د- عبد الناصر سكرية
أظهرت أحداث الفترة الماضية منذ أن انتشر وباء الكورونا وما صاحبها وتخللها من مؤتمرات علمية ونقاشات وحوارات وتوجيهات طبية متنوعة؛ أن عدد ومستوى ونوعية الأطباء العرب المنتشرين في كل بلاد العالم الغربي تحديدا؛ أكبر مما كنا نتصور…وبسبب من غياب الإحصائيات عن مثل هذا الموضوع المهم ودلالاته؛ فقد كنا نجهل مستوى هذا الإنتشار ومدى أهميته العلمية والطبية للبلاد التي يعمل فيها وللتقدم الإنساني العام.
ليست المسألة عددية بل نوعية بإمتياز.
عدا عن أن عدد الاطباء كبير جدا إلا أن للأمر دلالات أخرى ذات أهمية خاصة تستدعي تحليلها والبناء عليها..
١ – من حيث العدد يبدو أنه كبير جدا..وحيث ان الذين تحدثوا في وسائل الإعلام كانوا من ذوي الإختصاصات التي تتعلق بطب الأوبئة والباطنية والمناعة فقط وكانوا باعداد كبيرة ، فكيف يكون عدد الاطباء العرب في كل التخصصات الطبية والصحية الأخرى ؟؟ لا شك أنه كبير جدا..
٢ – نوعيا يزداد الأمر أهمية..فجميع الذين ساهموا في تلك المناقشات والحوارات الطبية من ذوي الإختصاصات المرموقة والمتقدمة..جميعهم يتمتعون بمستوى معرفي وعلمي بارز ومتميز في مجالهم..وهذا يشير الى شيء من التميز والتفوق كل في مجاله وفي البلد الذي يعمل فيه..
٣ – جميعهم يتحدثون اللغة العربية بشكل إعتيادي .فهذا يعني أنهم نشأوا في بلادهم العربية ودرسوا الطب فيها ثم غادروا الى بلد أجنبي لمتابعة التخصص الطبي ويبدو أن غالبيتهم إستقروا حيث تخصصوا وبرعوا وتميزوا ..فما الذي دفعهم للبقاء حيث هم دون العودة إلى بلادهم والعمل فيها ؟؟
٤ – إن عددا لا يستهان به من الأطباء العرب قدموا حياتهم وهم يغالبون الوباء ويتقدمون الصفوف لمساعدة المرضى والإهتمام بهم ..حتى أن كثيرين منهم كانوا يعملون لساعات إضافية متواصلة فقط للبقاء إلى جانب المرضى..فكان هذا دليلا على بعد إنساني – أخلاقي متميز لدى هؤلاء..هل يعني هذا شيئا ما كونهم عربا ؟؟
٥ – من حيث العمر فإنه منطقيا وبديهيا أن يكون عمر مغادرتهم بلادهم لمتابعة التخصص الطبي لا يقل عن خمس وعشرين سنة..وهذا يعني أنهم ولدوا ونشأوا في بلادهم العربية..وتكونت شخصياتهم الإنسانية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية في مجتمعهم الأم..بين أهاليهم وأسرهم وأبناء مجتمعهم وزملاء دراساتهم..من بيئتهم الإجتماعية استمدوا مقومات شخصياتهم ومكونات بنائهم الأخلاقي القيمي…وحينما غادروا إلى بلاد أجنبية عاشوا بشخصياتهم تلك وأخلاقهم وقيمهم تلك..ها هم يبرعون ويتفوقون ويتميزون ..
وحينما يبرعون فإنهم يتميزون على أبناء البلد الأصليين ويتقدمون عليهم علميا..
وحينما يبرزون إنسانيا ومهنيا فإنهم يتميزون عليهم أخلاقيا ..حيث أن بروز الجانب الإنساني التضامني الذي يشكل دوافع لهم لمزيد من الإهتمام بالمرضى حتى فيما يتجاوز حدود عملهم الطبي ، فإن هذا يؤشر إلى منظومة أخلاقية ذات جذور وعمق وأصالة.
هل لهذا صلة بالتوصيفات السلبية الكثيرة التي يطلقها بعض المتثقفين من النخب العربية المبعثرة ذهنيا المشتتة ثقافيا ؛ على الإنسان العربي متهمين إياه بالجهل والتخلف والعقم الفكري؛ أو متهمين تراثه وإرثه الأخلاقي بالسلفية والتحجر والجمود ؟؟
وللإنصاف فإن هذا الإنسان الذي ولد ونشأ في بيئة عربية محافظة هو ذاته الذي أصبح طبيبا ثم غادر بلاده شابا فتفوق في بلاد اجنبية غربية ..
المشكلة إذن ليست في هذا الإنسان أو عقله أو قيمه الأخلاقية التي زرعتها فيه بيئته الاجتماعية أو تربيته الدينية المؤمنة ؛ ولا في بنيته الثقافية والفكرية..
أين الخلل إذن ؟؟
وهل بإمكانه أن يبرع ويتقدم ويتفوق لو بقي في بلاده ؟؟
في الإجابة الموضوعية على هذا التساؤل تكمن الحقيقة المؤلمة..
لو كانت العوائق في بنية الانسان الثقافية او الأخلاقية لما استطاع ان ينجح ويتميز ويتفوق علميا وإنسانيا..
