فراس سعد
مباشرة بعد اجتماع بشار الأسد بالمجلس الأعلى للإدارة المحلية في شباط فبراير من هذا العام ٢٠٢١، وُضع على الطاولة القانون رقم ١٠٧ لعام ٢٠١١ الخاص بالإدارة المحلية أو اللامركزية الإدارية وكان على ما يبدو بمثابة الإشارة من طرف النظام لقبول تغيير شكل النظام الإداري وربما لاحقا قبول لتغيير شكل النظام السياسي الحاكم لسوريا، وهو ما يعده البعض دليلا على مدى ضعف النظام، الذي ماطل طويلا في وضع مفهوم اللامركزية محل تطبيق، فلو كان قويا ما قبل بهذا التنازل الجوهري، الذي قدّمه النظام بفعل ضغوط روسية على الأغلب.
وجوهر هذا القانون متضمن في المادة رقم ٢، الفقرة الأولى منها، والتي تنص على: “تطبيق لامركزية السلطات وتركيزها في أيدي فئات الشعب تطبيقا لمبدأ الديمقراطية الذي يجعل الشعب مصدر كل سلطة وذلك من خلال توسيع وتحديد واضح وغير مزدوج لسلطات وصلاحيات مجالس الوحدات الإدارية لتمكينها من تأدية اختصاصاتها ومهامها في تطوير الوحدات الإدارية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا”.
وعمدت صفحة “رئاسة الجمهورية السورية” التي نشرت الخبر لتدوين ملاحظات على اللقاء، وعلى مخرجاته، من بينها “اللامركزية.. يجب أن تبدأ بالممارسة والمشاركة الفعلية من خلال الدور الذي يجب أن يقوم به المحافظون ومجالس المحافظات في تحريك المجتمع وتحفيزه على المشاركة في وضع تصورات للمشاكل والأزمات” وكذلك “.. وضع تصورات ودراسات لمشاريع استثمارية وخاصة في المناطق الريفية بما يتناسب مع إمكانيات وموارد تلك المناطق”.
بعد ذلك الاجتماع بدأ مألوفا قراءة منشورات فيسبوكية تتحدث عن ضرورة اللامركزية أو الفدرالية أو حتى السعي للحصول على الاعتراف الدولي من أفراد سوريين وجماعات سورية محسوبة على المعارضة.
بل نفخ الغبار عن حركة تسمي نفسها غد سوريا أعلن صاحبها من مناطق قسد أن العلويين ليسوا طائفة بل شعب.
وبعدها بشهرين وتحت الحصار الخانق والقصف أصدر أربعة أشخاص من درعا بيانا نسبوه للعشائر دعوا فيه إلى اللامركزية، جرى تكذيبه من بعض الشخصيات الحورانية..
ولم تتأخر قسد عن إطلاق حملة للحصول على الاعتراف الدولي، وحيازة مثل هذا الاعتراف يعني رغبة واضحة بالانفصال، أو البدء من طرف واحد – دونا عن بقية السوريين- بإقامة حالة اتحادية كونفدرالية، ولا تتضمن الفدرالية مثل هذا النزوع المناطقي أو الجهوي للحصول على الاعتراف الدولي، رغم أن “مثقفي قسد” يقولون إنهم يريدون تطبيق التجربة الفدرالية فحسب، ويضربون أمثلة على ذلك الفدرالية الألمانية.. فهل تقبل ألمانيا الفدرالية أن تبحث ولاية ألمانية عن اعتراف دولة ما مثل فرنسا أو تركيا أو مصر؟
من “المكونات” إلى اللامركزية
بدى جلياً تراجع دعوة “المكونات” إلى المرتبة الثانية لصالح دعوة اللامركزية في ال Top-ten الفيسبوكي السياسي السوري، فصارت -مثلما كانت دعوة “المكونات” لبضع سنوات خلت- موضة ينادي بها كل صاحب طموح أو مطمع، يضرب بها يمينا وشمالا علّه يحصل حضورا أو مكسبا أو اعترافا.
والحق أن أي مطلب حتى لو كان محقا، يطلب في غير وقته يفقده جزءا كبيرا من فاعليته.
وللأسف فإن غياب أصحاب الرؤية عن جماعة الطامحين والطامعين يشي بأن هذه الدعاوى مصيرها الفشل أو الاضمحلال كسواها من دعاوى.
