثيراً في الزمان والمكان… كنتُ في المنفى لـ50 عامًا فقط. إن حلمي حي وطازج”. ولاحظ درويش اختلافًا مهمًا آخر بين تشتت اليهود والفلسطينيين: “أنتم خلقتُم منفانا، ونحن لم نخلق منفاكم”.
مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الاختلافات، فإن العديد من الفلسطينيين البارزين -من محمود درويش والناقد الأدبي الراحل إدوارد سعيد، إلى أستاذ القانون جورج بشارات، وطالب الصانع، العضو العربي الأطول خدمة في البرلمان الإسرائيلي- ألمحوا إلى المفارقة المريرة في طلب اليهود من شعب آخر أن يتخلى عن وطنه والذوبان في الأراضي الأجنبية. يجب علينا نحن، من بين جميع الناس، أن نفهم كم هو هذا الطلب مهين. ويواصل القادة اليهود الإصرار على أنه لتحقيق السلام، يجب على الفلسطينيين نسيان النكبة. لكنّ الأصح هو القول إن السلام سيأتي فقط عندما يتذكر اليهود. وكلما تذكرنا بشكل أفضل لماذا غادر الفلسطينيون، فهمنا بشكل أفضل لماذا يستحقون فرصة العودة.
حتى بالنسبة للعديد من اليهود الذين يعارضون بشدة السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، يظل دعم عودة اللاجئين الفلسطينيين شيئاً من المحرمات. ولكن، إذا كان من الخطأ اعتبار الفلسطينيين غير مواطنين بموجب القانون العسكري في الضفة الغربية، ومن الخطأ فرض حصار على غزة يحرم سكانها من ضروريات الحياة، فمن الخطأ بالتأكيد أيضاً طردهم ومنعهم من العودة إلى ديارهم. وقد واجه اليهود الليبراليون، لعقود من الزمان، هذه الحجة الأخلاقية بحجة براغماتية: يجب أن يعود اللاجئون الفلسطينيون فقط إلى الضفة الغربية وغزة، بغض النظر عما إذا كان هذا هو المكان الذي ينحدرون منه، كجزء من حل دولتين يمنح لكل من الفلسطينيين واليهود بلداً خاصاً بهم.
ولكن، مع مرور كل عام، بينما تقوم إسرائيل بترسيخ سيطرتها على جميع الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، فإنه حتى هذا البديل الذي يُفترض أنه واقعي يصبح أكثر انفصالًا عن الواقع. لن تكون هناك دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة، والتي يمكن للاجئين أن يذهبوا إليها. وما تبقى من القضية ضد عودة اللاجئين الفلسطينيين هو سلسلة من الحجج التاريخية والقانونية التي روجها القادة اليهود الإسرائيليون والأميركيون، حول السبب في أن الفلسطينيين استحقوا طردهم وليس لهم الحق في تصحيح ذلك الآن. وليست هذه الحجج غير مقنعة فحسب، وإنما مثيرة للسخرية للغاية أيضاً، لأنها تطلب من الفلسطينيين التنصل من مبادئ الذاكرة متعاقبة الأجيال نفسها ورد الحقوق التاريخية التي يعدها اليهود مقدسة. ولكن، إذا لم يكن للفلسطينيين الحق في العودة إلى وطنهم، فإنه ليس لنا مثل هذا الحق نحن أيضاً.
وليست عواقب هذه الجهود لتبرير النكبة ودفنها نظرية. إنها تتجلى الآن في شوارع الشيخ جراح. وليس القادة الإسرائيليون الذين يبررون طرد الفلسطينيين اليوم لجعل القدس مدينة يهودية سوى تجلٍّ جديد للمنظمات اليهودية التي أمضت عقوداً في محاولة تبرير طرد الفلسطينيين في العام 1948 من أجل إقامة دولة يهودية. إن ما لاحظه الكاتب الأميركي الأسود، تا-نيهيسي كوتس، عن الولايات المتحدة؛ وما لاحظه رئيس الأساقفة ديزموند توتو، الحائز على جائزة نوبل للسلام، عن جنوب إفريقيا -أن الجرائم التاريخية التي لا تتم معالجتها تعاود الظهور بشكل عام، بصور مختلفة- صحيح بالنسبة لإسرائيل/ فلسطين أيضاً.
