مصعب عيسى
طوال تلك العقود الثلاثة ونيف التي قضيتها من المولد حتى بداية الكهولة وشعور دائم بالنقص والدونية يرافقني كأي لاجئ في بلاد العرب لان اللجوء في تلك الاصقاع كان له تعريف مقولب ومحدد حسب شمولية النظام الحاكم في بلد اللجوء.
اللاجئ في بلاد العرب كان متساويا مع المواطن من حيث حرمانيته من كثير من مزايا الانسانية والتي تتراسها العدالة الاجتماعية والحريات الاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية.
كنا متساوون امام بطش السلطنة..لاصوت يعلو فوق صوت المقصلة في بلد اشتراكي السمعة قومي المظهر حيث غدا الانسان ارخص وابخس راسمال في الوجود .
لقد كان المواطن غريبا في بلده فكيف بي انا اللاجئ المنحدر من ارض تواطأت اغلب انظمة العالم ضده لتثبت شرعية المستعمر بصك دولي صانته القوانين والاعراف الدولية التي وجدت خصيصا لهذه الغاية .
كنت لاجئا ثنائي القضية أحدهما يبحث عن المواطنة والثاني لاجئا يبحث عن الوطن وبين الوطن والمواطنة ثمة ملحمة جدلية لا تنتهي .
بين وطن تسكنه..ووطن يسكنك يرافقك مثل ظلك اقرب اليك من دم الوريد..
وطن يضرم ناره الازلية فيك مذ كنت رضيعا ..يتمشى في خياشيم ذاكرتك التي لم تسكنه يوما ..لكنك ورثته بالتقادم من ابيك وامك.
وطن يتربع على عرش تفكيرك يقودك نحو اليمين ونحو اليسار للأمام دوما..ولامجال للتراجع فيه لان الوراء سيفتح للنسيان احتمالا للخيانة ..
ليس من السهل ان تكون فلسطينيا ..لأنك ستبقى على اهبة الانتظار والرصاص والاشتعال .لأنك ورثت تاريخا ثقيل التضاريس وعليك أن تحفظ ملامح خارطة الجسد بقعة بقعة وحجر حجرا ونكبة نكبة ..عليك أن تستحضر ارواح كل أبناء هذه الأرض الذين وطئوها منذ البداية .
وعليك أن ترتب تفاصيل السراب جيدا وتفتح للحبر ابواب السرد والنثر والقصيدة كي تقاوم الاختزال المفاجئ.
كنت وأناي السورية والانا الفلسطينية في زقاق الخيمة احاول التملص من اناي ككلها او أُنزل عن كاهلي احداهما لعلي ارتب تلك الفوضى التي تجتاحني مذ ولدت ..احاول الاتجاه يمينا فاصطدم بحاجز المواطنة الذي انزلني من حلمي لارتطم بحذاء عسكري اصبح قانونا للدولة والمجتمع .
ثم احاول الانحراف يسارا نحو سفح الجرمق .وإذ بجندي من الواق واق غريب بكل تفاصيله وجسده وروحه وحديثه عن تراب الارض يقف على حدود لاحقة الصنع يمنعني من الدخول إلى ارضي.
كلا الحالتين كان العسكر هو من يوقظني من غفوتي وإذ بي تائها ابحث عن نفسي وعن ظلي وعن اناي التي تشعبت في تعاليم وجهي . إلى أن ركبت البحر نحو لجوء جديد ابحث عن ظل ينقذني من صراع الانا الدائر في ثنايا الجسد وشظايا الروح..
قبل أيام احضر لي ساعي البريد ظرفا أبيض اللون محكم الاغلاق ممهورا بختم رسمي، لقد كانت الرسالة من بلدية المدينة مفادها :
(نتمنى لك امنيات سعيدة لقد اصبحت مواطنا بلجيكيا بكل الحقوق والواجبات )
لم أصدق نفسي ..انتابني شعور بالفرح والحزن والذهول بآن واحد..لم اعهد المواطنة يوما شعرت انني امام مرحلة صعبة من الاندماج والتأقلم.
رحت احاور نفسي ثانيا ..كيف يكون المواطن ؟. كيف أصبح مواطنا في بلد لم امكث فيه الى الان سوى ست سنوات ..؟
كيف أصبح مواطنا وانا الذي قضيت عمرا باكمله ابحث عن تعريف المواطنة .؟
كيف ساصبح مواطنا بوطن جديد احتضنني..وانا المسكون بوطن يتربع في صدري لا افارقه ولا يفارقني ؟
انا المسكون بالخيمة..والانتظار .
انا المواطن الواقف على عتبة السؤال وابواب الاحتمال ..المتربص لذاكرته الملتهبة منذ عقود ..هل اصبحت مواطنا فعلا ..ورائحة المطر في الخريف لاتزال عالقة بانفي حين تمتزج مع التراب .
هل اصبحت مواطنا فعلا . والمخيم يطوف بي ليلا كل حلم يعدد اسماء الحواري حارة تلو اخرى .
هل اصبحت مواطنا واناي الفلسطينية لازالت هائمة تبحث عن مسكنها الحقيقي على سفح الجرمق..
الجدلية اتسعت ورقعة الحنين ازدادت..والأرض ضاقت بنا وحدنا .