اختتم تجمع مصير أعمال الدورة التاسعة للمجلس المركزي، يوم الثلاثاء الموافق 6/7/ 2021، بعد تغطية كافة مواضيع جدول الأعمال، التي بحثها أعضاء المجلس على مدار يومين. حيث تم تناول البنود السياسية والتنظيمية والمالية، وإقرار التوجهات العامة للتجمع في المرحلة القادمة. وتكليف مكتب التنسيق العام بمتابعة تنفيذها، وذلك بعد جولات من المراجعات والمناقشات حيال تحولات المشهدين الفلسطيني والسوري، وكيفية العمل على تطوير أداء هيئات التجمع، في مختلف الساحات التي ينشط فيها. وكانت مساهمات ومقترحات الأصدقاء الضيوف الذين حضروا الاجتماع، مما أثرى العديد من الملفات والقضايا التي جرى تداولها وبحثها. وحرصاً على وضع خلاصات ومخرجات الدورة التاسعة للمجلس المركزي، قيد الاطلاع والحوار مع كافة القوى والشخصيات الفاعلة على جبهات الحرية والتغيير السياسي الديمقراطي في الدول العربية، ينشر المجلس التقرير الختامي الصادر عنه، والذي يتضمن رؤية ومواقف التجمع حيال القضايا السياسية الراهنة، والبندين المتعلقين بالوضع التنظيمي والمالي.
بخصوص تداعيات هبّة القدس على الواقع الوطني الفلسطيني:
أولاً: يؤكد تجمع مصير على الأهمية الكفاحية الفارقة، التي أحدثتها هبّة القدس التي اندلعت في أيار/ مايو الماضي، ودورها النوعي في استنهاض الإرادة الوطنية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ويُثمن بكل تقدير بطولات وتضحيات شعبنا الأبي، في مواجهة مشاريع الإخلاء والطرد والاستيطان، التي ضاعف العدو الصهيوني من وتائرها في السنوات الأخيرة، بهدف تهويد ما تبقى من أحياء القدس والضفة الغربية، وتذويب الهوية الوطنية لأهلنا في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948، ومساعيه المتواصلة والحثيثة لتصفية قضية اللاجئين وطمس حقهم بالعودة إلى ديارهم الأصلية. لقد أظهرت هبّة القدس التي اندلعت في أيار / مايو 2021، وحدة شعبنا في مختلف مناطق تواجده، وإصراره المكين على تجاوز وقائع الفصل والتشتت الجغرافي التي فرضها الاحتلال، وتجاوز المشكلات والتحديات التي تراكمت خلال محطات الانقسام الداخلي. حيث استولد هذا المشهد الشعبي الناهض، فرص وخيارات جديدة، لإعادة تصويب مسار المشروع الوطني الفلسطيني، وتأسيس مرحلة كفاحية جديدة، تتفارق عن محصلات الضعف والارتهان التي تتحمل القيادة الفلسطينية المسؤولية الكبرى عنها، وهي التي كرّست نهج ومنطق السلطة الحامية لأمن ومصالح الاحتلال، وعملت على توظيف منظمة التحرير الفلسطينية التي تهيمن عليها، كأداة وظيفية لخدمة بقاء السلطة، ما أدى إلى تهميش وإضعاف الممثل الشرعي، وتقويض مكانته التمثيلية لدى عموم الفلسطينيين، ومنع إعادة بناء مؤسساته على أسس ديمقراطية. كان تأجيل رئيس السلطة للانتخابات الفلسطينية، وما انطوى عليه قرار التأجيل من تبريرات مكشوفة، للهروب من ذلك الاستحقاق المتوافق عليه فصائلياً، رغم الشكوك الكبيرة بعدم جدية قيادة السلطة الوفاء لمتطلباته، بمثابة قطع الطريق على أي مسار إصلاحي، يؤدي إلى كسر هيمنة واحتكار الطبقة السياسية المُسيطرة على مفاصل القرار الوطني، وإعادة ترميم شرعيات المؤسسات الفلسطينية، التي أصابها التكلّس والتآكل منذ عقود طويلة. في حين كان الأداء البائس للسلطة في التعامل مع الحراك المشتعل في القدس، وفي مدن وبلدات الداخل الفلسطيني، ولجوئها إلى قمعه تارةً واحتوائه تارة أخرى في مناطق الضفة الغربية، من الأسباب التي زادت من تصاعد الغضب الشعبي تجاهها. بينما جاءت حادثة اغتيال الناشط نزار بنات من قبل أجهزتها الأمنية، سبباً مباشراً لخروج مظاهرات شعبية في الضفة، تهتف مطالبةً برحيل محمود عباس. ومن المعيب وطنياً وأخلاقياً كما نرى في تجمع مصير، أن تقوم قيادة السلطة والمنظمة، باستخدام نفس أساليب الأنظمة العربية المُستبدّة، في قمع وتصفية المعارضين لسياساتها، مع أننا نستنكر بشدة مواقف وتصريحات المغدور المشينة بحق الثورة السورية وتضحياتها العظيمة. بموازاة تلك التطورات، تكشّفت مساعي قيادة السلطة، إلى تحويل حركة فتح، التي شكلت العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، إلى حزب يدافع عن وجود ومصالح قوى سلطوية نافذة، وإثارة العقلية العصبوية بين كوادر وعناصر الحركة، لشيطنة الحراك الشعبي المُعارض لنهج السلطة، بعد أن أمست الأخيرة، وبقناعة متزايدة لدى شرائح فلسطينية كبيرة، حجر عثرة أمام الجهود والمبادرات الوطنية، لبلورة رؤية كفاحية، تصون حقوق الكل الفلسطيني، وتُعيد تصويب المسار السياسي، وترتيب البيت الداخلي على أسس وطنية تشاركية وديمقراطية.
