راغدة درغام
بلغ تعويم سوريا وإعادة تأهيل رئيسها بشار الأسد عتبة مفصليّة في الأسابيع والأشهر القليلة الماضية بتفاهمات دولية واقليمية. كلمة السر في هذه التفاهمات هي إسرائيل. الراعي الرئيسي لها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. اللاعبون الآخرون يشملون الولايات المتحدة ودولاً أوروبية. الجمهورية الإسلامية الإيرانية لاعب خلفي لكنه موجود ميدانياً بامتياز. مصر والأردن متواجدتان على الساحة بقوة فيما دول خليجية رائدة تعمل من وراء الستار. العراق معلّق. لبنان الذي لطالما اعتبرته سوريا عمقاً استراتيجياً لها بحلَتّه التقليدية بكل ما فيها من فساد الصفقات والمحاصصات موجود كلاعب ثانوي وكساحة للاختبار. “حزب الله” هو الذي في صميم المقايضات التي قد تؤدي، كأمر واقع، الى نزع منطق سلاحه ومفعوله. فالكل يجلس الى طاولة رسم الاستراتيجيات في ضوء غموضٍ هنا وتنافسٍ هناك وسط خيبة أملٍ مدوية للبعض وفسحة تنفس الصعداء لدى البعض الآخر. فهذه ليست مرحلة الوضوح والارتياح، ولا هي مرحلة الخيارات المتعددة. انه زمن “عض اللسان” للاستفادة قليلاً، إذا كان ذلك في الإمكان بكثير أو قليل من التنازلات.
بشار الأسد ليس في وارد الكثير من التنازل لأنه يعتبر نفسه منتصراً داخلياً وإقليمياً وباقياً في الرئاسة بلا حدود زمنية. تحالفه مع روسيا وإيران و”حزب الله” نقله من الضعف الى القوة، وهو عازم على استخدام سلطته المدعومة ميدانياً بهذا التحالف في وجه المعارضة الداخلية كما نحو الولايات المتحدة وتركيا.
في المعلومات، ما اتفق عليه الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد أثناء لقائهما هذا الأسبوع في موسكو شمل التالي، بحسب مصادر روسيّة مطّلِعة:
أولاً، اتفقا على ان الوقت ملائم الآن “لتحرير ما تبقّى من الأراضي السورية”، والمقصود هو الأراضي الواقعة تحت السيطرة الأميركية وتلك تحت السيطرة التركية.
أميركياً، تقديرهما أن القوات الأميركية والغطاء الجوي الأميركي باقيان حتى إذا تم سحب القوات الأميركية من العراق أو تقليص التواجد الأميركي في سوريا. وعليه، إن الاستراتيجية الروسية – السورية يجب أن تقوم على تصعيد المطالبة بخروج القوات الأميركية كاملة وإنهاء “الاحتلال”.
ثانياً، وبحسب المصادر نفسها، تم الاتفاق على التحضير لعمليات جديدة في إدلب لأن الوقت ملائم نظراً الى التهاء تركيا بتطورات أفغانستان ولتعاظم الأزمات الداخلية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ما نقلته المصادر عن الأسد هو انه يريد استرجاع خريطة سوريا الأصلية وهذا يتطلّب استعادة ما يوازي 10 في المئة من الأراضي السورية الخارجة عن سيطرته.
ثالثاً، كرّس اللقاء بين بوتين والأسد بقاء روسيا في سوريا الى أجلٍ غير مسمّى وتم الاتفاق على تفاصيل تقنيّة تبقى القوات الروسية بموجبها في سوريا بامتيازات غير مسبوقة.
رابعاً، اتفق الرئيسان على إحياء العملية السياسية الداخلية لسوريا التي تحمل عنوان “أستانا” أو “سوتشي”، لكن الأسد أصرّ على شرط مسبق هو أن له هو فقط القرار الداخلي بصفته رئيساً منتخباً. بكلام آخر، إن ما يريده الأسد هو ما يجب أن يؤخذ في قمة الاعتبار – وهذا يعني أن لا مساواة بينه وبين المعارضة السورية في أي عملية سياسية.
خامساً، اتخذ بوتين والأسد قراراً حاسماً بأن العلاقة الثلاثية trilateral بين روسيا وسوريا والجمهورية الإسلامية الإيرانية يجب أن تستمر كاستراتيجية وكعلاقة دائمة.
