منير الربيع
عاش الشرق الأوسط منذ الخمسينيات، صراعاً بين الإسلاميين والعسكر، فقضى على مقومات الحراك السياسي – الاجتماعي في بعض دوله، ولا تزال دول عدة منه غارقة في هذا الصراع، موغلة في التخلف والتراجع وانعدام الحرية.
وفي السبعينيات دخلت على الشرق الأوسط عوامل جديدة: التطرف والتشدد الدينيين، السنّي والشيعي. بعدما أنتجت الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، التشدد الشيعي الذي حفر عميقاً في المنطقة. واقتحمت جماعة جهيمان العتيبي المتشددة الحرم المكي في السعودية، فأدت إلى تغيير كبير المجتمع السعودي. وكان تنظيم القاعدة قيد النشوء والرعاية الأميركية، لغاية استراتيجية: ضرب الإتحاد السوفييتي في أفغانستان. وأرادت الولايات المتحدة الأميركية مقاتلة الاتحاد السوفييتي الشيوعي بالإسلاميين الراديكاليين المتشددين، فحصل التقاء بين تطرفين سني وشيعي برعاية أميركية هدفه ضرب السوفييت في أفغانستان.
استنفار سني – شيعي
واليوم وعلى وقع الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد تسوية مع طالبان، التي حاربتها واشنطن طوال عشرين سنة، تشهد المنطقة تحولات استراتيجية. فأميركا اجتاحت أفغانستان بعد 11 أيلول 2001 حرباً على الإرهاب السني. وها هي أميركا تترك أفغانستان لطالبان إياها.
وهذا ينعكس على شرق آسيا، وله ذيوله الأكيدة في المنطقة العربية، وتحديداً العراق. ويستحيل إغفال تأثيره على مسار الاتفاق النووي الإيراني. وللانسحاب الأميركي هذا أثر كبير على حلفاء واشنطن في المنطقة. فقد يشعرون باليتم والإحباط، ويعاد إنتاج الاستنفار السني – الشيعي.
فالتشدد السني في أفغانستان ينعكس تشدداً في طهران. وبين التشددين تهديدات وعداوات والتقاء مصالح في الوقت نفسه. والأكيد أن مسار سيطرة طالبان على أفغانستان يؤول إلى إضعاف بيئة هذه الجماعة. أي البيئة السنية في المنطقة، فيضعف ما يسمى الاعتدال السني تحت ضربات تكاد تنهي دوره.
السفيرة الأميركية ونصرالله
لبنان يتأثر بهذا المسار، سياسياً ومعنوياً. وفي ضوء الحديث عن اقتراب موعد تشكيل الحكومة وبث الأجواء الإيجابية حول ذلك، كان لافتاً تقاطع موقف أمين عام حزب الله حسن نصر الله والسفيرة الأميركية دوروثي شيا.
ومساء الأحد 15 آب حدد نصر الله مهلة 3 أيام لتشكيل الحكومة، وبدأ حزبه يستعجل التشكيل لكسب الغطاء وتعزيز وضعه السياسي وسط التطورات الإقليمية. وصباح الإثنين سارعت السفيرة الأميركية في نشاطها نحو رئيسي الجمهورية والحكومة المكلف، لحثهما على إنجاز التشكيلة الحكومية، والتعالي على الحسابات الظرفية والمصالح الحزبية الضيقة. واستبقت شيا لقاء عون وميقاتي، بتمرير موقف ضاغط حول ضرورة تشكيل الحكومة.
أفغنة لبنان؟
سابقاً كان الموقف الأميركي واضحاً: عدم التشكيل، إلا في حال الاتفاق على حكومة اختصاصيين مستقلين لا تمثيل حزبي فيها. والمستهدف في هذا هو حزب الله. وثمة ما تغيّر في اللهجة الأميركية. ومعلوم أن حكومة ميقاتي قيد التشكل تضم وزراء محسوبين على الحزب إياه. وإذا كانت واشنطن قد صارعت طالبان على مدى 20 سنة، ثم أبرمت تسوية معها وسلّمتها أفغانستان، فلا بد من قراءة هذا التطور في لبنان بعناية كبيرة.
صرفت واشنطن على الجيش الأفغاني 88 مليار دولار. وهذا رقم لا يمكن للبنان تصوره، ولا يمكن مقارنته بالدعم الأميركي للجيش اللبناني. وفي حال كان هناك من يراهن على أن بناء السفارة الأميركية وتكلفتها (مليار دولار)، يجب التنبه إلى أن هذه الأرقام لا قيمة لها لتوكيد سياسة أميركية يقينية حول بقاء واشنطن في لبنان وعدم التخلي عنه أو الخروج منه. فها هي أفغانستان أمام أنظار الجميع.
حزب الله وانهيار الحريرية
أضعف الصراع الأميركي مع طالبان والقاعدة وداعش قوى الإسلام السياسي السني والاعتدال السني. وإذا كان الإسلام السياسي السني في المنطقة العربية قد استشرف مرحلة ازدهاره على وقع الربيع العربي، فإنه تلقى ضربات قاسمة أعادته إلى مربع صراعه مع العسكر.
وفي لبنان هناك مسار يحتمل شيئاً من التشابه منذ اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، وما نجم عنه: الحلف الرباعي، أحداث 7 أيار، تسوية “سين سين”، وما بعدها من تدعيات سياسية أضعفت ما تبقى لدى السنة من مقومات العمل السياسي. وجاءت الضربة القاسمة: انقلاب حزب الله وحلفاؤه على حكومة سعد الحريري وتشكيل حكومة نجيب ميقاتي في العام 2011. واستمر مسار الانهيار السياسي السني في لبنان بالتسوية الرئاسية العام 2016، وبعد الاتفاق النووي. وها سعد الحريري ولبنان يدفعان اليوم ثمن تلك التسوية.
وعلى وقع إنتفاضة 17 تشرين قدم سعد الحريري استقالته وخرج من المشهد. ثم حاول العودة طوال ما يقارب السنة، لكنه لم ينجح في تشكيل حكومة، فدُفع جانباً.
ميقاتي الزئبقي واللاسياسي
وتقدم ميقاتي مجدداً بشروط يظّن السنة أنهم ألزموه بها. لكن ميقاتي رجل زئبقي لا يلتزم ولا يثبت. وهناك تطورات كثيرة داخلية وخارجية دفعته إلى السعي وراء التشكيل. وهو قد يحافظ على ماء وجهه بإبقاء وزارة الداخلية مع السنة، وتنازل عن الخارجية، الدفاع، العدل، الطاقة، التربية، الشؤون الاجتماعية والإعلام لعون.
وهذا لن يعجب أنداد ميقاتي في نادي رؤساء الحكومة السابقين. وفي حال نجح في تشكيل حكومة، سينتقل الصراع إلى داخل البيئة السنية، بين ميقاتي والرؤساء السابقين إياهم، وخصوصاً مع سعد الحريري. وهذه المرة بدعم أميركي – فرنسي، يبدو ميقاتي واثقاً منه.
ويسعى ميقاتي لتحقيق نصر سياسي لنفسه في عملية التشكيل. فينجح حيث فشل الحريري. وحاول الرجلان تغطية صراعهما بسقف سياسي موحد، له مفعول رجعي يعود إلى ما بعد تفجير مرفأ بيروت. فحين كان ميقاتي يعتبر نفسه مرشحاً طبيعياً ووحيداً، أعاق الحريري مساعيه، فكان المخرج باختيار مصطفى أديب. وكانت المزحة السمجة بينهما في إطار صراعهما المفتوح. فكل منهما يسعى إلى تثبيت نفسه وتوفير ظروف وصوله.
نجاح ميقاتي شخصي فحسب وضئيل الأبعاد السياسية. بل سيكون أثره السياسي الأكبر إضعاف ما تبقى من تأثير السنة في المعادلة اللبنانية، أن لم يكن ضربه وإنهاءه. وهذا بعد تحويل منصب رئاسة الحكومة – الذي حاولوا اختزاله بالأقوياء في الطائفة – إلى حقل تجارب، فساهموا بإضعافه، وساهموا بتقوية استثمار حزب الله وعون بتلك الخلافات، فحققا ما يريدان.
طالبان لبنان
ويؤسس الواقع القائم في لبنان، والذي لا بد من قراءته في ضوء تطورات المنطقة، لمرحلة متغيرات استراتيجية تتعلق بطبيعة البلد ودوره ونظامه ووجهته. هذا مسار طويل آثاره مستقبلية.
ومن لديه رهان على الأميركيين بعد، عليه أن يقرأ ما جرى في أفغانستان، ويتابع مجريات المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، وينظر إلى قوة حزب الله وتأثيره داخلياً وإقليمياً، وأن لا ينزع من رأسه فكرة احتمال الخروج الأميركي الكامل في أي لحظة، في ظل عدم الاهتمام الاستراتيجي بلبنان.
ألا يسمح هذا كله بتكرار تجربة أفغانستان في لبنان؟ فيكون ما جرى بين طالبان وواشنطن نسخة مسبقة لما قد يحصل بين واشنطن وحزب الله.
المصدر: المدن