ثانياً: أظهرت هبّة القدس خلال المواجهات اليومية مع قوات ومستوطني الاحتلال، صور التعاطف العالمي مع الصامدين في القدس والمرابطين بالمسجد الأقصى، وعن تغييرات عميقة في الرأي العام الدولي، لصالح دعم وإسناد رواية الحق الفلسطيني، في مقابل دحض مزاعم وأباطيل الرواية الصهيونية. حيث كان لافتاً إلى درجة غير مسبوقة، تلك الطاقات والإمكانيات التي تختزنها أجيال فلسطينية شابة، ولدت وعاشت في المنافي، وجمعت بكل وعي واقتدار، بين تمسكها بهويتها وانتمائها الفلسطيني الأصيل، وامتلاكها القدرات التواصلية والمهارات التفاعلية مع ثقافات الآخرين، مما جعلها أكثر حضوراً وإقناعاً في معرض دفاعها عن قضيتها. حيث أماطت كافة أشكال الحراك الشعبي في الداخل الفلسطيني، عن تأثير وثقل الوسط الفلسطيني المستقل، وقدرته على تطوير وسائل الاشتباك مع العدو، وكسب التعاطف العالمي مع قضيته، وفضح الصورة الغاشمة للاحتلال بالصوت والصورة.
في حين وقف الشعب الفلسطيني ومعه الشعوب العربية، إبانَ العدوان الصهيوني على غزة، إلى جانب المقاومة في ردودها العملية على جرائم ومجازر الاحتلال خلال أيام العدوان الممتدة من 10 إلى 20 أيار/ مايو الفائت. غير أن هذه الحقيقة لم تُغيّب أو تقلل هواجس وأسئلة مشروعة، حول مدى مصداقية فصائل المقاومة وفي مقدمتها حماس، في ردع ووقف اعتداءات المستوطنين على أهلنا في القدس، كما وعدت بذلك قبل وبعد الاتفاق على وقف إطلاق النار !! ومع مواصلة الاحتلال وتماديه بعد وقف الحرب على غزة، في اعتداءاته على أهالي حي الشيخ جراح وسلوان وغيرهما من أحياء القدس، اتضح يوماً بعد يوم أن تلك الوعود بقيت عند حدود الشعارات اللفظية، والتوظيف السياسي الحزبي للمعركة. أما تصريحات قادة حماس عشية الحرب، والتي قدّموا خلالها آيات الثناء والمديح لإيران والنظام الأسدي، فقد أثارت غضباً واسعاً بين الشعوب العربية، التي تضامنت مع هبّة القدس، ومع المقاومة خلال العدوان على غزة، وكانت تلك التصريحات صدمةً كبيرةً لها، لأنها تصب في خانة التغطية على جرائم إيران والنظام الأسدي بحق شعوبنا المنكوبة. ولذلك نُحمّل في تجمع مصير، حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية المدعومة من إيران، المسؤولية الوطنية والأخلاقية، عن الأضرار السياسية والمعنوية الكبيرة التي تسببت بها تلك المواقف بحق شعوبنا العربية، التي كانت على الدوام السند والداعم والمناصر الحقيقي لكفاح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
ثالثاً: أعادت هبّة القدس باعتبارها صوت الكل الفلسطيني، طرح العديد من القضايا والملفات الوطنية الشائكة، ومن أبرزها وظيفة ودور السلطة الفلسطينية وعلاقتها بالاحتلال. والأزمة البنيوية لمنظمة التحرير على صعيد الشرعية والتمثيل، والهوة المتزايدة اتساعاً بين الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية والإسلامية، وأثر الانقسام الفصائلي بين فتح وحماس على استمرار تعطيل كافة المؤسسات الفلسطينية. وكيفية اندراج وانتظام كفاح أهلنا في أراضي1948، وهم يواجهون سياسات التهويد والأسرلة، في سياق المشروع الوطني الفلسطيني. وسبل إحياء أدوار اللاجئين في العملية الوطنية، بعد التهميش الذي تعرضوا له خلال محطات التسوية، التي انطلقت حتى قبل اتفاق أوسلو 1993.
الأمر الجدير بالاهتمام والتركيز، أن طرح تلك القضايا كافة وغيرها، جاء بوصفه تعبيراً عن الشلل الطويل في أجوبة الفصائل الفلسطينية عنها، ومن خارج الصندوق المغلق الذي يعكس طرائق التفكير البائسة والحسابات الضيقة للفصائل. بل جرى طرحها وإثارتها على نطاقٍ واسع، من منظور البحث عن رؤية وبدائل جديدة، تحقق المضامين التحررية والتقدميّة، التي تشغل هواجس وتطلعات مجاميع كبيرة من المجتمع الفلسطيني بمختلف أماكن انتشاره، والتي أكدت سواء بمشاركتها المباشرة في هبّة القدس، أو عبر تفاعلها معها في دول اللجوء والمنافي البعيدة، على تحولٍ فارق تبدّى في انتزاع كتل شبابية ناشطة وحيوية لحيزٍ مستقل، في التعبير عن رؤاها وأفكارها وتوجهاتها الجديدة. وهي تعيش اليوم مخاضاً حقيقياً تحاول من خلاله، الاهتداء إلى أفضل الصيغ الكفيلة بتحقيق الترابط بين البعدين الوطني والإنساني، في خطاب التحرر الفلسطيني، كخطاب يجسّد قيم الحرية والحق والعدالة، والبحث عن آليات تشاركية وتنسيقية، تحقق التكامل في برامجها وأنشطتها ومواقفها.