وبذلك، تشكل عودة اللاجئين أكثر من مجرد توبة عن الماضي. إنها شرط أساسي لبناء مستقبل يتمتع فيه اليهود والفلسطينيون بالأمان والحرية في الأرض التي يعدها كل من الشعبين وطنه.
* * *
تبدأ الحجة ضد عودة اللاجئين بسلسلة من الأساطير حول ما حدث في العام 1948، وهو العام الذي تخلت فيه بريطانيا عن سيطرتها على فلسطين الانتدابية، وخُلِقت فيه إسرائيل، ووقعت النكبة. وتسمح هذه الأساطير للقادة الإسرائيليين ويهود الشتات بالادعاء بأن الفلسطينيين هم الذين طرَدوا أنفسهم فعليًا.
ولعل الأسطورة الأكثر تكراراً هي أن الفلسطينيين فروا لأن المسؤولين العرب والفلسطينيين طلبوا منهم ذلك. وتؤكد رابطة مكافحة التشهير (ADL)، وهي منظمة يهودية أميركية تحارب معاداة السامية، أن العديد من الفلسطينيين غادروا “بناءً على طلب من القادة العرب، وقد توقعوا أن يعودوا بعد انتصار عربي سريع ومؤكد على الدولة اليهودية الجديدة”. وقد دحض المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي زيف هذا الادعاء في وقت مبكر هو العام 1959. في دراسة لمحتوى بث الإذاعات والصحف العربية، وبيانات جامعة الدول العربية ومختلف القوى المقاتلة العربية والفلسطينية، كشف الخالدي أنه بعيدًا عن حث الفلسطينيين على المغادرة، فإن المسؤولين العرب والفلسطينيين كثيرًا ما ناشدوا الفلسطينيين البقاء. كما قدم القادة الصهاينة في ذلك الوقت تقييماً مماثلاً. وأشار جهاز المخابرات الإسرائيلي في تقرير كُتب في حزيران (يونيو) 1948 إلى أن “تأثير العمل العسكري اليهودي… على الهجرة كان حاسمًا”. وأضاف أن “الأوامر والتوجيهات الصادرة عن المؤسسات العربية” أدت إلى إخلاء 5 في المائة فقط من القرى الفلسطينية.
كما تلقي رواية المؤسسة اليهودية عن طرد الفلسطينيين لأنفسهم باللوم أيضاً على الحكومات العربية لرفضها الاقتراح الذي قدمته الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 لتقسيم الأراضي التي كان يحكمها الانتداب البريطاني إلى دولتين؛ عربية ويهودية.
جادلت رابطة مكافحة التشهير بأن “القادة الصهاينة قبلوا خطة التقسيم، على الرغم من حلِّها الأقل من مثالي. كانت الدول العربية هي التي رفضت… ولو أن العرب قبلوا الخطة في العام 1947، لكانت هناك اليوم دولة عربية إلى جانب دولة إسرائيل اليهودية، ولكان من الممكن تجنب وجع القلب وسفك الدماء اللذين جلبهما الصراع العربي-الإسرائيلي”.
وهذا مضلل. لقد قبل القادة الصهاينة خطة الأمم المتحدة للتقسيم على الورق بينما قاموا بنقضها وإبطالها على الأرض. وقد تصوَّرَ اقتراح الأمم المتحدة قيام دولة يهودية تضم 55 في المائة من أراضي فلسطين الانتدابية، على الرغم من أن اليهود لم يكونوا يشكلون سوى ثلث سكان فلسطين فقط. وضمن الحدود المقترحة للدولة اليهودية الجديدة، شكّل الفلسطينيون ما يصل إلى 47 في المائة من السكان. وقد اعتبر معظم القادة الصهاينة هذا غير مقبول. وكتب المؤرخ الإسرائيلي، بيني موريس، مشيراً إلى ديفيد بن غوريون الذي سيصبح قريباً أول رئيس وزراء لإسرائيل: “من الواضح أنه أراد أقل عدد ممكن من العرب في الدولة اليهودية”. وفي وقت مبكر من العام 1938، أعلن بن غوريون: “أنا أؤيد الترحيل القسري”. ويخلص موريس إلى أن منطق بن غوريون كان واضحًا: “من دون نوع من التهجير الجماعي للعرب من أراضي الدولة اليهودية المستقبلية، لا يمكن أن تكون هناك ‘دولة يهودية’ قابلة للحياة”.
