طارق فهمي
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اعتزام بلاده التقرب تدريجاً من إسرائيل ومصر، بعد فتحها صفحة جديدة مع الإمارات. وأعلن استعداده لتسمية السفراء وفق جدول زمني محدد عند اتخاذ هذا القرار، وإن اعتبر أن الأمر سيتم في إطار مخطط شامل.
الجانب التركي
ما زال الجانب التركي هو المبادر إلى إطلاق التصريحات وتسريب أخبار ما يجري في مسار العلاقات المصرية التركية. وتنوعت هذه التصريحات من الرئيس التركي إلى وزير الخارجية إلى قيادات في “حزب العدالة والتنمية” التي تصبّ في إطار الرغبة باستعادة العلاقات مع القاهرة.
لكن هذه المرة، أطلق أردوغان تصريحاته تجاه مصر وربطها بالجانب الإسرائيلي وحرص أنقرة على الانفتاح على البلدين معاً. ولم تتضمن التصريحات إشارة إلى دول أخرى، ما يعني أن هذا الملف ما زال يحظى باهتمام رئاسي تركي.
ويمكن القول إن تقدير أنقرة هو أن “الانفتاح التركي الإماراتي” قد يكون مدخلاً لعلاقات جيدة مع مصر، نظراً إلى خصوصية العلاقات المصرية الإماراتية في مستواها العام بالرغم من بعض التباينات في المواقف. كما أن العلاقات المصرية الإسرائيلية الجيدة تسمح بالاتجاه إلى بناء شراكة تركية حقيقية مع القاهرة وتل أبيب، وفي سياق متصل.
لذلك، يسعى الجانب التركي إلى إقرار آلية للعلاقات المقبلة مع مصر. فالرئيس أردوغان تحدث عن مرحلة تدريجية وليست فورية، وعن تسمية السفراء والانتقال بالعلاقات إلى مستوى آخر. وهو ما يمكن أن يكون مطروحاً في الفترة المقبلة. بالتالي، فإن انتقال العلاقات إلى مرحلة أخرى سيفترض تصفية أزمة العلاقات في ملفاتها المتعددة التي يتم التفاوض بشأنها.
ويتحرك الجانب التركي في الوقت الراهن تجاه مصر، انطلاقاً من رؤية أكثر واقعية، بمعنى الاعتماد على التوصل إلى حلول في ملفات محددة، وترك بعض الملفات الأخرى. وهو نموذج يتّبعه الجانب التركي في التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يسمح للجانبين المصري والتركي بالتوصل إلى حلول لبعض الأزمات وترك الأخرى، ما سيكون مدخلاً لعلاقات مشتركة في ملفات محددة، وهي مقاربة تركية معروفة سبق أن تم العمل بها مع الجانب الأميركي عقب أزمة الحصول على منظومة “أس 400”.
من الجدير بالذكر أن الجانب التركي لا يطرح أي وساطة من أي طرف. وذلك إشارة إلى أن أنقرة لا تريد وساطة إماراتية مع مصر أو إسرائيل، نظراً إلى أن الجانبين مضيا في طريق التفاوض المباشر، وتجاوزا دور أي وسيط وهو ما برز في الجولتين الأخيرتين بينهما.
فالتعامل مع القاهرة ربما يكون أكثر تعقيداً وأشمل، كما ترى تركيا، في حين لم تجرِ اتصالات بين أنقرة وتل أبيب أخيراً، إلا في المجال العسكري. ولم تمتدّ إلى لقاءات سياسية. فتركيا لا تريد مناكفة الحكومة الإسرائيلية الحالية في ملف غزة.
