د- عبد الناصر سكرية
مثل عربي شائع معروف يساعدنا في فهم وتفسير مواقف الكثيرين من ثورة ٢٣ تموز/يوليو العربية المصرية الناصرية؛ وفي معرفة أبعاد الحملات المستعرة المستمرة ضد جمال عبدالناصر رغم مرور ما يزيد على نصف قرن على وفاته وانقطاع مسار تجربته بفعل الردة الساداتية.
إن مقارنة بسيطة موضوعية بين حال مصر والعرب اليوم وبين حالهم سنة ١٩٧٠ عام وفاة جمال عبدالناصر؛ تكفي لفهم أبعاد هذه الحملات المعادية كما للدلالة على عدة أمور أساسية هامة :
١ – الفارق النوعي الشاسع بين حال العرب آنذاك وبين حالهم اليوم :
في كل ميادين الحياة وكل مجالات السياسة والإقتصاد والثقافة والفن والأدب والأخلاق..
حينذاك حيث العزة والكرامة والبناء. واليوم حيث الخنوع والتردي والهوان..
٢ – القيمة الكبرى للمرحلة الناصرية فيما يخص حياة مصر والعرب ومكانتهم ومعنوياتهم..
فمنذ أن مات جمال عبدالناصر بدأ التراجع والإنحدار والتهافت في كل شيء حتى وصلنا إلى ما نحن فيه راهنًا من ذل وهوان..ما يعني أن الخط الفكري والرؤية النهضوية الشاملة والقيادة الحرة الشريفة المخلصة هي التي صنعت ذلك الفارق النوعي الخطير..
٣ – هول الحملات المنظمة المدروسة المتعاظمة على الرجل وعلى تجربته..والهدف تقزيمه وتشويه تجربته وصولًا الى فض الإلتحام الجماهيري العربي الحر بها..ثم الإشتباك معها مقدمة للانسياق في كل ما يعاكس توجهاتها التحررية النهضوية الوحدوية..فالخوف الذي يرعب أعداء الأمة أن تعود فتجدد تلك التجربة التحررية النهضوية التي شكلت خطرًا كبيرًا على مصالحهم جميعًا..
٤ – زيف كل الإدعاءات والمقولات الفكرية والثقافية التي تجرد العرب من أية قيمة حضارية وإنسانية كما من اية مقدرة على البناء والتحرر والنهضة لخلل ذاتي فيهم وفي عقلهم وفي تراثهم الديني..
فهم وخلال أقل من عقدين من الزمن مليئين بالمخاطر والعدوان استطاعوا التقدم في كافة المجالات والميادين فأصبحوا قوة عالمية تمنع وتمنح ويحسب لها حساب ..ففي سنة ١٩٧٠ كانت مصر دولة قوية اقتصاديًا متحدة وطنيًا صامدة عسكريًا متقدمة علميًا وبحثيًا وثقافيًا..وكان الوضع الشعبي العربي متماسكًا مندفعًا بإتجاهات نضالية تتطلع إلى التحرر والنهضة والبناء.
٥ – تهافت دعوات التبرؤ من العروبة وتحميلها مسؤولية الهوان والضعف والتردي الذي نحن فيه..فحينما كانت هناك رسالة عربية قومية عروبية بقيادة مشروع بناء قومي وتحرر اجتماعي على قاعدة الإلتزام بالعروبة، نجح العرب في كثير من معارك البناء والتحرر وأقاموا صرحًا اقتصاديا وتفاعلا وحدويا شعبيا ذا مستوى عال وديمقراطي وإنساني رائع..
حصل التراجع والتردي منذ أن غاب مشروع التحرر والتقدم على أساس العروبة والهوية القومية..وليس العكس..حينما تراجع مشروع التقدم العربي؛ تقدمت كل مشاريع الإنحطاط والإنقسام والإستسلام والتخلي والولاء للأجنبي والوقوع تحت سطوة إملاءاته..
حينما اختفت مفاعيل العروبة من سياقات السياسة والمواقف والمناهج ؛ برزت الخيانات والتراجعات والتفكك والتشرذم والخضوع …
إن المقاربة الموضوعية في مثل هذه المقارنة تأتي لصالح تجربة جمال عبدالناصر بأبعادها التحررية الوطنية والقومية..
فلماذا إذن تتصاعد الحملات المعادية لتلك التجربة وقائدها ؛ تبث من الأكاذيب والإدعاءات المزورة والوقائع المختلقة ما يكفي لتحويل الجبال إلى بحار وإخفاء كل أثر لها..