غالبًا ما تربط المنظمات اليهودية للمؤسسة الرفض العربي لخطة الأمم المتحدة للتقسيم بالحرب التي شنتها الجيوش العربية ضد إسرائيل. صحيح أن الميليشيات العربية والفلسطينية حاربت ضد الدولة اليهودية الجنينية، حتى قبل إعلان الحكومات العربية الحرب رسميًا في أيار (مايو) 1948. حتى أنّ هذه القوات اقتربت في شباط (فبراير) وآذار (مارس) 1948، من قطع طرق الإمداد اليهودية إلى القدس الغربية ومناطق أخرى للمستوطنات اليهودية. كما ارتكبت القوات العربية فظائع. بعد أن ألقى أفراد من الميليشيا الصهيونية اليمينية، “إتسل”، قنابل يدوية على حشد فلسطيني بالقرب من مصفاة نفط في حيفا في كانون الأول (ديسمبر) 1947، انقلب الحشد على العمال اليهود القريبين، ما أسفر عن مقتل 39 منهم. وفي نيسان (أبريل) 1948، بعد أن قتلت القوات الصهيونية أكثر من 100 فلسطيني أعزل في قرية دير ياسين، أحرق مسلحون فلسطينيون عشرات المدنيين اليهود حتى الموت في حافلات على طريق القدس. وفي أيار (مايو) من ذلك العام، قام مقاتلون عرب توعدوا بالانتقام لدير ياسين بقتل 129 من أعضاء كيبوتس “كفار عتصيون”، على الرغم من أنهم كانوا يرفعون الرايات البيضاء.
لكن ما تغفله رواية المؤسسة اليهودية هو أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك منازلهم لم يرتكبوا أي أعمال عنف على الإطلاق. في كتابه “جيش الظلال”، يشير مؤرخ الجامعة العبرية هيليل كوهين إلى أن “معظم العرب الفلسطينيين الذين حملوا السلاح كانوا منظمين في وحدات تدافع عن قراهم ومنازلهم، وأحيانًا عن مجموعة من القرى”. وقد غامروا بتجاوز حدود هذه القرى “في حالات نادرة للغاية فقط”. ويضيف أنه، في كثير من الأحيان، “مد ممثلو العرب المحليون أيديهم إلى جيرانهم اليهود بطلبات لإبرام اتفاقيات عدم اعتداء”. وعندما فشلت هذه الجهود، استسلمت القرى والبلدات الفلسطينية في كثير من الأحيان في وجه القوة الصهيونية القاهرة. وفي معظم الحالات، تم طرد سكانها على أي حال. كان وجودهم شيئاً لا يمكن التسامح معه، ليس لأنهم كانوا يهددون اليهود شخصيًا، وإنما لأنهم هددوا الديموغرافيا اللازمة لإقامة دولة يهودية. (يُتبَع)
*Peter Beinart: (من مواليد 1971): كاتب، صحفي، ومعلق سياسي أميركي. محرر سابق لصحيفة “ذا نيو ريبابليك”. كتب في “التايم”، و”النيويورك تايمز” و”ذا نيوريوك ريفيو أوف بوكس” من بين العديد من الصحف والمواقع والدوريات. وهو أستاذ الصحافة والعلوم السياسية في كلية كريغ نيومارك للدراسات العليا للصحافة في جامعة مدينة نيويورك، وهو حالياً محرر متجول لموقع “تيارات يهودية”، ومسهم في صحيفة “ذي أتلانتيك”، ومعلق سياسي لشبكة “سي. إن. إن”، وزميل في مؤسسة السلام في الشرق الأوسط. له ثلاثة كتب.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A Jewish case for Palestinian refugee returnd
المصدر: الغد الأردنية/(الغارديان)