المشكلة في الظروف التي تفرض عليه في بلاده ..من أول القهر إلى آخر قوانين التعسف والتسفيه والتسخيف..مرورا بخنق الإبداع ومحاربة النجاح وقطع الطريق وسد الفرص أمام التطور العلمي والبحثي ؛ سواء بالقوانين المحبطة البالية أو بالإجراءات البيروقراطية المعيقة أو بالإستئثار بالنفوذ والصلاحية لفئة محدودة لا تقيم للعلم والتقدم وزنا..وهذا كله مما تمارسه سلطات القمع المحلية الإقليمية المتحكمة بكل الموارد والإمكانيات والسلطات..
هذا كله مما تمارسه تلك النظم وأدواتها المتخلفة لخنق الإبداع والطموح من خلال خنق الحريات ومصادرة آفاق التقدم والتطور لأن من شأنها أن تفتح أبواب التغيير فيما هي تريد تأبيد سلطاتها وتسلطها وإستئثارها بالبلاد والعباد أيضا..
المشكلة في النظم الجائرة المتسلطة المعادية للتقدم..وأول إجراءاتها الرافضة للتقدم حرصها على إستدامة الواقع كما هو وبما فيه من فقر وتخلف وتبعية ومن غياب العدل والحرية والكرامة..
إن الشعور بالأمان والطمأنينة أو ما يمكن تسميته بالأمن النفسي للإنسان هو شرط ضروري للتقدم والإبداع والعطاء..
وحيثما توفرت للإنسان العربي مثل هذه الظروف؛ أبدع وتفوق وتميز..
عكسيا حيثما تصادر كرامته وحريته وحقوقه في بلاده من قبل أنظمة القهر والإستعباد الراهنة؛ يكتئب وينطوي على ذاته مكتفيا بتأمين مقومات البقاء والحياة؛ أو يهرب إنقاذا لروحه وطموحه معا.
ليس هذا إطلاقيا بمعنى أنه ليس مكتمل الدلالة على حالة كل بلد عربي أو حالة كل فرد عربي مهاجر..
كما لا يعني أنه لا يوجد في بناء مجتمعاتنا ما هو سلبي أو متخلف أو معيق يحتاج إلى نقد ونقض معا لإفساح مجالات الإنعتاق والتحرر والتغيير الإيجابي أو أن تراثنا وإرثنا الثقافي والإجتماعي خال من الشوائب والثغرات والتشوهات التي تحتاج الى تصحيح..
لكن الأصح أن البنية الهيكلية لأنظمة السلطة والحكم والإدارة هي المعيق الأول والأساس وهي التي تقف بوجه التقدم والتطور والحرية والإبداع وإثبات الذات..
إنها الهياكل العاجزة التي صنعتها أنظمة القهر والتبعية ومن يقف خلفها ويحميها لمصادرة عمليات التفاعل والجدل الإنساني والإجتماعي بين الإنسان الحر وأرضه ومجتمعه ..وهو التفاعل الذي يفتح آفاق التقدم والتطور..وهذا ما لا تريد ولا تشجع عليه هياكل التسلط الإقليمية التجزيئية الحاكمة ..بل تحاربه وتمنعه بشدة وعنف بفعل ما تملك من قوانين واجهزة وإمكانيات..
لهذا كله يهرب العقل العربي من بلاده ولا يرغب في العودة إليها..
ومع أن عددا ليس بقليل عاد وعمل واجتهد إلا أنه بقي أسير ذات الهياكل البالية العاجزة المعجزة لكل تطور..
إن نجاح الإنسان العربي خارج ظروف بيئته العربية إنما يشكل دليلا قاطعا على تهافت كل مقولات المتثقفين من النخب المستغربة التي تتهم العقل العربي بالقصور وعدم القدرة على الإبداع والتميز بسبب من تكوينه الثقافي الفكري التراثي المتخلف..
وعلى كل حريص على فتح آفاق التقدم والتطور لمجتمعاتنا وإنساننا العربي ؛ أن يعمل لتوفير ما هو قائم في بلاد غير العرب الغربية المتقدمة من سيادة القانون وإحترام الحقوق والمساواة بين المواطنين والعدالة والحريات والكرامة حيث السلطة في خدمة البلد واهله وناسه وليس العكس…ان يعمل المخلصون بتوفير هذه البديهيات المسلمات في بلادنا لهو أهم واجب وطني وأخلاقي وإنساني..
المشكلة أن هذا يضعهم في صدام خلافي مع هياكل السلطات القائمة ومصالحها..فكيف يفعلون وماذا يعملون ؟؟ هذا هو التحدي الابرز أمامهم..
إزاحة العوائق السلطوية ومن معها من النفوذ الأجنبي المباشر والمستتر ؛ شرط لازم لنقد ضروري ونقض ممكن ومطلوب لما في مجتمعاتنا من تشوهات وسلبيات ونعرات..حتى يكون المستقبل أفضل والأبواب مشرعة ومحمية أمام كل طاقة إبداعية وعطاء إنساني متفوق..
إن التكويني التاريخي الحضاري بأبعاده الإنسانية والأخلاقية المتأصلة والعميقة في ضمير الإنسان العربي ووجدانه ؛ جعلت منه إنسانا متميزا بما يجسده من معاني الإيثار والتضحية والتضامن والشهامة والغيرية والكرم..كما سعة الأفق وتنوع الأبعاد الثقافية والمقدرة على العطاء والتفاعل الإيجابي البناء.. إنه يحتاج نظمًا ترعاه لا نظمًا تقمعه.