وعلى الرغم من وفاة جمال عبدالناصر قبل ٥١ عامًا وانقطاع النظام المصري عن الإستمرار في توجهاته بل عاكسها تمامًا حيث تبنى منذ انور السادات نهج معاداة عبدالناصر ومعاداة كل تجربته وقيمها وانجازاتها… إلا أن الحملات المعادية له ولها ما تزال مستمرة فيما تبدو مدفوعة الأجر مسبقًا من جهات متعددة..فهي حملات مدروسة مطلوبة ومتعددة المصادر والمشارب أيضا ..لكنها تصب في هدف واحد :
تشويه تجربة الناصرية وإسقاطها من الوعي العربي وتحويل صورتها ومعانيها – بعد تشويهها وتسفيهها بالإفتراء والتلاعب والتزوير – إلى دافع باتجاه كل ما يعاكسها ويعاديها..فعلى سبيل المثال فقد اتخذ السادات من وقوف عبدالناصر مع القضايا العربية ذريعة للإنحراف نحو فرعونية كاذبة تستسلم لأعداء مصر والإرتداد عن أي تفاعل إيجابي مع العرب وهو ما أفقد مصر مكانتها وهيبتها وقيادتها للمنطقة وبلغ التهافت في قوتها ومكانتها أن دولة ضعيفة غائرة كأثيوبيا تتحداها في أمنها ومائها وحياتها فيما هي تستجدي حلا أيا يكن من أعدائها أنفسهم..وكانت ذريعته أن عبدالناصر اضاع مقدرات مصر في دعم العرب..
كذلك إتخذت السلطة المصرية من نهج عبدالناصر الإشتراكي نحو عدالة إجتماعية وتكافؤ الفرص بين الناس والتوزيع العادل للثروة الوطنية : ذريعة لتطبيق كل ما يخالف هذه القيم وينهيها في حياة المصريين ..فباع القطاع العام وسلم الإقتصاد للأفاقين أذناب الرأسمالية العالمية فيما يكتوي غالب الشعب من الفقر والبطالة والغلاء والحرمان..تحت حجة الإنفتاح فشل القطاع العام وحرية الإستثمار والإستهلاك وهو ما كان ممنوعا أثناء المرحلة الناصرية..
هذا في الواقع المصري ..
فماذا إذن عن الواقع العربي الراهن ؟؟
لا يختلف إثنان ممن يشخصون الواقع العربي ، ومهما تكن خلفياتهم السياسية أو العقائدية ، على ما فيه من ذل وضعف وهوان وعلى غياب أية رؤية عربية نهضوية وغياب أي مشروع عربي جامع..وعلى إستقواء كل أعداء الأمة عليها واستخفافهم بها وبما تملك وما عليها من بشر وطاقات وامكانيات..ولجوء بعض أطراف النفوذ فيها على الإستقواء بمن يطمع فيها ويتربص بها شرا ويناصبها العداء المباشر أو المستتر..
وأن الكثيرين من محيطها وجيرانها يعبثون بامنها ووجودها وحتى بتكويناتها الداخلية الإجتماعية والسكانية وبوحدة ترابها وأرضها وشعبها..
بلغ الهوان أن صار عدوها التاريخي ملجأ لبعض النافذين يطلبون منه العون والحماية..
ووصلت قضية فلسطين درجة من التراجع أن أصبح الإنقسام يهدد وحدة الشعب وبالتالي وحدة القضية ذاتها وآفاقها المستقبلية..
دولة الإسرائيلي تتدخل في كل شيء ومكان.تقرر وتمنع وتمنح وتهدد وتخرب..بضائعها تملأ الأسواق العربية ظاهرة ومخفية..
الانسان العربي في ضياع وحيرة وإستنزاف..أغرقوه في هموم حياتية معيشية بدائية في أغلب البلدان العربية..وهي من البلاد الغنية فينهبون أموالها ومواردها ويكدسونها في بنوك الأعداء بأسماء الفاسدين المأجورين..
عدد كبير من البلدان مهدد بالإختفاء والتقسيم أو هو في طريقه لذلك الآن دونما رادع أو خوف من قوة عربية…
الأمن العربي مستباح..كذلك الأرض والعرض ..ليس للعرب دور في الحياة العامة..ولا حتى في حياتهم أنفسهم..حيث مصائرهم تتقرر في غير بلادهم وبغير إراداتهم..
عصبيات مزروعة مدروسة تتغذى على أوهام مصنوعة ترفدها مصالح وإرتباطات مأجورة..دينية وسياسية وطائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية..
لا تنمية حقيقية ولا نهضة ولا تقدم..اقتصاد إستهلاكي ريعي وأموال عامة منهوبة وفساد مستشر يعيق كل تقدم وبناء ونهضة.
إهتزاز قيمي وإختلال نفسي في قطاعات واسعة بفعل القهر والفقر من جهة وبفعل غزو العولمة الرأسمالية الاستهلاكية المخربة دونما مواجهات وطنية وقومية تعزز المناعة الذاتية وتقوي الثقة بالنفس وبالشخصية القومية المتكافئة..
لا يختلف أحد في صوابية هذا التوصيف للواقع العربي الراهن – عموما – وما فيه من سلبيات ..
وعلى رغم إيجابيات كثيرة ومهمة في هذا الواقع الراهن ؛
وعلى رغم سلبيات كثيرة كانت موجودة في مرحلة التجربة الناصرية ؛ إلا أن المقارنة الموضوعية تظهر بوضوح الفارق النوعي الهائل بين المرحلتين وفي كل المجالات أيضا وليس في مجال السياسة والمواقف وحدها..
