هادار كوهين*
قامت دولة إسرائيل بتكييفنا لنرى تقاطع “اليهودي” و”العربي” على أنه مستحيل -على الرغم من أن عائلتي تحمل هذه الهوية لأجيال… إن الاستعمار يعبث بعقولنا ويعمل عليها بغية تشويه فهمنا للهوية وإدامة أجندته الخاصة. ولهذا السبب، كانت هويتي، كعربية ويهودية، مصدرًا كبيرًا للارتباك الداخلي الذي استغرق مني تحليله وتفكيكه سنوات. وفي الآونة الأخيرة، بدأت أفهم كيف يمثل هذا الحوار الذاتي الداخلي معضلة سياسية وُلدت من خلال استعمار فلسطين.
* *
كلما وجدت نفسي في احتجاج يساري ضد الاحتلال، أجد هناك دائمًا شخصاً يحمل لافتة تقول “اليهود والعرب يرفضون أن يكونوا أعداء”. وقد أصبحت هذه العبارة، من بعض النواحي، حجر الأساس للأيديولوجية اليسارية التي تدعو إلى التعايش في إسرائيل/ فلسطين. لكنني كلما واجهت هذه العبارة أشعر بالارتباك وفقدان الاتجاه. في أي جانب أنا؟ إذا كنت في الجانب “اليهودي”، فهل أخسر الهوية العربية التي في داخلي؟ هل يمكنني التماهي مع كوني عربية، حتى بينما أتمتع بالامتيازات كمواطنة يهودية في إسرائيل؟ من الذي قرر أن يطلق سباقاً ضد الدين؟
إن الاستعمار يعبث بعقولنا ويعمل عليها بغية تشويه فهمنا للهوية وإدامة أجندته الخاصة. ولهذا السبب، كانت هويتي مصدرًا كبيرًا للارتباك الداخلي الذي استغرق مني تحليله وتفكيكه سنوات. وفي الآونة الأخيرة، بدأت أفهم كيف يمثل هذا الحوار الذاتي الداخلي معضلة سياسية وُلدت من خلال استعمار فلسطين.
أنا أعرِّف نفسي على أنني يهودية عربية. فقد عاشت عائلتي في القدس لأكثر من 10 أجيال، وتشمل مدن أسلافي الأخرى حلب في سورية، وبغداد في العراق، وشيراز في إيران، إلى جانب قرية صغيرة في كردستان. ونشأت مع تقاليد وثقافات سورية-فلسطينية في المقام الأول. كانت جدتي رسامة نسوية ومحبّة ثقافية للسينما والأدب. وكان جدي إمامًا للصلاة، ماهرًا في فن المقامات، وهي إطار لحني عربي فريد، وكان يتلو الصلوات وفقًا للتقليد السوري-المقدسي. وكانت عائلتي تصلّي باللغتين، العبرية والعربية، بلهجة كثيفة تتدحرج على ألسنتنا كلما نطقنا بالبركات اليهودية. وقد نشأت مع محمد عبد الوهاب، وشبات بيوتيم، والقصائد الطقسية اليهودية وهي تُغنّى معًا. وحتى جيل والدي، كانت العربية هي اللغة السائدة في عائلتي.
في بيتنا اليهودي التقليدي، كانت مراعاة تراثنا وثقافتنا السورية-الفلسطينية سهلة. كانت اليهودية والعروبة تتلاحمان فينا بشكل متماسك -لم يكن ثمة تناقض. ولكن، خارج منزلنا تصادم ديني وثقافتي. وجعلتني دولة إسرائيل أرى التقاطع بين “يهودي” و”عربي” على أنه غير موجود أو مستحيل، على الرغم من أن اليهود العرب عاشوا في هذا التقاطع لسنوات. وقد علمت أنه من أجل الانتماء إلى المجتمع الإسرائيلي والمشاركة في المشروع الصهيوني، كان عليّ أن أرفض وألفظ أجزاء من ذاتي -الأجزاء العربية. وتعلِّم الصهيونية أن “العرب” هم أعداء اليهود، وبفعلها ذلك، مزقت هويتي تمامًا وجعلتها شظايا.
وقد تمت مراكمة هذه التغييرات الماكرة تدريجيًا لتقويض هويتي الأصلية. وخلقت تنافرًا بين واقعي الداخلي، والسرد الخارجي المتوقع للمشروع الاستعماري. وأنا أجد نفسي مضطرة دائمًا إلى الاختيار بين يهوديتي وعروبتي. هل أنا جزء من الجالية اليهودية الأكبر، بالنظر إلى أنني أتبع هذا الدين وعاداته؟ أم أنني أنتمي إلى المجتمع العربي، حيث التقاليد الثقافية وأنماط الحياة أكثر حضوراً؟
لقد أنشأت الصهيونية نظامًا طائفيًا عرقيًا وضع اليهود من أصل أوروبي، المعروفين باسم الأشكناز، فوق أي شخص آخر. وتم تصنيف المجتمعات اليهودية التي كانت عربية أو ماثلت العروبة على أنها مزراحيّة، يهود شرقيون، وعوملت باعتبار أنها أقل شأناً. ولم يقتصر الأمر على اقتلاعنا من منازل أجدادنا التي أقاموا فيها منذ آلاف السنين، لكن المهاجرين الشرقيين عانوا أيضاً، عند وصولهم إلى إسرائيل المتأسسة حديثاً، عنصرية قاسية وتم وضعهم في “المعبروت”، أو معسكرات العبور.
