محمود الوهب
ينطوي كتاب الدكتور حبيب حداد “النهضة المعاقة” تحت ما يعرف بالمذكَّرات السياسية، والمؤلف عضو في القيادة القطرية لحزب البعث منذ عام 1965 حتى انقلاب حافظ الأسد أواخر عام 1970، وقد كان في عشرينيات عمره.. وأكثر ما تجلى نشاطه السياسي القيادي في المرحلة التي عرفت بحركة 23 شباط (1966 – 1970) وإنجازاتها، ثم عاش هجرة المعارضة السورية الأولى في المنافي.. والدكتور حداد مولود في قرية “خبب” من محافظة درعا، وبدت عليه علامات النبوغ منذ وجوده في المدرسة الابتدائية، وقد ازدهر حزب البعث في زمنه؛ إذ قام بعدة حركات انقلابية في سورية منذ أن بادر ضباطه إلى قطع الطريق على البرجوازية الوطنية الصاعدة، وعلى نمو الحركة الشيوعية الصاعدة بإقامة الوحدة الفورية مع مصر في وقت كان فيه الصراع على سورية شديداً، وقد برز آنذاك جمال عبد الناصر قائداً عربياً يمثّل تيار القومية العربية، لكن تلك الوحدة لم تكن لتستمر أكثر من ثلاث سنوات، ثم لتجري عدة انقلابات عسكرية آلَ الحكم بعدها إلى حافظ الأسد الذي أعاق تلك النهضة بانقلابه على خطها وإنجازاتها السياسية والاقتصادية كما يبيِّن الكتاب. وإذا كانت حركة 23 شباط قد جاءت مع توهّج الشيوعية، وانطلاق حركات التحرر الوطني التي أخافت بعض العرب من توسّعها وامتدادها، فإنّ مجيء حافظ الأسد لجم ذلك النمو اليساري، وطمأن الغرب ودول المنطقة أيضاً. تستعرض هذه الدراسة من الكتاب الجانبّ المتعلق بشخصية حافظ الأسد المتلونة و”المناورة” (صفة أطلقها الأسد على خصومه الذين انقلب عليهم)، والاطلاع عليها يعين على فهم ما آلت إليه سورية اليوم. لم يكن وصول حافظ الأسد إلى السلطة وليد خلافات حزبية، بل أتى وَفق تخطيط مسبق، وعمل متأنٍّ دقيق يقوم على مبدأ خطوة تتبعها أخرى، ما ينمّ عن شخصية غامضة مراوغة في سلوكها لغاية اقتناص السلطة والتفرد بها! يرصد الكتاب مرحلة مهمة من مراحل تاريخ سورية الحديث عُرفت سياسياً باسم: “جماعة صلاح جديد”، أو “البعث اليساري”، وقد اتهمها بعض حكام المنطقة بالشيوعية، وعملوا ضدها، ثم أتى حافظ الأسد مرحَّباً به ومدعوماً من هؤلاء، للخلاص من تلك المجموعة التي أقلقت هدوء المنطقة وسكونها.. يتناول الكتاب تلك المرحلة بكثير من الدقة والتفصيل، ومن خلال قصصٍ ووثائق وعِبَرٍ سياسيةٍ. تعدُّ حركة 23 شباط 1966 من أغنى مراحل تاريخ حزب البعث، فالمشاريع الاقتصادية الكبرى التي أُنشئت في سورية جاءت بمبادرة من قادة تلك المرحلة، ورغم تفردهم بالسلطة إلا أنّ التنمية وأسلوب إزالة آثار هزيمة حزيران 1967، ومناقشة توسيع حكمهم وقضايا أخرى تستعرضها الدراسة تضيء خفايا شخصية حافظ الأسد التي يكشفها سياق الكتاب، إذ بيّنتها أفعاله بعد حركته الانقلابية في ممارسات جاءت عكس ما كان يعبِّر عنه من مواقف سياسية وتنظيمية حزبية ذكرها مؤلف الكتاب الذي عاش تفاصيلها، وسنأتي عليها واحدة واحدة مدعَّمة بالوثائق التي لا يأتيها الباطل.