إزاء تلك التحديات ننظر في تجمع مصير بكثير من الأمل إلى هذا التحول النوعي، في مسيرة تجديد شعبنا لحيويته ودينامياته الكفاحية، ولمعنى ودلالات قيم التغيير التي تحملها الأجيال الفلسطينية الشابة، ونعتقد بأن هذا المنحى التصاعدي للكفاح الوطني الفلسطيني، لاتزال ثمة مشكلات وعقبات كثيرة تقف في طريقه، ومن أبرزها: المشكلات والرواسب التي تراكمت في الساحة الفلسطينية، نتيجة هيمنة المنطق السلطوي على المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وارتباط مصالح شرائح مجتمعية كبيرة، بالمنافع والرواتب التي تقدمها السلطة لجيش من الموظفين والمنتفعين. فضلاً عن الوقائع التي فرضها حل الدولتين سياسياً وأمنياً وداخلياً وخارجياً، ودوره في عرقلة وإفشال بناء خيارات وبدائل تتجاوز آثاره الكارثية، وتُعيد صوغ المشروع الوطني الديمقراطي، بما يحقق التلازم والتكامل بين مواجهة السياسات الغاشمة للاحتلال الصهيوني، وتعزيز قدرة الفلسطينيين على البقاء والصمود والبناء الفردي والجماعي. كما يستحضر هذا التحدي، فكرة الدفاع عن مبدأ تحرير القرار الوطني، من لعبة المحاور والولاءات الخارجية، التي تنخرط فيها الفصائل الفلسطينية، وتمنح بذلك الغطاء المطلوب، للمتاجرة بالقضية الفلسطينية، لصالح دول وأطراف معادية لحقوق الشعوب العربية وتطلعاتها، وفي مقدمتها النظامين الأسدي والإيراني. ومن أشد الأضرار التي نجمت عن هذا السلوك الفصائلي، تشويه المبنى الوطني والأخلاقي للكفاح الفلسطيني، وانحسار المد الشعبي العربي الحاضن والداعم للقضية الفلسطينية، وإضعاف جدليات العلاقة التحررية بين الفلسطينيين، والشعوب العربية الثائرة والمنتفضة على أنظمتها المستبدّة. لذلك نجد أن مهام تجمع مصير في هذه المرحلة، هي العمل في الساحة الفلسطينية على تحقيق الأولويات التالية:
- التواصل التفاعلي مع كافة المجموعات والأطر الفلسطينية الناشطة في الداخل والخارج، بهدف فتح حوارات بنّاءة، حول كافة القضايا والملفات المتعلقة بالمشروع الوطني في مختلف جوانبه الكيانية والسياسية والمؤسساتية، والتوصل من خلال هذه الحوارات والنقاشات المفتوحة، إلى محددات وطنية وبرنامجية متفق عليها، تشكل إجابات نظرية وعملية على أزمة العمل الفلسطيني، وسبل تجاوزها نحو بناء آليات تنسيق وتكامل بين مختلف تلك الأطر والمجموعات مهما كان حجمها ووزنها. انطلاقاً من ذلك سيدعو تجمع مصير عدة مجموعات ونشطاء مستقلين، إلى جلسات حوار تتناول تلك العناوين والقضايا، الحاضرة بإلحاح لدى الرأي العام الفلسطيني.
- التأكيد على ضرورة حل كافة الصراعات والخلافات الداخلية سواء بين الفصائل الفلسطينية بعضها البعض، أم بين عناوينها السلطوية والكتل المجتمعية والمدنية المُعارضة لها، بالوسائل السلمية بمختلف أشكالها وتعبيراتها، والتنبه لخطورة الانزلاق إلى العنف والاقتتال، في سياق الرد على القمع والعنف السلطوي أو الفصائلي. إذ أن المستفيد الأكبر من أي احتراب داخلي هو العدو الصهيوني، ولنا في الصراع الذي نجم عن الانقسام الدموي بين فتح وحماس أكبر مثال على النتائج الكارثية التي نجمت عنه ولاتزال آثاره السلبية قائمة إلى يومنا هذا.
- حرصاً على تثمير مفاعيل هبّة القدس، وعدم تبديدها بالعودة إلى مرحلة الجمود والضياع التي سبقتها، العمل على تشكيل شبكة تواصل وتنسيق من المجموعات والشخصيات الناشطة خارج فلسطين، تركز على برامج دعم ومناصرة الحراك الشعبي داخل فلسطين، الذي يواجه سياسات الإخلاء والاستيطان والتهويد التي ينفذها الاحتلال في القدس والضفة الغربية، وإحياء خطاب العودة للاجئين الفلسطينيين، من بوابة الدفاع عن الحقوق الإنسانية والمدنية للاجئين. بالتوازي مع دعم صمود المتواجدين منهم في دول الجوار والأماكن التي هجروا إليها في الشمال السوري، نتيجة جرائم النظام السوري وحلفائه. أما فصل العنوان السياسي لقضية اللاجئين، عن ضرورات توفير متطلبات الحياة الكريمة للاجئ، والدفاع عن مصالحه وحقوقه الأساسية، فهذا سيؤدي إلى اختزال القضية في استخدامات شعاراتية، ثبت عقمها في التجارب السابقة.
- تعزيز وتفعيل العلاقة الكفاحية، بين أحرار الشعب الفلسطيني، وأحرار الشعوب العربية، وترسيخ قيم التحرر المشتركة التي تجمع بين حقوقهم المشروعة ومصائرهم الواحدة. وقد تبنّى تجمع مصير هذه المهمة كأولوية منذ بدايات تأسيسه، واليوم تتضاعف الحاجة إلى تطوير أدواتنا التوعوية والإعلامية للعمل على تأصيل هذا الوعي في الساحة السورية على وجه الخصوص، نظراً للعلاقة الأخوية الوثيقة بين الشعبين، ومنعكسات القضية السورية حاضراً ومستقبلاً على القضية الفلسطينية. إن قيامنا بهذه المهمة على الصعيد الشعبي، هو الرد العملي على بعض الأبواق التي تستغل مواقف القيادات الفلسطينية المُنحازة لقوى الطغيان والاستبداد، لشيطنة القضية الفلسطينية والتنكر لها، وبالمقابل علينا بذل جهود مضاعفة لتشكيل رأي عام فلسطيني وازن، يدعم ويناصر حقوق الشعوب العربية بالحرية والتغيير، ويدافع عن وحدة قضايا الشعوب التي لا تقبل التجزئة أو المفاضلة بين الضحايا.