وثمة أمثلة لا حصر لها على عنصرية دولة إسرائيل المستمرة ضد المزراحيم. في الخمسينيات من القرن الماضي، اختطفت السلطات الإسرائيلية آلاف الأطفال الرضع من اليهود الشرقيين، ووضعتهم بشكل غير قانوني للتبني لدى أسر أشكنازية ليس لديها أطفال. وقيل للوالدين إن أطفالهما قد ماتوا. وفي الوقت نفسه تقريبًا، أجرى طبيب إسرائيلي كبير تجربة علاجية بالإشعاع على آلاف الأطفال اليهود العرب بسبب القوباء الحلَقية، وهي عدوى جلدية غير مميتة، وتم لاحقًا اكتشاف أن ذلك العلاج يسبب السرطان وأمراضًا أخرى.
من الواضح أن رؤية “التحرير اليهودي” للصهيونية لم تشمل جميع اليهود، ولم تعامل جميع اليهود على قدم المساواة. كانت الصهيونية الأوروبية متجذرة في موقف إمبريالي استعماري، سعى إلى إنشاء دولة أوروبية في فلسطين. ولم يكن هذا يعني الحرب ضد المجتمعات الفلسطينية الأصلية على الأرض فحسب، لكنه كان يعني أيضًا شن حرب ثقافية على هويات وتقاليد اليهود العرب. وأصبحت العروبة نفسها عدوًا للدولة، وكل ما يمثل العروبة يحتاج إلى تحقيره، أو إخفائه، أو تدميره.
إنها لهوية معقدة يصعب الاحتفاظ بها لأنني، من ناحية، أتمتع بامتيازات اليهود من الدولة؛ وعليّ، من ناحية أخرى، أن أكره الجزء العربي مني حتى أصبح جزءًا من المجتمع الإسرائيلي بشكل كامل. لا مكان للعروبة في الصهيونية. وعليّ أن أقمع، وأمحو، وأخفى وأخبئ أسلوب حياتي العربي وأن أندمج وأذوب في التصورات الأوروبية عن اليهودية. وفي ظل هذا النظام الطبقي العرقي، لا يمكنك أن تنتمي على الإطلاق، بغض النظر عن مدى اندماجك.
قبل بضعة أسابيع، قررت مشاركة قصة عائلتي على “إنستغرام”. نشرت صورًا عائلية وحكايات عن سلالة أجدادي -ولكن أيضًا عن الطرق التي عانيت وناضلت بها مع هويتي. وقد نمَت تلك المشاركة الأصلية منذ ذلك الحين لتصل إلى مجتمعها الدولي المتقاطع الخاص. وشارك الآلاف من المتابعين من مختلف الهويات والأعراق قصصهم ونضالاتهم مع هوياتهم الخاصة. وأصبحت هذه مساحة للتضامن والتحرك معًا نحو الشفاء. وقد تأثرت بشكل خاص بقصص مسلمين من الدول العربية، ممن شاركوا خبرتهم مع مشاعر الخسارة والحزن التي أعقبت مغادرة الجاليات اليهودية العربية أوطانهم.
إن الأصل السامي لكلمة عربي “مختلط”، كما كان الحال بالنسبة لمعظم التاريخ. كانت المنطقة العربية مكانًا جاء إليه الناس من قارات مختلفة ليعيشوا فيه معًا. وكان هذا -جزئيًا- سبب تركيز الثقافة العربية على كرم الضيافة والترحيب بالغرباء. كنا مكانًا بذراعين مفتوحتين، نقبل المسافرين واللاجئين ونستقبلهم بالحب والرعاية. ولكن، مع قيام القوى الإمبريالية الأوروبية ببناء الحدود والجدران لفصل الأراضي والمجتمعات، ضللنا طريقنا.
اخترت أن أعرَّف على أنني يهودية عربية، لأن هذا التعريف يكسر الجدران المحيطة بالهوية التي أوجدتها الصهيونية. إنه يحطم الإطار الاستعماري ويخلق إمكانية لسرد مختلف. وهذا، بالنسبة لي، ضروري جدا لتطور الخطاب.
*فنانة متعددة الوسائط ومعالجة ومربية نسوية مزراحية. وهي مؤسسة Feminism All Night، وهو مشروع يصمم خبرات تعلم جماعية انغماسية حول النسوية والروحانية. وهي صوفية يهودية، تعمل على بناء أطر لإنهاء الاستعمار من أجل عبادة الله. تدرس الكتاب المقدس اليهودي والممارسات المجسدة من خلال منصات مختلفة. تشمل وسائطها الفنية الأداء، والحركة، والكتابة، والنسيج، والصوت والطقوس.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Zionism has no space for an Arab Jew like me
المصدر: الغد الأردنية/(مجلة 972+)