أحمد مظهر سعدو
منذ قيام الدولة الوطنية السورية، ومن ساعة تشكل الكيان الوطني السوري عالي البنيان، والمتين كوطن سوري، ومع استمرار التشكل الأنساقي المتماسك، الذي يَنتح من معين تماسك اجتماعي متداخل ومتمفصل، اجتماعيًا وديمغرافيًا، وكذلك هوياتيًا، وطائفيًا، فقد كانت (الطائفة) السنية التي تنتمي في معظمها إلى العروبة والكلية العربية الجامعة، كانت هي العماد والأساس المتين لقيام الدولة الوطنية السورية، بالمعنى الوطني العابر للهويات ماقبل الوطنية، والمتجاوز لفكرة الطوائف وتشكلها البنياني، المنتمي إلى كل ماهو قبل الدولة الوطنية.
لماذا كل ذلك؟ ولماذا كان السنة ليسوا بطائفة، بل عامل جمع وتماسك وطني، وهم من كانوا وعلى طول المدى من قامت عليهم وعلى أساس تشكلهم ووعيهم الأكثري الجامع مآلات الدولة الوطنية، وملاذاتها أيضًا، ولأن السنة ليسوا بطائفة بالمعنى الديني والمعنى التفتيتي المتشظي، فإن أهل الخارج اليوم ومن لهم مصلحة في ذلك، وخاصة بعد انطلاق الثورة الوطنية السورية أواسط آذار/ مارس 2011 يحاولون جاهدين مع بعض دول الاقليم والكثير من الدول الكبرى تحويل السنىة، وهم عماد الدولة الوطنية السورية عبر تاريخ سورية الحديث، يريدون تحويلهم إلى مجرد طائفة من بين الطوائف المكونة للنسيج السوري. وهنا يكمن الخبث والمقتل الذي سيفضي بالضرورة إلى تجريد السنة من كونهم عماد الدولة الوطنية السورية، فيسهل اقتلاعهم، كما يسهل تفتيتهم، ويتحولون إلى مجرد مكون طائفي ليس إلا من جملة مكونات الشعب السوري، ومن ثم يتم التعامل معهم كطائفة أكبر تتماهى مع الطوائف الأخرى، فتكون مصالحها مصالح الطائفة وليس مصالح الوطن بحد ذاته، أو مصالح الوطنية السورية، التي تبتلع كل عوامل التفنتيت الوطني إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
ولعل حالة الاقتلاع التي يشتغل عليها النظام السوري الطائفي، ومن جاء ليدعمه ويعيد قيامته من جديد، عندما كاد أن ينهار أوائل عام 2013 ، وأعني بهم خاصة الإيرانيين الذين جاؤوا ومنذ بدايات الثورة السورية، لتنفيذ مشروعهم الفارسي الطائفي، من أجل تطييف المجتمع السوري، وليعيدوا مجد فارس والامبراطورية الفارسية الغابرة، والمنتهية منذ فجر الاسلام. جاء الايرانيون الفرس وهم يحملون مشروعًا أكيدًا لتفتيت سورية وتفتيت دول المنطقة وتحويلها إلى كيانات طائفية، قابلة للتفتت والتشظي، ويسهل اقتلاعها، وكما يسهل إحالتها إلى تشكيلات طائفية ماقبل وطنية.
والحقيقة الماثلة أمام أعيننا جميعًا أنه قد برزت في الآونة الأخيرة، وخاصة إبان انطلاق الثورة السورية /ثورة الحرية والكرامة، أواسط آذار/مارس 2011، مسألة تمظهر الهويات الفرعية أو الأولية لأفراد أو مجموعات، ونعني بهذه الهويات هو النزوع الفردي والجماعي؛ لتعريف الذات أو الجماعة بانتمائها إلى طائفة أو قبيلة أو منطقة بعينها، والنظر إلى الآخرين (الشركاء في المجتمع) بالمنظور ذاته؛ باحتسابهم ذوي انتماءات من هذا القبيل، ليس أكثر.
وتدخلت هذه الهويات (التي يمكن تسميتها أيضًا هويات صغرى) في وعي الكثير من الأفراد والمجموعات، محل الهوية الوطنية السورية الجامعة، وفي أضعف الأحوال فقد تقدمت وطغت عليها أحيانًا بل وأقصتها، كما حلت محل الروابط المدنية؛ كالانتماء إلى مهنة أو نقابة أو حزب أو جمعية، عبر سياقات كان قد عمل عليها النظام الأسدي وسلطته الأمنية الطائفية الحاكمة في سورية منذ عام 1970.