متغيرات المشهد السوري وضرورات بناء حامل وطني ديمقراطي
أولاً: تكشف وقائع وحصائل الثورة السورية، التي دخلت النصف الأول من عامها العاشر، عن معضلة تراكمت حلقاتها الصلبة، بفعل غياب حامل وطني مستقل وقادر على حمل أعباء مشروع الحرية والتغيير الذي أطلقته الثورة منذ بداياتها. فمن الناحية الميدانية أصبحت الدول المتدخلة في الساحة السورية، هي صاحبة اليد العليا في إدارة الصراع ورسم حدوده، وكيفية تصعيد جبهاته وتهدئة بؤره، وفق مصالح وحسابات كلٍ منها. لا نأتي بجديد في هذا السياق حين نستعيد المخاوف الكبرى للشعب السوري، من خطورة مشاريع تحويل الوطن السوري، إلى مناطق نفوذ بغطاء دولي وإقليمي، نتيجة تنازل وإهدار النظام الأسدي، لكافة مقومات السيادة الوطنية، وبيعه ثروات ومقدرات الوطن لداعميه الروس والإيرانيين، واستمراره في مشروع تفتيت واستنزاف البلد، وخنق الشعب وتجويعه والدوس على كرامته، مقابل حفاظ الأسد الوريث على سلطة الوكيل الخادم لمصالح داعميه، وقد جاءت مهزلة “الانتخابات الأخيرة” لتؤكد فعلياً تصميم الأسد على البقاء في السلطة لدورة رابعة، رغم دوره الكارثي عن وضع سوريا، في مقدمة الدول الفاشلة وفق المقاييس الاقتصادية والتنموية العالمية. ومن أبرز تحديّات تلك الصورة المأساوية أيضاً استغلال حزب الاتحاد الديمقراطي بأجنحته السياسية والعسكرية، ومن خلفه (حزب Pkk) الصراع الدائر في سورية، لتحويل منطقة شرق الفرات إلى كانتون انفصالي بقوة الأمر الواقع، ما يشكل راهناً ومستقبلاً عقبة كأداء أمام فرص إعادة بناء عقد وطني جديد، يتم التوافق عليه بإرادة سورية حرة، ويضمن حقوق ومصالح كافة مكونات الشعب، مع الحفاظ على وحدة الأرض السورية. أما نموذج الحوكمة الفاشلة الذي تكرسه الفصائل والقوى التي تسيطر على مناطق الشمال والشمال الغربي من سوريا، والتي أصبح وصفها بالمناطق المحررة، مفهوماً ملتبساً نتيجة انتشار الفوضى وهيمنة أمراء الحرب، وهشاشة المؤسسات القضائية والمدنية فيها، فيشير بدوره إلى انزياح المؤسسات التي تدّعي تمثيل قوى الثورة والمعارضة، عن لوازم وشروط استقلالية قرارها الوطني، بدلالة التمثيل الشكلاني لمؤسساتها وبؤس أدائها، وطرائق انتخاباتها الصورية، التي أدت إلى تراجع ثقة الحواضن الشعبية بتلك المؤسسات إلى أدنى الحدود.
ثانياً: على خطورة تلك التحديات الوجودية التي تعصف بالوطن السوري، والتي تتراكم وقائعها وحقائقها بصورة مضطردة. لايزال البديل الوطني الانقاذي غائباً، رغم تراكم الضرورات السورية لوجوده، وتعدد القضايا المُلحّة التي لم تعد تحتمل تأخير ولادته. بمراجعة سريعة إلى مختلف المشاريع والمبادرات، التي أطلقتها عدة جهات سياسية في السنوات الأخيرة، لاسيما بعد انسداد أفق الحل السياسي، تمحورت أوراقها وطروحاتها حول هوية الحامل الوطني ومهامه السياسية، نجد بأنها لم تتعدى إطار التشخيص النظري للواقع السوري، بل واستغرق بعضها في التنظير حول مرحلة ما بعد انتهاء الصراع، دون أن يلمس الشارع السوري، أي خطوات تأسيسية عملية ذات صلة ببناء جسم / أو أجسام تنظيمية، تصلح لأن تملأ الفراغ الناجم عن غياب حوامل المشروع الوطني ومهامه المرحلية. لا يقلل ذلك من حجم الجهود التي بُذلت في هذا المضمار، ومنها من لازال يسير على درب المحاولة رغم مناخات الإحباط السائدة. بيدَ أن حصيلة المراجعة عموماً، تكشف عن تعثر وإخفاق متراكب في إنتاج ذاك البديل المأمول. ومن غير الممكن تجاوز هذه المعضلة، دون تفكيك مشكلات العامل الذاتي لقوى الثورة والمعارضة، وتجاوز الأمراض والعيوب التي أفقدت القوى والتشكيلات السياسية، قدرتها على بناء جسور التوافق الوطني فيما بينها. وهي مسؤولية تقع على عاتق الجميع، وأولهم أصحاب الخطاب النقدي، من المطالبين بتصحيح مسار الثورة وإعادة بناء مؤسساتها، لأنهم ليسوا بمنأى عن مشكلات العامل الذاتي وعيوبه، والذي لا يبدو أنه يقتصر فقط على مؤسسات المعارضة الرسمية. ذلك أن حالة العجز والمداورة في المكان، هي السمة الغالبة على القوى والنخب الخائضة في الشأن العام السوري، ولا نعفي أنفسنا في تجمع مصير من هذه الأمراض الذاتية. فضلاً عن ذلك تكمن المشكلة الأكثر تعقيداً، في استحالة مؤسسات المعارضة الرسمية على ضعفها، إلى بنى معوّقة لأي إصلاح بنيوي من داخلها، أو من خارج عباءتها. كما نلحظ أن الهروب إلى تعليق كل الصعوبات والتحديّات القائمة، على سطوة العامل الموضوعي، يُعّبر بوجهٍ ما عن أزمة عميقة في التفكير السياسي لدى الجماعات والنخب والنشطاء، حول معنى ووظيفة العلاقات الوطنية، التي يقتضي بناؤها في حيز الممارسة الواقعية، بما يستجيب لولادة حامل وطني وسياسي ديمقراطي، يسمو على الاعتبارات الأيديولوجية والفئوية والمناطقية، ويحدد وظائفه ومهامه وبرامجه، انطلاقاً من المطابقة الفكرية والسياسية، بين الثورة السورية كحركة تحرر وطني، وأطرها ومؤسساتها التي تجسد تلك الحركة قولاً وفعلاً. وبينما غابت تمظهرات تلك المطابقة ولو في دلالاتها النسبية، فإن ما يزيد الطين بلّة، عدم استفادة قوى الإسلام السياسي من دروس الهزائم والتراجعات، التي منيت بها قوى الثورة، عندما استخدمت نفوذها في مؤسسات المعارضة منذ المجلس الوطني مروراً بالائتلاف، لصناعة مقاربات توافقية شكلية على المستوى الوطني، تمكّنها من السيطرة على قرار وتوجهات تلك المؤسسات. وهي بذلك تتحمل مسؤولية كبيرة في عرقلة بناء مقاربة وطنية، تتجلى فيها الهوية التحررية للثورة السورية بالمطابقة بين الشكل والمضمون. في حين انخرطت العديد من الاتجاهات السياسية الأخرى من يسارية وقومية وليبرالية في لعبة المحاصصة الحزبية، وحتى عندما أخذت تغادر مقاعدها من تلك المؤسسات في مرحلة متأخرة، كانت تحاول تبرئة ذمتها مما آلت إليه الصورة المأساوية للمُعارضة، وليس العمل على إطلاق مسار وطني جديد، يستعيد زمام المبادرة، ويستنهض القوى الشعبية المستفيدة من مشروع التغيير الوطني.