فمن أولى خطوات البناء الإقتصادي المتحرر إلى إستقلالية القرار السياسي والإرادة الوطنية ،
ومن سعي مستمر للتحرر وتحرير كل ارض عربية ونصرة كل شعب عربي ؛ إلى تضامن فعلي مع كل حركة تحررية أينما كانت ؛
ومن رؤية واضحة لتاريخ الامة وطبيعة القوى المعادية لها ؛ إلى مشروع متكامل لبناء مستقبل عزيز كريم متحرر موحد لها؛
ومن مشاركة شعبية حقيقية في صنع القرار وتحديد اتجاهات المستقبل والاستفادة من موارد الأمة والمشاركة الحقيقية في معارك البناء والنهضة والتقدم ؛ إلى إلتحام جماهيري شعبي عارم في ميادين المعارك والصراع المتنوعة بما فيها الثقافة الفن والأدب…
كل ذلك جعل من تلك المرحلة متميزة نوعيا بحيث شكلت علامة فارقة بارعة في مسيرة أمتنا الحديثة نحو تحررها ونهضتها وبناء مستقبل حر كريم لها …
ذلك بالتحديد ما صنعه جمال عبدالناصر وما صنع زعامة جمال عبدالناصر التاريخية وأدخله في الوجدان العربي الشعبي رمزًا من أصدق رموزه وأعمقهم أثرًا وأكبرهم مقدرة على المواجهة وأكثرهم وعيًا وسعة أفق وإستشرافا للمستقبل ..فتحقق ذلك الإنصهار الوجداني التام في النفس العربية المتحررة المفعمة بالعزة والكبرياء وبالكرامة والإباء..
هذا ما جعل علاقة جمال عبدالناصر بالوجدان الشعبي علاقة لا مثيل لها في تاريخ البشرية وتاريخ السياسة والدول… بين قائد وشعب..
ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي تجعل الحملات المعادية مستمرة الى الآن لتشويه عبدالناصر القائد والرمز والتجربة..إنها تستهدف ذلك الإنصهار المستعصي على الإقتلاع بين جمال عبدالناصر ووجدان كل إنسان عربي حر شريف..
فهو المتوفي فإنقطعت أفعاله في قيادة مصر او في توجيه حركة التحرر العربية وتوقفت بالردة الساداتية الخائنة تجربة البناء والتحرر والنهضة التي كانت تخيف أعداء الأمة جميعا ؛ وأعداء تحررها وتقدمها ووحدتها ؛ عربا كانوا أم أجانب ..فلماذا إستمرار الحملات ضده ومم الخوف إذن إن لم يكن من مثل هذا الإنصهار الوجداني بين الرمز والشعب..وهو إنصهار ما دام قائما فلا بد أنه سيتفاعل في وعي الناس ليشكل دافعا لحركة جماهيرية تغييرية جديدة تعيد ألتجربة أو تستكملها من حيث تعطلت قسرا بعد مواءمتها مع كل المتغيرات والمستجدات والمتطلبات..
وهذا ما يثير الذعر في نفوس أعداء الأمة جميعا فيتكالبون – متحدين ومتفرقين – فيعملون تزويرا وتشويها في القائد – الرمز وفي كل ما فعل لئلا تقوم للامة قائمة من بعده…وكما بات واضحا جدا فإن وجود الأمة كلها هو المستهدف بالإقتلاع والتشريد والتفتيت والشرذمة والإستلحاق قطعا قطعا بالحمايات الدولية..وما الواقع الراهن سوى براهين عينية جلية على ذلك كله..
وهذا هو السبب الذي يفسر ذلك العجب…العجب في تكالب كل قوى التبعية والنفوذ الأجنبي بما تملك من إمكانيات هائلة لتشويه التجربة الناصرية وإزاحتها من الوعي العربي…رغم نصف قرن من غياب قائدها.
وهذا بدوره ما يجعلنا نتمسك أكثر بقيم ومعاني وثوابت تلك التجربة باعتبارها خيار الأمة المتاح والممكن لرد كل عدوان على وجودها وحقها في التحرر والتقدم والوحدة…حقها في حياة حرة كريمة بديلا عن حياة الذل والضعف والهوان التي تكاد تسحقنا فتلغينا من الوجود الإنساني..
هل يعني هذا صفاء التجربة من النواقص والأخطاء ؟؟ أبدًا..لكنها التجربة العربية الكبرى التي قطعت أشواطًا بارزة في مسيرة التحرر والبناء والنهضة فكانت الفرصة العربية التاريخية للتحرر والوحدة بقيادة جمال عبدالناصر الفذة.
لكن أعداءها حالوا دون استمرارها بكل ما أتيح لهم من قوة وإمكانيات. فمن هم هؤلاء الأعداء وماذا فعلوا بأمتنا ؟؟
يتبع..