وفي غير مكان من سورية فإنه يُلحظ بروز هذه الظاهرة، وخاصة في المناسبات التي يتم فيها استنفار الناس وتحشيدهم. ومن الملفت أن الظاهرة أخذت في البروز حتى لدى دول ومجتمعات عرفت بروابطها الاجتماعية المتقدمة، وبغلبة الارتباط بالوطن والدولة على أي ارتباط آخر، أي في الإقليم أو خارج سورية على الأقل.
واليوم عندما لايتجمع السنة ولا يخافون من عملية تفتيتهم واقتلاعهم، وعندما يظلون في السياق العام الوطني، بلا خوف على مستقبل وجودهم، فلأن الشعور العام لديهم كعرب وسنة وأكثرية مطلقة يتجاوز كل ذلك، إذ ليس من إمكانية ولا خوف أوتخوف من اقتلاعهم فهم مغرقين في كونهم جذر وأساس الدولة الوطنية السورية بامتياز. وليس من احتمالات أي فعل، مهما كان ليكون قادرًا على إعادة إنتاج الدولة الوطنية السورية بدونهم، أو بدون وجودهم كأساس يجمع من حوله كل التكوينات الأخرى، وهو من يمتصها ويبتلعها ضمن خصوصياتها، وليس ليس ضمن إمحائها أو إحالتها إلى حالة من التذرر أو اللاشيء.
وهذا هو حال الأكثريات عبر التاريخ الذين يبنون دولهم الوطنية، كما حصل في ألمانيا، وكما حصل في فرنسا، وغيرها من بلدان العالم.
لكن وفي هذا الإطار والسياق الخطير الذي يحاولون عبره التعاطي مع المسألة السورية وتفاعلاتها، على أساس إثني أو طائفي أو ماقبل وطني، متجاوزين البعد الوطني السورية الجامع للجميع، والممسك بأسوار الوطنية السورية المفترض الاشتغال على تمتينها وليس العكس.
ضمن هذه المفاعيل الدراماتيكية الخطيرة، ألا يجب علينا جميعًا كوطنيين سوريين بجميع تعددياتنا الطائفية والإثنية، الاشتغال على ذلك؟. ألا يجب إعادة الاعتبار للسنة، ليس كطائفة بل كجامع وطني سوري، وقادر على إعادة رسم ملامح وطن يريدون تفتيته وتشظيه إلى أوطان، أليس من الضرورة الوطنية الحقة، إعادة التأكيد على الدور الوطني للسنة وعدم القبول بتحويلهم إلى مجرد طائفة بين الطوائف بلا دور وطني، بل من أجل إعادة إنتاجهم الطائفي غير القابل لأن يكون مرة أخرى العماد المتين والأكيد للدولة الوطنية السورية. وهم يفعلون ذلك منذ أكثر من عشر سنوات مضت، تارة عبر المقتلة المستمرة بحق السنة العرب، وتارة عبر التهجير القسري الممنهج والمشغول عليه، من قبل نظام الأسد ومن يدعمه من إيرانيين وروس، وعبر صمت مطبق، (والصامت شريك عادة،) من كل دول العالم الكبرى، التي تتفرج على مايجري في سورية دون أي فعل جدي حقيقي لإعادة الكيان الوطني السوري إلى أساساته الحقيقية.
نعود للقول إن أي قيام جديد للدولة الوطنية السورية، وأي انتقال سياسي لبناء دولة سورية وطنية، لابد أن يقوم على أكتاف السنة العرب العابرين للطوائف والعابرين لكل التشكيلات الماقبل وطنية، ولن يكون اقتلاع السنة من سورية أو تهجيرعهم أو ارتكاب المجازر تلو المجازر بحقهم من صالح أي سوري، من أي مكون كان، وتحت أي مسمى جاء، كما أنه ليس من مصلحة دول الإقليم الموافَقَة على تفتيت سورية وتحويلها إلى دول طائفية صغيرة، أو إثنية، بل من مصلحة الجميع إعادة قيام الدولة الوطنية السورية، الخالية من الإستبداد ومنع الارتدادات إلى كل ماهو قبل وطني، ولعله بات من الضرورة بمكان إعادة الاعتبار للسنة خارج إطار الدول الطائفية، بل في كينونة كونهم عماد الدولة الوطنية الآنية والمستقبلية المبتغاة.
المصدر: نداء بوست