ثالثاً: بناءً على ما سبق؛ ومن حصيلة تجارب تجمع مصير، بخصوص علاقاته وجهوده التنسيقية مع القوى السياسية، ومع التجمعات والتحالفات التي تشكلت في السنوات الماضية، بوسعنا القول بكل وضوح: إن تجاوز حالة الاستعصاء في المشهد السوري، واستنهاض إرادة التجاوز والتغيير، والتصدي للمهام الوطنية الأساسية المتمثلة في إسقاط النظام لأسدي، والانتقال إلى نظام وطني ديمقراطي، وإنهاء كافة أشكال الهيمنة والاحتلال التي تصادر القرار الوطني السوري، يتطلب إطلاق ورشة سورية مفتوحة، تشارك فيها الكتل والقوى السياسية، وناشطات ونشطاء الثورة، والنخب الوطنية المثقفة. بهدف تحديد التوافقات الوطنية المشتركة، التي لا بد أن يتأسس عليها بناء كيان جبهوي عريض، أصبحت الساحة السورية في أمس الحاجة إلى ولادته بعد كل الانسداد المتراكم، وما يقرر دور الكيان المرتجى كبديل سياسي أو تمثيلي هو نجاحه الملموس في استعادة ثقة السوريين، واستنهاض طاقاتهم وقدراتهم، وتحشيد أصواتهم في إطار مؤسساتي ديمقراطي. وكمساهمة من تجمع مصير في النقاش العام، بهدف التوصل إلى تلك التوافقات المشتركة، نرى أن الأولويات السياسية المطلوبة في هذا الاتجاه هي التالية:
- تصحيح الانحرافات الخطيرة التي تسببت بها مؤسسات المعارضة الرسمية، التي لعبت دوراً لا يُستهان به في تضليل الوعي السوري، فيما يخص العملية السياسية والتفاوضية، حين قبلت الاستجابة للضغوط الدولية والإقليمية، في الالتفاف على مبدأ الانتقال السياسي، وفق تسلسل خطواته ومراحله الزمنية -كما نصت عليها القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية-، واستبدلته بالمسار الدستوري، الذي استغله النظام طيلة الجولات السابقة للجنة الدستورية على مدار أكثر من عامين، لتمييع وتفريغ مطلب الانتقال السياسي. لقد حذرت أصوات كثيرة من خطورة قبول هيئة التفاوض المنبثقة عن مؤتمر الرياض2، من التساوق مع الضغوطات الدولية والإقليمية، وخطورة انصياعها لعملية سياسية عبثية، أظهرت المعارضة كطرف مطواع لا يملك قراره الوطني المستقل. كما عكس سلوكها التفاوضي والسياسي، مصالح الدول التي تتحكم بوجودها ومواقفها. وأبعد من ذلك لا يمكن الرهان على قيام المعارضة، بتصحيح بوصلة المسار السياسي، طالما أن العطب ينخر بنية مؤسساتها القائمة على لعبة الولاء والمحاصصة. ما يضع القوى والشخصيات الوطنية، المتمسكة بمطالب الثورة وفي مقدمتها تغيير النظام الأسدي، أمام مسؤولية تاريخية في تجميع قواها وجهودها، انطلاقاً من أولوية العمل على تحقيق الانتقال السياسي، كمبدأ وطني يتوجب الالتزام به، وبحيث يكون في صلب مهام أي حراك وطني وسياسي، على اختلاف صيغته الجبهوية أو التنظيمية.