ومن المتوقع أن تعمل أنقرة على مسار مصلحي لتحقيق التهدئة مع مصر وإسرائيل، ما سيؤدي إلى نتائج إيجابية لحدود الدور التركي في شرق المتوسط، وإلى التجاوب المصري في إلحاقها بمفاوضات شرق المتوسط والمتعلقة بمنظمة الغاز. وهو أمر يسعى إليه أردوغان منذ بدء التفاوض مع القاهرة، خصوصاً أنه سيكون مدخلاً لمفاوضات حقيقية ممكنة. كذلك، سيؤدي إلى التهدئة مع اليونان وقبرص، ويوقف الاستكشافات التركية في محيط إقليم شرق المتوسط.
وقد تتجاوب أنقرة تدريجاً مع الطرح المصري في ملف جماعة “الإخوان المسلمين” المصنفة رسمياً إرهابية في القاهرة ووقف المنصات المعادية. ولكن هذا الملف متخم بالتفاصيل، ومن بينها موقف الحاصلين على الجنسية التركية والساعين للحصول عليها ومن الذين يعملون رسمياً في مواقع متعددة في تركيا. وهؤلاء لن يستطيعوا الخروج من تركيا أو ترحيلهم، وقد تجاوبت أنقرة، فأوقفت بعض الإعلاميين مثل محمد ناصر ومعتز مطر، ولكنها لم تغلق القنوات رسمياً، بل تزايد هجوم الإعلاميين على السياسة المصرية. بالتالي، لم يتغيّر شيء، كما ترى القاهرة.
الجانب المصري
في المقابل، التزمت القاهرة الصمت، ولم تعقّب على تصريحات أردوغان. وهو نهج متبع ومكرر من جانبها منذ بدء المفاوضات المصرية – التركية. وبقي وزير الخارجية المصري سامح شكري وحده الذي يطلق التصريحات، وكان بعضها في إطار الثناء على ما يجري. وهو ما اعتُبر مدخلاً لاستمرار الحوار. ويشار إلى أنه في عامَي 2016 و2020، تنامى حجم الصادرات المصرية إلى تركيا بمعدل سنوي بلغ 7 في المئة، بالمقارنة مع الواردات التركية إلى مصر التي ارتفعت بمعدل 2 في المئة. وشكّل ذلك حافزاً للقاهرة كي تحافظ على اتفاقية التجارة الحرة مع أنقرة.
ويستند موقف مصر إلى جملة من الاعتبارات، منها أن نموذج المصالحة الذي جرى مع قطر، على سبيل المثال، لا يصلح مع تركيا، نظراً إلى تشابك الموقف التركي إقليمياً وثنائياً. وهو ما برز في استمرار الخلاف بشأن ليبيا، وعدم تنفيذ أنقرة أي طرح بشأن إخراج المرتزقة منها، بل وتعمّدها تنحية الموقف المصري والأوروبي في هذا الأمر، على اعتبار أن إخراج المرتزقة لا ينطبق على الجانب التركي الذي يربطه اتفاق رسمي مع حكومة طرابلس.
وتسمية السفير المصري في تركيا، والعكس، ستحتاجان إلى مقاربة سياسية للتوصل إلى حلول في شأن مجمل القضايا، ومنها السلوك التركي في ملف شرق المتوسط حيث تنظر القاهرة إلى حلفائها وفي مقدمتهم قبرص واليونان، ولا يمكنها أن تضحي بالطرفين في مقابل التعامل مع تركيا. ولهذا تتحرك القاهرة في مساحة حذرة ومن دون التعجل. وقد نقلت رسائل تطمين إلى الجانبين في حال التوصل إلى اتفاق مع تركيا، ولو بصورة مبدئية. ولعل الجانب التركي يفهم طبيعة التحرك المصري ومسعاه لتخفيف أي تداعيات محتملة في حال استئناف الاتصالات رسمياً بين القاهرة وأنقرة.