وسبب غياب أصحاب الرؤى لا يعود لعدم وجودهم أو لعدم أحقية دعوة اللامركزية بل يعود لسببين:
الأول أن الظرف ليس مؤاتيا لإطلاق فكرة اللامركزية ولا لأي نظام سياسي آخر كجزء من الحل النهائي للكارثة السورية، لسبب بديهي وهو أن سوريا مازالت في حالة حرب وربما في نهايتها.
والثاني وهو الأهم ويتعلق بارتباط الحل النهائي بجملة تحولات تنتج عن اتفاقين، الأول دولي يمنح للاتفاق “الشرعية الدولية”، والثاني إقليمي تنفيذي يضع الاتفاق الأول محل التنفيذ.. دون أن نغفل عن أن مرحلة التنفيذ قد تستغرق سنوات، مع احتمال وجود المعوقات بسبب تضارب مصالح الخصوم الإقليميين ومن ثم تضارب مصالح المتنافسين المحليين السوريين.
مبررات الدعوة إلى اللامركزية
ما تقدم لا يجعلنا نذهب مذهب إدانة الدعوات إلى اللامركزية، فلكل دعوة ولكل ظاهرة أسباب موضوعية، وليس بالضرورة أن يكون مبعثها حصرا ثقافيا أو أيديولوجيا، ومن الظلم ربطها كليا بموقف أو قرار داخلي – النظام والروس- أو إقليمي، فدعوى اللامركزية في سوريا ليست جديدة لكنها صارت ربما مطلبا عند كثيرين في راهن التشرذم واستباحة الإنسان السوري، كتعبير للمستباح والمهمش، عن رغبة الانعتاق من الماضي والانفكاك عن المركز الذي يرتبط في أذهان معظمنا بالاستبداد والتكبّر والتخريب واللصوصية..
لكن السؤال المستحق هنا هو، هل ولادة مراكز فرعية أو طرفية يخفف من سلطة المركز الأول والأقوى الذي تجتمع إليه هذه الأطراف أو تتبع له فعليا أو اسميا؟
وهل ولادة مركزيات الأطراف يجعل منها ديمقراطية غير مستبدة أو متجبرة أو لصوصية؟ بحيث لا تستعاد تجربة ديكتاتورية المركز كما عهدناها لنصف قرن مضى؟
وبلا شك فإن تفرّد أو انفراد جماعة سورية بعينها -سواء كانت أسرة أم حزبا أم طائفة أم قومية- في حكم كل الجماعات السورية الأخرى أمر لا يقبله عقل ولا ذوق، لاسيما بعد التجربة الأخيرة التي راحت ضحيتها سوريا بالكامل شعبا وأرضا وانتماء ..
فأياً كانت مظلومية الجماعة فلا يجدر بنا منحها وطنا كاملا كجائزة ترضية أو تعويضا عن الظلم الذي وقع عليها في الماضي أو يقع عليها في الحاضر..
أي لامركزية وأي فدرالية؟
اللامركزية نوعان، الأولى لامركزية دولتية: تطمح لمنافسة الدولة المركزية لتصبح دويلات أو دول إلى جانب الدولة المركز فتسعى للاستقلال الجزئي أو التام أو للحصول على اعتراف عواصم كبرى أو إقليمية وهذه ما تسمى الفدرالية الاتحادية على شاكلة فدرالية كردستان شمال العراق.
الثانية لامركزية إنمائية: تطمح فقط لتقاسم الثروة مع المركز وتنمية المناطق بحسب حاجاتها والتخفف من هيمنة المركز في القضايا الاقتصادية والاجتماعية وليست معنية بلعب أي دور سياسي أو دولتي خاص أو مستقل عن الدولة.
ولا ريب أن المركزية التي يقرّ بها القانون رقم ١٠٧ تختلف عن اللامركزية الفدرالية التي تنادي بها قسد أو مسد وغيرهما، غير أن تطبيق القانون في الظرف الحالي ربما يفضي بنا إلى فدرالية سورية، أو إلى شكل فدرالي ما لسوريا.
ولا بأس هنا من توضيح يضبط معنى المصطلح -الفدرالية- كما جرى التعارف عليه أكاديميا:
فالنظام الفدرالي الاتحادي هو نظام يقسم السلطة دستوريا ما بين حكومة مركز أو الحكومة الفدرالية وغالبا ما يكون مركزها عاصمة البلاد، وبين حكومات الأقاليم، وكلاهما يعملان معاً، ويعتمدان على بعضهما البعض، ويتقاسمان السيادة، أما الأقاليم فتعد وحدات دستورية لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون وضع الحكم الذاتي للأقاليم منصوصا عليه في دستور الدولة ولا يمكن تغييره بقرار أحادي من حكومة المركز.