- من وحي إدراكنا لجسامة التحديات الوجودية التي تواجه شعبنا السوري، بعد أن طالت أبسط مقومات حياته المعيشية، بدلالة حالة الفقر والعوز والحرمان التي أصبحت حال غالبية السوريين، ومع تراكم الأزمات المستعصية التي تضرب فئات المجتمع، بفعل توغل النظام بعمليات النهب والفساد والتخريب الممنهج، ومحاولاته التغطية على فشله الصارخ بادعاء انتصاراته الوهمية. فإن هذا المناخ المشبع باليأس، مع انسداد أفق الحلول السياسية، هو التربة الخصبة لفرض حلول سياسية، تقوم على تكريس حالة الانقسام الجغرافي والسكاني، التي انتجتها مناطق النفوذ ورعاتها الدوليين والإقليميين، لا سيما توافقات الضامنين في مسارات أستانة وسوتشي، مما ينذر مستقبلاً بترسيم تلك المناطق التي يتناهب كل منها جزءاً من الأرض السورية، ووضع الوطن على خرائط التقسيم، كخيار قائم تشير إليه وقائع شاخصة لا يمكن تجاهلها. ولا يجوز أن يخدعنا ما تكرره الدول المتدخلة في لقاءاتها ومؤتمراتها، عن تمسكها بوحدة الأرض السورية وسيادتها واستقلالها. فالمعطيات والحقائق المسكوت عنها، هي ما يكشف عن نواياها الحقيقية. بدوره يفرض علينا هذا التحدي الربط الوثيق بين مواصلة معركة تغيير النظام، والتمسك الفعلي بمطلب انسحاب كافة القوات الأجنبية التي دخلت سوريا خلال محطات الصراع. كما نعي أن مثل هذه المعركة المركبة، تحتم بذل جهود كبيرة على جبهة الوعي السياسي والمجتمعي، لا سيما أن التشوهات التي أصابت بعض النخب السياسية والمدنية، جعلت منها أبواق تعج بأفكار وطروحات، مؤداها من حيث النتيجة، شل إرادة السوريين، وإشاعة مناخات التيئيس والإحباط في صفوفهم، تحت غطاء ” الواقعية السياسية” التي يُراد من خلالها دفع السوريين إلى تجرع كأس الحلول والتسويات، التي تقوم على إنكار حقوقهم المشروعة في نيل الحرية والكرامة. ومهما كانت الدوافع من وراء طرح تلك الأفكار، فإنها لا تنتج أكثر من مقبرة على السوريين أن يدفنوا فيها إرادتهم الوطنية الفاعلة، وتضحياتهم العظيمة التي بذلوها على طريق الحرية، وأن يهيلوا التراب على آمالهم وأحلامهم الكبرى. بمعنى أدق؛ لا يمكن فتح أي أفق سياسي نحو التغيير الوطني المنشود بإرادة السوريين أنفسهم، دون تحصين الوعي الجمعي من محاولات شل قدراته على التفكير المُنتج، الذي ينطلق من الواقع بهدف تغييره. فلا قيمة لوظيفة السياسة في إدارة الصراع، وتقليل الخسارات وجمع أوراق القوة، إذا لم تؤسس على معالجة جوانب التخلخل في مداميك الوعي الذاتي، كشرط لبناء وعي ديمقراطي يقوم على أسس عقلانية ومعرفية صلبة، وهي قضية جوهرية نضعها كتجمع نصب أعيننا، ونتلاقى مع كل صوت واتجاه ينظرا إليها كمهمة شارطة على طريق التغيير الحقيقي في الواقع السوري.
- إن كل محاولات حلفاء النظام، دعم بقاء الأسد في السلطة، وإعادة تعويمه دولياً، لن تؤدي سوى إلى إغراق سوريا في دوامة المآسي والفشل والضياع. ومن أبرز المؤشرات على صعوبة بل واستحالة، ترتيب القضية السورية مع بقاء الأسد جاثماً على صدور السوريين، الوضع الكارثي الذي يعاني منه السوريون في مناطق النظام، لأن بنية النظام هي جزء أساسي من المشكلة، ولن تفلح محاولات حلفائه الإيرانيين والروس، في تقديمه كبوابة للحل في سورية. وإثناء إعداد هذا التقرير كان لا بد من الإشارة إلى تطورات ميدانية وسياسية جديدة، تشير إلى عودة تداول أطراف المجتمع الدولي، فيما يتعلق بالتطبيق الكامل للقرار 2254، كما ورد في تصريحات بيدرسون الأخيرة. وتسريبات أخرى عن لقاءات أميركية – روسية، لإعادة إرساء تفاهمات مشتركة بينهما، قد تتجاوز عقبة التعنت الروسي بخصوص بقاء الأسد” كما تتحدث عن ذلك مصادر روسية مقربة من الكرملين” إذا شملت تلك التفاهمات الملفات الخلافية الأخرى العالقة بينهما. أما التطور الميداني الأبرز الذي شهدته أحياء درعا البلد وطريق السد ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين والنازحين، في الأسبوع الأخير من شهر تموز، والذي كشف عن فشل قوات النظام وحلفائه الإيرانيين في إخضاع مهد الثورة، بعد محاولات حصارها وخنقها واقتحام أحيائها، وعودة حراكها الثوري أشد قوةً وتصميماً، وما ألحقه من خسائر كبيرة بقوات النظام، حيث فرض عليها الانسحاب حتى من مواقع ومناطق في المدينة وأريافها كانت تسيطر على بعضها حتى قبل ” اتفاق المصالحة نهاية العام 2018″. هي بمجملها تطورات شديدة الأهمية وتحمل في طياتها دلالات كبيرة من أهمها: استحالة إخضاع الشعب السوري الثائر، رغم كل الحروب الشعواء التي شنها النظام وحلفائه لتركيع البيئات الحاضنة للثورة، وسقوط رهانهم على انطفاء جذوة الثورة، التي قد تنتقل شعلتها مجدداً، حتى في مناطق يظن النظام أنها من قلاعه الحصينة. كما أن المقاومة العنيفة التي أبداها أبناء درعا بسلاحهم الفردي، كشفت نواحي الضعف والانهيار في قوات النظام، رغم الأسلحة والعتاد الثقيل الذي يملكونه. وأن عدم تدخل سلاح الجو لحليفه الروسي في تلك المواجهات، إنما يدل على وجود إمكانيات كبيرة لهزيمة النظام، متى توافرت إرادة مواجهته بأقل الإمكانيات العسكرية.