أولاً- ضد الفردية والتميُّز
ورغم كل ما أشيع عن الأسد من فردية مطلقة أكدتها أفعاله فيما بعد، إلا أنّ مواقفه في الاجتماعات الحزبية كانت مغايرة لذلك، ما يؤكد شخصيته المراوغة، فقد ورد في الكتاب أنه جاء إلى أحد الاجتماعات مستأذناً بطرح موضوع لا يحتمل التأجيل، وأنّه يريد وضع القيادة أمام ظاهرة خطيرة تنتشر وتتوسع يوماً بعد يوم، وعلى القيادة ألَّا تستهين بها، بل أن تضع لها حداً لها.. “هذه الظاهرة، أيها الرفاق، هي ظاهرة الفردية. وأنا لا أقول إنّها مقصودة ولكنها موجودة على كل حال. اذهبوا وتجوّلوا في العديد من أسواق مدينة دمشق وأحيائها، وأعطى مثلاً على ذلك منطقة البرامكة وزقاق الجنّ قرب مشفى المجتهد، لتتأكّدوا بأنفسكم.. أنّ صور الرفيق أبو عبدو (أمين الحافظ) معلقة في معظم المحال.. كان كل أعضاء القيادة يستمعون مشدوهين..” و”أتذكر الآن جيداً ونحن في ذلك الاجتماع أن الفريق أمين الحافظ نادى على مرافقه النقيب حسن عروس الذي دخل القاعة، وطلب منه الاتصال بقائد الشرطة العسكرية المقدم “حسين ملحم” كي يحضر حالاً. ولم يمض أكثر من عشرين دقيقة حتى كان المذكور يدخل قاعة الاجتماع، فتحدث إليه الفريق أمين الحافظ قائلاً: الله يرضى عليك يا “أبو سرمين” كلف أفراد الشرطة العسكرية بالتجوال في مختلف شوارع دمشق كي يطلبوا من الناس أصحاب المحلات عدم تعليق صور رئيس الدولة، أو أي مسؤول آخر، وأن يتم ذلك بالإقناع والحسنى، فإن لم يستجيبوا فعلى أفراد الشرطة العسكرية أن يبلّغوهم أن هناك أوامر رسمية بمنع تعليق صور المسؤولين في المحال الخاصة، والدوائر الرسمية، وكلّ من يخالف ذلك يتعرض للعقوبة”. ص156
بالطبع لا حاجة للإشارة إلى فردية حافظ الأسد التي برزت من خلال صورة ارتفعت هنا أو هناك، بل غدت صوره على صفحات كتب التلاميذ أجمعين مع لمحة عنه تؤكد أنْ لا مثيل له في التاريخ، وبعد فترة من سلطته ملأ المدن والشوارع والوزارات والمديريات العامة بالتماثيل ومداخل المدن. وأذكر هنا أنّ الحزب الشيوعي السوري الذي تحالف مع الأسد قد استهجن مكتبُه السياسي ما يجري من صناعة دكتاتور جديد، وخصوصاً لدى ترشحه للرئاسة، فمهرجانات ذبح الخراف والجمال على شرف زيارته لهذه المدينة أو تلك، إلى جانب الدبكات والزينات، فقرّر إرسال مَن يشير إليه بخطورة ذلك بأسلوب لَبِق، وكان أن اختير يوسف الفيصل، وكان وزيراً (كتاب يوسف الفيصل ذكريات ومواقف ج 2)، وهو المتحدث اللبق، والقادر على إيصال فكرته بيسر وسلاسة.. يقول الفيصل: جلسنا في زاوية قاعة كبيرة.. وبادرني الأسد: تفضل أستاذ يوسف.. فمهدت بالحديث عن كتاب بليخانوف “دور الفرد في التاريخ”، وعرَّجت على ما يجري عندنا، وبيّنت تخوّف حزبنا من تلك الحالة وتأثيرها السلبي، وما يمكن أن تجرَّه على الحكم، وتحدثتُ مقدار ربع ساعة أو أكثر، ولما توقفت، قال: أكمل.. فقلت: انتهيت فقال: انتهى الاجتماع.. يقول الفيصل خرجت خائباً خائفاً مما نحن فيه! (لكن الحزب لم يتخذ أي موقف، واستمرّ بالتعاون).