سادساً، في ما يخص إسرائيل، قالت المصادر إن الرئيس الروسي طلب من نظيره السوري أن يتم بحث المسألة الإسرائيلية لاحقاً وبصورة منفصلة إنما يجب على سوريا أن تتجنّب أي اعتداء أو أية مواجهة مع إسرائيل كي لا تستفزّ رداً اسرائيلياً عدائياً. الطرح السوري كان أنه يجب تحرير أراضي سوريا من جميع الأعداء، إن كان ذلك تنظيفها من “داعش” و”القاعدة” أو إن كان استعادة “الجولان”. فأتى الرد الروسي أن النصيحة الروسية للرئيس السوري هي ألا يطرح مسألة الجولان.
روسيا حسمت أمرها عندما قال وزير خارجيتها سيرغي لافروف قبل أسبوعين أن موسكو تعتبر أمن إسرائيل “من أهم الأولويات بالنسبة الينا في القضية السورية وغيرها من النزاعات”. الإسرائيليون عبّروا للروس عن مخاوفهم من تداعيات الانسحاب الأميركي من سوريا في أمرين هما: تقوية إيران في سوريا، وتقوية يد الأسد في الجولان. لذلك، طلب بوتين من الأسد أن يُترَك أمر إسرائيل للبحث لاحقاً وبصورة منفصلة.
المواقف الروسية لجهة ضمان أمن إسرائيل توازي ما يسمى بتغيير قواعد اللعبة Game changer. فروسيا اليوم هي شريكة للولايات المتحدة في ضمان أمن إسرائيل. كلام لافروف “إننا لا نريد أن تُستَخدَم الأراضي السورية لمهاجمة إسرائيل” يُطبَّق على الجبهة اللبنانية وليس السورية فقط. وإذا كان قرار مهاجمة إسرائيل من سوريا قراراً سوريّاً، إن قرار مهاجمة “حزب الله” إسرائيل من الجبهة اللبنانية هو قرار إيراني وليس قرار الدولة اللبنانية.
منطقيّاً، هذا يفيد بأن الحليف الإيراني لروسيا وافق على ضبط تفعيل “حزب الله” الجبهة اللبنانية ولجمه عن أيّ هجمات جدّيّة ضد إسرائيل. (راجع المقال بتاريخ 15 آب / أغسطس تحت عنوان: منع المواجهة “الضخمة” بين إيران وإسرائيل والسماح بـ”عضّات” “حزب الله”) هذا بدوره يعني أن ترسانة أسلحة “حزب الله” التي يقول الحزب إن هدفها هو مقاومة إسرائيل وتحرير الأراضي العربية باتت اليوم مجمَّدة في “البرّاد” الروسي – الإيراني وباتت دعائية بحتة. هذا في النهاية يعني وجود اتفاق ضمني بين الدول الكبرى -يشمل إيران – على تحييد سلاح “حزب الله” في المعادلة مع إسرائيل. وهذا تطوّر جذري.
تشخيص وضع “حزب الله” وتموضعه داخلياً وإقليمياً ودولياً ليس أمراً سهلاً وهناك، أقلّه، رأيان: رأي ينظر الى التفاهمات الإيرانية مع الدول الأوروبية وروسيا والصين – والضمنيّة منها مع إدارة بايدن – بأنها تدشين لصوغ أدوار جديدة لـ”حزب الله” الذي هو الساعد الأطول والأقوى لطهران وبالذات لـ”الحرس الثوري” المسؤول الأول عن السياسة الخارجية الإيرانية.
ينظر القائلون بهذا الرأي الى تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، بالرغم مما تخلّل عملية التشكيل من محاصصات ومساومات وتثبيت للطبقة السياسية وصفقات فرنسية – إيرانية – أميركية وراء الكواليس وتحايل على مبدأ حكومة التكنوقراطـ، بأنه قفزة من نفق اختفاء لبنان الى ضوء استمراريته.
يقرّ أصحاب هذا الرأي بأن لا إصلاح جدّياً في الأفق لأن هذا الطاقم الذي يستبدّ بالبلد لا يحاسب نفسه بنفسه وسيعرقل دائماً المساءلة والمحاسبة. لكنه يعتبر أن لبنان خرج من مشروع حرب وانهيار يأخذ به الى المجهول، وبالتالي إن تشكيل الحكومة هو إنجاز استمرارية لبنان. رأي هؤلاء أن التغيير لن يأتي من الخارج وسيستغرق طويلاً وأن أولى محطاته هي الانتخابات النيابية بمراقبة دولية وبمشاركة شعبيّة جدّيّة… وليس بالثورات التي أثبتت عدم قدرتها على الاستدامة.