في هذا السياق علينا أن نقرأ في الدلالات السياسية لتحولات الصراع في درعا، ومنعكساته على بقية الأنحاء السورية، لاسيما لجهة عدم تدخل سلاح الجو الروسي لصالح النظام، ويبدو أنها رسالة روسية للنظام وحلفائه، أنهما لا يستطيعان تحقيق أي نصر ميداني دون الدعم الروسي، وأن تمدد إيران في المنطقة الجنوبية، خلافاً للتفاهمات الروسية – الأميركية – الإسرائيلية – الأردنية – ما دفع روسيا إلى موقع المراقب إزاء مجريات المعركة، ثم تدخلها لاحقاً – كما نتوقع- لإعادة ترتيب اتفاق جديد مع أهالي درعا، يتم من خلاله تحجيم الوجود الإيراني في المنطقة، كي تثبت روسيا أنها صاحبة الكلمة العليا في الساحة السورية. لكن من الخطأ السياسي الجسيم، التعويل على انقلاب جذري في السياسية الروسية تجاه سوريا، بل وأكثر من ذلك علينا التنبه والحذر من تعليق الآمال على خلاص سوريا، في حال نضوج التفاهمات الدولية والإقليمية بخصوص الحل السوري. ذلك أن ضمان مصالح الدول المتدخلة، سيكون له الأولوية بغض النظر عن الصيغ البراقة التي سيتم بها إخراج ذلك الحل. مع ذلك يمكن الاستفادة من توافق تلك الدول على إضعاف دور إيران في سورية، لأنه سيعني إفقاد النظام حليفه الأهم، وهو ما سيعجل في انهياره المحتوم. بسبب تلك التطورات وتداعياتها المحتملة على المشهد السوري، لا مناص وفق رؤيتنا في مصير من ولادة مبادرة وطنية تستجمع الطاقات السورية الحيّة، وتستبق التطورات السياسية القادمة، كي تحمل على عاتقها مسؤولية الدفاع عن حقوق السوريين في تقرير مصيرهم، والضغط على كافة الأطراف المؤثرة بالقضية السورية، لمنع تمرير مصالحها على حساب تطلعات السوريين المشروعة، في تحرير وطنهم من النظام الأسدي المستبد، ومن كافة أشكال الهيمنة والاحتلال.
البند التنظيمي ورؤية التجمع لدوره ومهامه في عالم متغير
أسهمت النقاشات التي دارت خلال الدورة التاسعة للمجلس المركزي، بخصوص الوضع الداخلي والتنظيمي للتجمع، في إطلاق عجلة التفكير الجماعي، حيال أفضل الصيغ التنظيمية التي تمنح العلائق الداخلية بين أعضاء وهيئات التجمع، قدراً كبيراً من المرونة والتفاعل والحيوية، من خلال تطوير البناء الأفقي والشبكي للتجمع، باعتباره تيار رأي عام، يقوم على تلاقي المنتسبين إليه على مهام وطنية واضحة، تؤدي إلى تحقيق أهداف التجمع الواردة في ورقته التأسيسية، ومن أكثرها أهميةً على المستويين النظري والعملي، تعميق جدليات التحرر بين الثورتين الفلسطينية والسورية، وتكامل مسارات التغيير بين ثورات وانتفاضات الربيع العربي كافة. وهي مهام حركية وبرنامجية، لا تلغي التباينات الفكرية والإيديولوجية بين أعضاء التجمع، وإنما يقتضي العمل عليها، ترسيخ رؤية توافقية مشتركة بينهم، تدافع عن أحقية وعدالة قضايا الشعوب التي يتبناها التجمع، وتوفر مناخاً داخلياَ لإدارة الاختلاف بوسائل ديمقراطية تكفل حق جميع الأعضاء بالتعبير عن توجهاتهم وأفكارهم.
كما أظهرت النقاشات بخصوص الواقع التنظيمي للتجمع، الصعوبات والتحديّات التي تواجه مختلف الجماعات السياسية، في عالم تُحفّز فيه السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، تعزيز الحيز الخاص للفرد في الحياة العامة، وتراجع منحى الانتماء والتحزب لجماعات سياسية مُنظمة. وتم استحضار تجارب منظمات المجتمع المدني خلال حقبة الربيع العربي، وبشكل خاص التجربة السورية، التي تشير إلى تراجع تأثير المجتمع السياسي، على حساب اتساع أدوار المجتمع المدني. مع أن الأخير قام بأدوار سياسية مباشرة، كمشاركة ممثلين عنه في اللجنة الدستورية، رغم أن توجيهات الداعمين لتلك المنظمات، كانت تحض على تحييد الناشطين المدنيين عن الشأن السياسي. وفي مقاربة من نوع آخر، نجد أن تراجع الفصائل والقوى السياسية في التجربة الفلسطينية، أدى إلى تطور دور المجموعات الناشطة المستقلة في داخل فلسطين وخارجها، وقد أصبحت تشكل نموذج أقرب لمعارضة التشكيلات السياسية التقليدية. تلك المقاربات تبين التغيرات العميقة التي طرأت على بنى ووظائف الجماعات السياسات المؤطرة، فقد أمست الهياكل التنظيمية التي تقوم على التراتبية الصارمة والمركزية الشديدة، من الأسباب التي لا تشجع أجيال الشباب على الانخراط في العمل السياسي، طالما أن وسائل التواصل الاجتماعي التي يجيدون التعامل والتفاعل معها، توفر لهم منبراً مفتوحاً يغنيهم عن الأطر الحزبية النمطية والمغلقة على نفسها. غير أن ضمور الجماعات المُنظمة من مقلبٍ آخر، لم ينتج عنه سوى تشتت الجهود الفردية وتبديدها، لأن طبيعة قضايا الشعوب وتحدياتها الكبرى، تستوجب تجميع طاقات الأفراد في أطر جماعية مؤسسيّة، تواكب متطلبات العصر وترقى إلى أدوات التأثير في طابعها الحداثي. يسعى التجمع في هذا السياق إلى إيجاد صيغة تنظيمية عملية، يستطيع من خلالها تحقيق أقصى درجات المرونة والتوازن، بين هيكلية أفقية تترك لهيئاته المنتشرة في الداخل السوري وتركيا وأوروبا، حرية اتخاذ القرارات وبرامج الأنشطة وحملات المناصرة، وفق ما يخدم السياسات العامة للتجمع، بينما يحق لمكتب التنسيق العام الذي يشرف على كافة هيئات التجمع التدخل والتوجيه، في حال حدوث مخالفات أو خروج عن تلك السياسات المُقرّة. وفي حال أساء أو انحرف مكتب التنسيق عن هذا الحق الممنوح له، يحق لأي عضو أو أحد هيئات التجمع، رفع الموضوع محل الشكوى إلى المجلس المركزي للتجمع للبت فيه.