وتعلم مصر أن علاقاتها مع تركيا لن تكون على حساب أي طرف، بالتالي، فإن علاقاتها مع تل أبيب تسمح بمزيد من التحرك السياسي والاستراتيجي في مجالات متعددة وتجاه الجميع. الأمر الذي قد يمثل هاجساً كبيراً لدى أنقرة وهو أمر ربما أدركه أردوغان حينما أبدى استعداد بلاده لتحسين علاقاتها مع القاهرة وتل أبيب. فهو يعرف أن التعاون المصري الإسرائيلي الراهن وتطوير العلاقات سيكونان مدخلاً لمجالات تعاون في إقليم شرق المتوسط. الأمر الذي قد يمثل خطراً على الجانب التركي في شرق المتوسط، وما قد تكون له تبعات. لهذا، إذا تحسنت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا وإسرائيل، فإن هذا التحالف الثلاثي ربما يغير من المعطيات الراهنة في الإقليم، ويُبدّل أجندة التعاملات الراهنة بما يؤثر في مسارات التحرك التركي، ليس في ليبيا أو في إقليم شرق المتوسط فحسب، بل في منطقة الخليج العربي وفي اتجاه بقية دول الاتحاد الأوروبي أيضاً. وربما يمثل ذلك إزعاجاً حقيقياً للجانب الأميركي، خصوصاً أن مساحات التباين، ولو الشكلي، بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ليس في الملف الإيراني بل في ملفات ثنائية أخرى من الممكن أن تتّسع.
هذا، ويُتوقع أن تسعى إسرائيل إلى تأكيد شراكتها مع الدول الرئيسة في الإقليم، ومنها مصر وتركيا. والرسالة أن كل طرف له حساباته. كما أن القاهرة تريد أن تنقل رسالة بأنها الدولة التي تملك أوراقاً حقيقية وضاغطة، ويمكنها أن تعيد ترتيب حساباتها السياسية والاستراتيجية في مواجهة السياسة الأميركية التي ربما لا تعطي وزناً حقيقياً لما تستطيع القاهرة أن تمثله في قضايا الإقليم، وليس في ملف قطاع غزة فحسب. وهو ما قد يغيّر وقائع ما يجري من حسابات وتوازنات يمكن أن تقوم بها مصر. وهذا ما يدركه الرئيس التركي عندما أعلن أن بلاده تسعى إلى تطبيع العلاقات مع القاهرة وتل أبيب، خصوصاً أنه تجاوز انتقاده السياسات المصرية والإسرائيلية، ولم يعُد يطلق تصريحات ربما تُفهم بشكل خاطئ. وترك القنوات الأمنية لتعمل في هدوء كي تتواصل مع الجانب الدبلوماسي. وفي تقديره أن العمل معاً قد يؤدي إلى نتائج مهمة ومباشرة، بصرف النظر عن أي مواقف من مصر أو إسرائيل. ولعل هذا يدفع في اتجاهات إيجابية للتوصل إلى آليات استئناف الاتصالات الدبلوماسية رسمياً ومن دون الدخول في تفاصيل يسعى الجانب التركي إلى عدم الخوض فيها، مكتفياً بإطلاق تصريح مقتضب مقابل استمرار القاهرة في نهجها التفاوضي.
خلاصات
تحاول تركيا تحويل مسارات سياساتها التصعيدية من جانب، ومن جانب آخر إعلان رغبتها بفتح قنوات اتصال مع الدول العربية لتوفيق وجهات النظر، وإن كان ذلك وفقاً لقاعدة إجراءات بناء الثقة.
ومن المرجح أن القرار اتُّخذ داخل “حزب العدالة والتنمية” بضرورة تطوير العلاقات مع الإمارات ومصر والسعودية. وتأتي بعد ذلك التفاصيل التي تتعلق بالوقت والشكل والأدوات. ومن اللافت أن أنقرة تعود إلى محيطها العربي عبر تغييرات كبيرة في سياستها الخارجية وانتهاج استراتيجية تقليل الأزمات، بدءًا من القاهرة مروراً بدول الخليج. ومن المتوقع أن يشهد عام 2022 نقلة في العلاقات التركية مع مصر ودول الخليج عبر عودة السفراء.
المصدر: اندبندنت عربية