ماذا عن سيطرة “حزب الله” على لبنان وماذا عن سلاحه؟ يأتي الجواب الأول بأن الحزب لن يستطيع السيطرة كاملاً بمفرده لأن تركيبة لبنان تحول دون ذلك. فهو لن يسيطر على منطقة زغرتا، مثلاً، مهما فعل وبالتالي إن سيطرته محدودة ومقيّدة.
أما سلاحه فبات مقنّناً في التفاهمات الدولية والإقليمية وبات لا معنى لهذا السلاح في معادلة منع الحرب مع إسرائيل بموافقة طهران- صاحبة قرار الحرب والسلم والتهادنية. بكلام آخر، انتهى معنى سلاح “حزب الله” ومنطقه وأصبح سلاحاً لا يفيده. انتهت صلاحية هذا السلاح وانتهت معادلة الحرب العسكرية لتحل محلها حرب المصالح والتموضع اقتصادياً ضمن الخطة الإيرانية الأكبر للنهضة في كامل المنطقة.
والسؤال هو: ماذا سيكون مصير سلاح “حزب الله” في سوريا مع ازدياد ثقة بشار الأسد بنفسه وبتحالفه الاستراتيجي مع روسيا؟ واضح أن روسيا أصبحت شريكاً مع الولايات المتحدة في ضمان أمن إسرائيل انطلاقاً من الساحة السورية. فهل ستكون تلك نواة التغيير الجذري في مهام “حزب الله” الإقليمية؟
بكلام آخر، إن سيّد الكرملين هو الذي يرسم خطوات حلفائه في سوريا بدءاً برئيسها، وصولاً الى “حزب الله”. فالشراكة شيء والتسلسل الهرمي hierarchy شيء آخر. وفي ذهن الدبلوماسية الروسية خرائط طريق عديدة تأخذ بأدوارها الى الشرق الأوسط الأكبر والخليج حيث تريد موسكو أن ترعى تفاهمات أمنية بين إيران وإسرائيل والدول العربية. وفي مثل هذه الحال، إن احتواء “عضّات حزب الله” يصبح جزءاً من الاستراتيجية، فتنحسر الحاجة الى خدماته إقليمياً.
لعلّ ذلك يجعل “حزب الله” لبنانياً بدل أن يبقى أداة إيرانية بإرادته ويبقى بذلك عامل توتّر وانعدام ثقة بالذات لدى أصحاب الرأي الآخر الذي ينظر الى المسألة برمّتها من زاوية مشروع الهلال الفارسي الممتد عبر العراق وسوريا الى لبنان. وجهة نظره هي أن لبنان وقع عمليّاً تحت احتلال ايراني ينفّذه “حزب الله” بسيطرته على كل مرافق الدولة ونسفه السيادة اللبنانية. رأي هؤلاء هو أن الثيوقراطية الإيرانية ستحسن التلاعب على الأوتار الروسية – الأميركية بالحذاقة الفارسية، لكنّها ستحتفظ بأوراقها الثمينة كيفما كان. وبالتالي، سيزيد “حزب الله”من تسلّطه على لبنان بتسهيلات أميركية – فرنسية، وسيستمر بمصادرة قرار الحرب والسلم رهن الإشارة من “الحرس الثوري” الإيراني.
والأهم، أن “حزب الله” وجمهوره سيتمختران بزي الانتصار وهما يحتفيان بوصول صهاريج النفط الإيراني من سوريا رافعين علم الجمهورية الإسلامية وصور بشار الأسد، وليس علم لبنان.
بشار الأسد يبتسم بل “يضحك في عبِّه” لأن الإمدادات النفطية الإيرانية وامدادات الكهرباء والغاز التي تنقل الغاز من مصر الى الأردن الى سوريا الى لبنان إنما هي بموجب هدية من إدارة بايدن الى دمشق معلّبة تحت عنوان المساعدات الإنسانية للبنان. واقع الأمر هو أن إدارة بايدن تحطّم العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب وهي وجدت إخراجاً للتحايل على “قانون قيصر” الذي أقرّه الكونغرس، فكانت من أبرز رعاة مرور الغاز الآتي على الأرجح من إسرائيل بموجب اتفاقية الغاز المصرية – الإسرائيلية عبر الأردن الى سوريا حيث تتم إعادة تأهيل بشار الأسد فعليّاً وعملياً، بقرار أميركي بالدرجة الأولى، بحجة إنقاذ لبنان.
المصدر: النهار العربي