ثانياً- إعفاء حافظ الأسد من المساءلة حول هزيمة حزيران
تبدأ الحكاية من إصرار حافظ الأسد على البقاء في منصبه وزيراً للدفاع رغم الهزيمة الفاجعة، كما تكشف عن مراوغته في انتقاداته التنظيمية، والسياسية، والتنموية التي كان يبديها في اجتماعات القيادة، ليعود إلى ممارستها بشدة وفظاعة بعد وصوله إلى السلطة، والبداية من مجيئه إلى اجتماع القيادة المكرَّس لمناقشة العمل بُعَيْدَ هزيمة حزيران التي يتحمّل مسؤوليتها بالدرجة الأولى، إذ هو وزير الدفاع طالباً تجديد الثقة به، ليستطيع متابعة مهامه وبقية قيادة الجيش الذي (لم يحارب أصلاً!)، وكان رأي صلاح جديد آنئذٍ أن تستقيل القيادة العسكرية بحسب العرف والمفاهيم السائدة في هذا المجال، وقد جرى تصويت عفوي وسريع على اقتراحه، فسقط بأغلبية صوت واحد، وكان أن ساد في الاجتماع مناخ طرد اليأس وشحذ الهمم، وهكذا نال حافظ الأسد ما أراد، ليخرج أكثر قوة، وليذهب إلى زملائه الضباط الذين يتحمّلون معه وزر الهزيمة، واشياً بالقيادة، وما كانت ستفعله بهم.. والغاية كسب ودهم للوقوف إلى جانبه حين تأتي فرصة الانقضاض على السلطة.. يشير إلى ذلك مؤلف كتاب “النهضة المعاقة” بقوله: “إنّ وزير الدفاع نفسه (حافظ الأسد) قد أخبر الضباط الذين كانوا موضع المساءلة بأنَّ قيادة الحزب إنّما تستهدف بهذا الإجراء تصفيتهم، وأنّه سيتكفّل بحمايتهم من أية مساءلة..” ص 76
ثالثاً- موقفه من التنمية
وإذا كان حافظ الأسد قد أصرَّ على البقاء في منصبه رغم هزيمته النكراء، فكيف له أن يهتم بتنمية البلاد التي هي هدف الشعب السوري وغايته، بعد أن أُبعد روّادها الأوائل مع التأميم الذي بدأ عام 1961 وتوبع بعد انقلاب آذار1963، وإذا كانت غاية التأميم إيجاد قاعدة اقتصادية لتكون أساساً لتنمية فعلية تماشياً مع ما كان سائداً حينذاك من أفكار، فإنّ التأميم استُغل لتثبيت أركان العسكر الانقلابيين.. يشير الدكتور حداد إلى رأي حافظ الأسد حول التنمية، وحول سد الفرات بالتحديد: “إن الشخص الوحيد من أعضاء القيادة (حركة 23 شباط) آنذاك الذي كان يعارض مشروع سد الطبقة وغيره من المشاريع التنموية الحيوية، هو وزير الدفاع حافظ الأسد، بحجّة أنّ هذه المشاريع ستكون عرضة لتدمير العدوّ الإسرائيلي لها ما دمنا في حالة حرب معه، ولذا لا يجوز تنفيذ أيِّ منها إلا بعد تحرير فلسطين.. لكن حافظ الأسد كما هو معلوم عاد بعد تنفيذ حركته الانقلابية إلى الادّعاء بأنه هو وليس غيره الذي كان وراء تنفيذ تلك المشروعات، وأنّه انسجاماً مع هذه الحقائق كان الأمر الطبيعي أن تسمى باسمه!”ص 39 إنّ أبسط تعليق حول هذا الأمر لا الكذب أو المراوغة بل هو الجهل بـ أو إغماض العين عن محتوى الصراع بيننا وبين إسرائيل على المدى البعيد، فالتنمية أهم مصدر من مصادر توفير القوة، وتثبيت الحقوق.. وقد جاءت الأحداث مؤكدة موقفه من دعم القضية الفلسطينية فهو في العمق لا يريد حرباً، ولا تنمية، بل سلطة على حجمه وحجم مواليه، يريد مزرعة لا وطناً.. وهكذا كان وقد بقي فيها ثلاثين عاماً، وورّثها، وهو ميت، لابنه.. يتبع
المصدر: نداء بوست