توافق المجتمعون في ختام تغطية مناقشات البند التنظيمي على تكليف مكتب التنسيق العام اتخاذ الخطوات التالية، التي من شأنها تفعيل الواقع الداخلي للتجمع وتطوير أداء هيئاته وهي التالية:
أولاً: الإعداد لعقد المؤتمر العام الثاني للتجمع، على أن يتم انعقاده خلال النصف الأول من العام 2022 كحد أقصى، وفي مكان يجري التوافق عليه بين مختلف الهيئات، بما يتيح إمكانية مشاركة جميع الأعضاء سواء فيزيائياً أم افتراضياً. وأن تشمل مهام الإعداد والتحضير، وضع تصور عام لأهداف المؤتمر في كافة القضايا: الفكرية والسياسية والتنظيمية والمناشطية. وهي قضايا تحتاج إلى مراجعات نقدية شاملة، تستند إلى تقييمات موضوعية، تزود التجمع بأفكار ورؤى تواكب حركة المتغيرات في الواقع، وتمتلك أدوات التفاعل والتأثير في ساحات العمل المُستهدفة.
من وحي هذا التصور، يأمل التجمع أن يشكل المؤتمر منبراً مفتوحاً لأعضاء وأصدقاء التجمع، فما أحوجنا إلى الاستفادة من تبادل الأفكار والتجارب والخبرات، مع الشخصيات والقوى الفاعلة في مجتمعاتنا، وإنضاج مفاهيم وآليات مشتركة، تفتح على قنوات التنسيق والتعاون، وإغناء قيم وأخلاقيات العمل الجماعي. فليس المطلوب عقد المؤتمر بوصفه إجراء روتيني يُلزمنا به النظام الداخلي، وإنما الأولَى هو التركيز على أهمية انعقاده، كاستحقاق داخلي لإطلاق ديناميات التفكير والعمل المثمرين مع رفقاء نضالنا وكفاحنا المشترك على طريق الحرية والخلاص.
ثانياً: اجتراح أساليب جديدة لاستقطاب الشباب والمرأة ضمن هيئات التجمع، ودراسة الأسباب والعوامل التي أزاحت هاتين الشريحتين الأساسيتين عن العمل السياسي. وما ينطوي على ذلك من خسارة فادحة لمجمل الكفاح الوطني التحرري في بلادنا.
إن لزوم بناء الثقة والعمل التنسيقي الفاعل، مع مجموعات الشباب والمرأة التي تنشط في قضايا الحريات والتغيير وحقوق الإنسان وغيرها من قضايا مدنية وحقوقية، سيكون من مهام التجمع في المرحلة القادمة، وذلك بفتح قنوات التواصل والحوار مع تلك المجموعات، التي أثبتت أنها تؤدي دوراً سياساً غير مباشر، يتجاوز بأهميته أحياناً القوى السياسية القائمة، التي بقيت عالقة في شرنقة المفهوم الفوقي للسياسة وتعبيراته المباشرة. وهي إحدى أزمات الأحزاب السياسية في المنطقة، التي لم ينفذ تفكيرها واهتمامها إلى عمق البنى المجتمعية وممكناتها الهائلة، في إحداث التغيير السياسي عبر وسائل ورسائل عابرة للأطر الحزبية التقليدية. ولعل الثورات والانتفاضات العربية أكبر مثال على أدوار تلك الطبقات والبنى والأوساط المجتمعية، في إطلاق موجات الربيع العربي، والدور الريادي لأجيال الشباب والمرأة في صنع مخاضاته الكبرى.
ثالثاً: تشكيل مجلس استشاري من شخصيات مثقفة وسياسية ومدنية، لديها إسهامات فكرية وتجارب كفاحية في قضايا الحرية والتغيير في الدول العربية، بحيث يكون المجلس الاستشاري المقترح من مكتب التنسيق العام وكافة هيئات التجمع، بمثابة مرجعية للتحكيم والخبرة، يستفيد منها التجمع في تطوير رؤيته العامة، وتصويب أدائه، ومعالجة مشكلاته الداخلية، وتزويد هيئاته بأفكار واقتراحات مفيدة ونوعية.
البند المالي وكيفية الحفاظ على استقلالية التجمع
تم خلال اجتماع المجلس عرض التقرير المالي للتجمع، والذي تضمن كافة تفصيلات إيرادات ومصروفات التجمع، منذ إقرار الاشتراكات الشهرية في نهاية العام 2020 ولغاية الدورة التاسعة للمجلس، وأشار التقرير المالي إلى التزام التجمع بالحفاظ على استقلاليته المالية منذ تأسيسه، وعدم تلقيه أية تبرعات أو أموال من أي دولة أو حكومة أو جهة سياسية أو مدنية. وأن الملاءة المالية للتجمع، تعتمد على الاشتراكات الشهرية لأعضائه، وبعض التبرعات التي قدمها أصدقاء التجمع بصورة غير مشروطة، لتغطية موقعه الإلكتروني وبعض الأنشطة والنفقات الضرورية. كما نوه التقرير إلى الصعوبات التي تواجه جمع الاشتراكات، ومطالبة كافة الأعضاء غير المعفيين من دفع الاشتراك الشهري، بضرورة تسديد التزامهم بأسرع وقت.
أوضح التقرير من ناحية أخرى، الصعوبات المالية التي تحد من أنشطة التجمع، بسبب ضعف التناسب بين إيراداته والمهام الملقاة على عاتقه، وهي ضريبة حرص التجمع على استقلاله المالي، لأنه أساس استقلالية مواقفه وتوجهاته السياسية. وتبقى هذه الضريبة أفضل بكثير من التعويل على الدعم الخارجي، الذي أفسد الكثير من مناخات العمل الوطني والسياسي في واقعنا. واقترح التقرير البحث عن مصادر لزيادة الاشتراكات من خلال أصدقاء التجمع، وشبكة العلاقات الشخصية لأعضائه في المرحلة القادمة، ضمن نفس المبدأ الذي يعتمده التجمع في البند المالي.
– انتهى –
صدر التقرير الختامي في 6/8/2021