وإن كان أمر التعريف سهلا فإن من الصعب ضبط حدوده التي تختلف من مكان وظرف وزمان إلى آخر ولا يغيب عن بالنا أن المصطلح ابن واقعه أي ابن زمانه ومكانه فما يحتوي عليه مصطلح الفدرالية الاتحادية في التطبيق الألماني مختلف نسبيا أو جذريا عن الفدرالية الهندية أو الفدرالية الاتحادية السويسرية أو الفدرالية الأميركية أو الإندونيسية أو البرازيلية.. الخ وهذا الاختلاف النسبي أو الجذري للمفهوم الواحد أو النظام الواحد يعود كما أسلفنا للواقع الخاص بكل بلد ومجتمع، لكن الفرق الجوهري الذي نلمسه في تطبيق الفدرالية يتأتى من مسألتين:
الأولى: التقدم الاجتماعي وهو يقوم على احترام المجتمع للقانون ونزاهة القضاء وضعف مستوى الفساد وانخفاض مستوى الفقر، وغنى المجتمع والدولة.
والثانية: وهو عامل حاسم في نجاح النظام اللامركزي أو الفدرالي: أن يكون منتجا وطنيا لا منتجا أو إلزاما دوليا لتقاسم مناطق النفوذ أو اقتسام كعكة البلاد المهزومة الخارجة لتوها من حرب مدمرة.
لأي غاية كانت الفدرالية؟ ولماذا الفدرالية السورية تعني التقسيم؟
نشأت الفدرالية تاريخيا لعلاج وضع سياسي سمته التعدد والتفكك والاحتراب الموسمي بحيث إن الفدرالية الاتحادية مثلا كانت دواء وعلاجا لعشرات الدويلات الألمانية المتحاربة والمتنافسة طوال قرون، كما كانت حلا اهتدى إليه الأمريكيون بعد حروب أهلية مديدة ومؤلمة بين الجنوب والشمال.
أما في سوريا فإن طرح الفدرالية كغاية أو حل، يُظهر بما لا يقبل الشك أن الأمور تذهب إلى النموذج الأندلسي، وعلى وجه الدقة إلى دولة ملوك الطوائف، التي تعني نزاعات لا تنتهي وربما حروب تفضي إلى مزيد من الضعف ومزيد من الاستعانة بالخارج يستدعي التدخل الأجنبي أو الاحتلال طويل الأمد الذي قد ينتهي إلى التقسيم، فطرح اللامركزية أو الفدرالية في دولة تعاني الضعف والاحتلال ليس سوى مؤشر إلى بداية التفكك أو التفكيك.
وقد يقول قائل إن سوريا اليوم تعيش اليوم حالة الأندلس قبل قرون، بملوك طوائفها ومناطقها غير المتوجين وبأمراء حروبها وأثريائها وبفوضى الاقتتال والخصومة العبثية، وهذا صحيح، لكن الدعوة إلى الفدرالية يمنح هؤلاء الملوك والأمراء كما يمنح سلطاتهم على مناطقهم، شرعية دستورية، هي غاية ما يطلبونها، وحجتهم بذلك أن الفدرالية هي الحل في مواجهة مركزية استبدادية. لكأنّ ملوك الطوائف هؤلاء غدوا ملوكا للديمقراطية والحريات والشفافية.
والافت للانتباه أن تطرح الفدرالية في سوريا لتفكيك الواحد أو تقسيمه من منطلق -يزعم أصحابه- أن هذا الواحد هو في الأصل متعدد.
وقد يكون الواحد في أصله متعددا، عندها، من الواجب تمكين وحدة هذا الواحد ليصبح أقوى- ومطلب القوة نزوع فطري بشري- وليس فرط عقده ليصبح أضعف فأضعف..
تكرارا واختصارا نقول: إن الذهاب إلى الفيدرالية – كما جرى التعارف عليها أكاديميا- هو خيار يودي بسوريا إلى حالة التقسيم لثلاثة أسباب هي: الاحتلال المباشر والتخلف العام والتعدد الطائفي والإثني والقومي.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا