موفق نيربية
خلال عام 2020، استطاعت إدارة ترامب تصنيع عمليات تطبيع عربية أربع مع إسرائيل، وإدماج دولٍ غيرها في هذا التوجه، مع بعض التأجيل لاعتبارات متعددة. ويمكن وضع دول الخليج جميعها في هذا الخط، السعودية خصوصاً بانتظار أوضاع لا تتعارض مع وضعها الخاص، وقطر وعمان، مع ترك هامش حرٍ لهما ولاستثمار أقنيتهما مع «الآخر». في ذلك كلّه، يتموضع النظام الإيراني خَطَراً ربّما لا يقلّ عن الخطر الإسرائيلي. هذا التطبيع، ائتلافا أو تآلفا مع إسرائيل في وجه الخطر الإيراني، مهما جرى تزيينه وتمويهه، لا بدّ أن ينطلق الحكم عليه من تقليب الموضوع وتفهّمه.
لعلّ الخطوة الأولى في ما يلي هنا هي المقارنة بين الخطرين قليلاً، على الرغم من احتمال استهجان ذلك من قبل بعض الإسلاميين واليساريين والقوميين العرب، وليس كلّهم بالطبع. قد يعادي البعض إيران لأنها خطر «طائفي» وذلك بنيوي ومصيري أكثر كما يرونه، وقد يعادي البعض الآخر إسرائيل لما تشكّله القضية الفلسطينية من وزن في بنية العقل العربي وتاريخه الخاص.
حين استمع العرب إلى إسماعيل هنية يشكر إيران بحرارة مشهودة على دعمها بمالها وسلاحها، بعد شكر مصر وقطر على دورهما في وقف إطلاق النار خصوصاً؛ كانت خلفية المشهد التي تراءت لهم تستعرض ما جرى من تطبيع خلال الأشهر السابقة، بالتوازي مع احتدام الخطر الإيراني. واستندت تلك الحرارة إلى وحشية القصف الإسرائيلي، والخسائر الفادحة التي ألحقها بالمدنيين والبنية التحتية – المدنية، من جهة؛ وإلى الدعم الإيراني الذي أتاح لحماس والجهاد أن تحشدا آلاف الصواريخ في السماء، من جهة أخرى، وكذلك إلى أيديولوجية واحدة متعددة الرؤوس. يتجسّد الخطر الإيراني على الأرض في أماكن أخرى غير الدول التي قامت بالتطبيع، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إضافة إلى فلسطين نفسها، حيث يتركّز الهجوم هنا على من لا يمتلك السلطة أو القوة الكافية. في العراق على الجزء الذي لا يتماشى أو يستسلم لولاية الفقيه من الشيعة، مع غالبية السنة وغيرهم؛ وفي سوريا على كلّ تعبيرات المعارضة لنظام الأسد، وفي لبنان على كلّ ما هو خارج عن حزب الله وحلفائه، وفي فلسطين على السلطة والمنظمة وفتح وغيرها من القوى المعارضة في غزة؛ وفي اليمن على الشريحة العريضة المتضررة من عمليات الشريحة أو السلطة الحوثية.. إذن، يستهدف ذلك الخطر أنظمة الدول المطبّعة، والمعارضات في غيرها.
من الغريب – قليلاً- أن يلتقي اتجاه السهم في السياسة الإسرائيلية مع ذلك الإيراني في سوريا، التي يميل حكام إسرائيل إلى دعم نظامها وطاغيتها، ويأمنون استبداده أكثر من «ديمقراطية» خصومه، التي يُفترَض نظرياً أن تكون أكثر جنوحاً للسلم في ما بعد. وربما تتأثّر مواقفهم تلك بما يراه بعض الباحثين من ضرورة التعويل على الأقليات أكثر من الأكثريات بإرثها ومظلوميتها وشطحاتها. أصبح واضحاً أن إيران الخامنئية تريد شقّ طريقها في غربها حتى البحر الأبيض المتوسّط، ولا يبدو على أحد أنه يصدّق الادعاء بأن المقصود من ذلك هو الالتحام المباشر بالجبهة مع إسرائيل على حدودها؛ في حين يزداد الاقتناع أنها فتوحات دينية – طائفية، واجتياحات تحمل غبار تاريخ الغزاة السابقين.. ينجو المشروع الحوثي من هذا الظنّ قليلاً وليس كثيراً، مع تحميله بحمولة أكثر أهمية، يحلم كما يبدو بالوصول إلى الرمال الدافئة بالنفط والحج حول الحرمين الإسلاميين، من جنوبهما. لم ينطلق موقف الجهاد الإسلامي وحماس من فراغ بالطبع، فالخطر الإسرائيلي أكثر راهنية في داخل فلسطين، وأكثر رواجاً شعبياً بالطبع؛ الأمر الذي لا يخدم الرئيس عباس وسلطته كثيراً، ربما لذلك لم تحظ إصابة صاروخ من صواريخ غزة للسيد خليل عوض في اللدّ، ليموت مع ابنته الصبية المراهقة نادين، بتغطية إعلامية كافية وواجبة، تختلف عن تغطية الخسائر الإسرائيلية، وتضعهما في صورة – مهما صغرت – إلى جانب صورة الشهداء المدنيين بأطفالهم السبعة والستين الذين سقطوا بنيران القصف الإسرائيلي.
تحلم أقسام مهمة من النخب الإسرائيلية بتهويد الضفة الغربية، وتمارس ذلك، في حين تخلّت طوعياً عن حلمها بتهويد غزة، وهيأت بعض مقدّمات هيمنة حماس ومثيلاتها، ربما لتكون فزّاعة دائمة للعالم من الخطر الإسلامي – العربي. ولا تحلم أو تهدف إسرائيل للتوسّع فيزيائياً خارج الحدود التاريخية لفلسطين، مع ما تمثّله من خطر تهديه للأنظمة الاستبدادية، حتى تستخدمه في استدامة هيمنتها، وتمتصّ بذلك دماءها وثرواتها في الإنفاق العسكري، للحفاظ على تلك الأنظمة أولاً وقبل الأهداف الأخرى… تلك الأنظمة التي تستخدم الديمقراطية الإسرائيلية – بعنصريّتها البغيضة – لمساعدتها على حرمان شعوبها من الديمقراطية. نحن من جيل استهلكته إسرائيل طوال حياته، كما قال سعدالله ونوس قبل رحيله بقليل، واستنزفت روحه وعقله ونهضته التي كانت محتملة، فكانت وعن حقٍّ اتّجاهَ النظر الإجباري والهدف المسموح به من أجل تغيير حياتنا وواقعنا، وكانت أيضاً سلاحاً إضافياً لقمعنا وإسكاتنا من قبل نظامنا الاستبدادي الخانق. لذلك ندرك حرج ما يُقال هنا، ونشعر بما يشبه شعور مرتكب المعصية. ورغم ذلك ينبغي إخراج رأسنا خارج مياه المستنقع الآسنة، ليس للتنفس وحسب، بل أيضاً للتأمل بشكل لم نعهده في الشروط التي كنا نعيشها، ولا نزال.
كان السيد أسامة حمدان الناطق باسم حماس بليغاً في تعبيره حين قال في مقابلة مع قناة «الميادين» منذ شهرين تقريباً «يسعدنا الحديث عن انتخاباتنا… بالتأكيد بعد تحرير فلسطين سيكون ذلك أمرآً حقيقيا» ليفعل بذلك ما فعله حكامنا لسبعين عاماً، يطالبوننا بتأجيل كلّ قضايا نهضتنا بانتظار تحرير فلسطين، وكأن إسرائيل لا تنتصر علينا دائماً إلّا بما حققته من نهضة باهرة، تغطّي بها على عدوانيّتها. من الطبيعي إذن أن يشكر حمدان بعد وقف إطلاق النار بشار الأسد ونظامه.
وإذا وضعنا المسألة الطائفية جانباً كما يجدر بنا، فلن يختلف الإخوان المسلمون عن ولاية الفقيه، بإمكانية الجنوح إلى السلم بطريقة براغماتية معمّقة لطالما خبرناها، وعبّرت عن نفسها ببعض خطوات اللقاء بينهما في السابق واللاحق… ولكن الزمان الآن للروح «الجهادية» والرايات الخفاقة، بانتظار «تحرير فلسطين» الذي يمكن أن يتقمّص عندئذٍ بأشكال وكوابيس لا نتوقّعها.
لعلّه في ما يخصنا في سوريا، قد يمكن مقارنة الخطر الإسرائيلي بذلك الروسي افتراضاً، ولكن ليس بالخطر الإيراني الذي يهاجم عضوياً وجسدياً وأيديولوجياً.. مع تفهّم لا يغيب لحالة أهلنا وأصدقائنا في فلسطين أينما كانوا. والأمر غير المفهوم هو ظاهرة الاندفاع إلى التطبيع مع النظام السوري، التي قد تبدو شبيهة بالتحام الملاكم مع خصمه لمنعه من الحراك، وتدخّل الحَكَم، لكنّها في واقع الأمر استعادة للخطر الإيراني، ودغدغة لمشاعره متناقضة مع السياق تماماً. ومهما كانت صعوبة استعادة القضية الفلسطينية من بين الأيدي الإيرانية – الخامنئية، فذلك هدف ضروري من كثير من النواحي، لعلّ أهمها ما كان في المستوى الأخلاقي، لأنه الأدنى الذي يُبنى عليه…
المصدر: القدس العربي