ريان الشواف
يناقش ريمي برولان، في مقابلة معه، أبعاد هذا المصطلح، ويعود بالذاكرة إلى حملة تفجيرات نفّذتها إسرائيل في لبنان.
ريمي برولان أستاذ مساعد في كلية جون جاي للعدالة الجنائية في مدينة نيويورك، كتب بإسهاب عن الخطاب المتعلق بالإرهاب، وتحديدًا كما صاغته وروّجت له الدول القوية. وقد ركّزت أبحاثه بشكل خاص على ما سُمي جبهة تحرير لبنان من الغرباء، وهي مجموعة غامضة كنّت العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية وتبنّت تنفيذ سلسلة من عمليات تفجير سيارات مفخّخة وهجمات أخرى في لبنان بين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. إن اهتمامه بهذه المجموعة نابعٌ من الاشتباه بارتباطها بإسرائيل، التي لطالما صوّرت نفسها على أنها رائدة في مجال الحرب على الإرهاب. لكن جبهة تحرير لبنان من الغرباء، التي تم حلّها على ما يبدو في أوائل أو منتصف الثمانينيات، حظيت مؤخرًا بدرجة أكبر من الاهتمام في كتاب الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي رونين بيرغمان الذي يحمل عنوانRise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations (انهض واقتل أولًا: التاريخ السري لاغتيالات إسرائيل المُوجّهة).
الشواف: ركّز رونين بيرغمان في كتابه على عملية صنع القرار في المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، لكنه ذكر في إحدى الحواشي أن جبهة تحرير لبنان من الغرباء هي “منظمة إرهابية أدارتها إسرائيل في لبنان في الفترة ما بين 1980 و1983، ونفذّت هجمات عدّة طالت أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية ومدنيين فلسطينيين”. ما دلالات هذا الاعتراف
برولان: لقد استخدم بيرغمان بالفعل مصطلح “إرهابي” للإشارة إلى جبهة تحرير لبنان من الغرباء، وذلك في إحدى الحواشي الواردة في مقدّمة الكتاب. كذلك، ذكر في حاشية أخرى قولًا ورد على لسان مسؤول رفيع في الموساد مفاده أن “جبهة تحرير لبنان من الغرباء، وهي منظمة إرهابية أسّسها مئير داغان في لبنان، مسؤولة عن” تفجير منزل العلّامة محمد حسين فضل الله في بيروت في آذار/مارس 1985. بدوره، أشار بوب وودوارد في كتابه Veil: The Secret Wars of the CIA, 1981-1987(الحجاب: الحروب السرية للمخابرات المركزية الأميركية، 1981-1987) إلى أن ويليام كايسي، الذي كان مديرًا لوكالة المخابرات المركزية في تلك الفترة، أخبره في وقت لاحق أن المخابرات المركزية والمملكة العربية السعودية لهما يد في هذا الهجوم الذي أسفر عن مقتل حوالى 83 شخصًا، معظمهم من المدنيين. وقد عُلّقت لافتة كُتب عليها Made in USA (صُنع في الولايات المتحدة) على واجهة المبنى المدمّر. ويشير بيرغمان في كتابه إلى ضلوع إسرائيل في هذا الهجوم من خلال جبهة تحرير لبنان من الغرباء.
لكن الأمر الصادم والمهم في آن هو أن بيرغمان خصّص اثنتي عشرة صفحة من كتابه (من الصفحة 234 وحتى الصفحة 247) للحديث عن العمليات التي نفذّتها جبهة تحرير لبنان من الغرباء من دون أن يستخدم تعبير “إرهاب” أو صفة “إرهابي/ة” للإشارة إلى حملة التفجيرات التي شنّتها الجبهة لا في صفحات الكتاب ولا في الحواشي. وكشف بيرغمان عن أن ضباطًا رفيعي المستوى في الجيش الإسرائيلي، من أمثال مئير داغان ورفائيل إيتان وأفيغدور بن غال، أسّسوا بشكل سرّي جبهة تحرير لبنان من الغرباء، التي تبنّت عمليات تفجير عشرات السيارات المفخخة بهدف “زرع الفوضى” في لبنان. وشرح أيضًا كيف استخدم وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون تفجيرات الجبهة لاستدراج منظمة التحرير الفلسطينية إلى الردّ من خلال اللجوء إلى الإرهاب، لإعطاء إسرائيل مبررًا لاجتياح لبنان تحت راية مكافحة… “الإرهاب”. وهكذا، أسفرت التفجيرات العشوائية بالسيارات المفخخة بأمرٍ من شارون عن مقتل ما لا يقل عن 100 مدني في لبنان، خلال فترة لا تتعدّى الأسبوعين في خريف العام 1981. وعلى الرغم من تركيز الكتاب وعنوانه الفرعي على “الاغتيالات الإسرائيلية المُوجّهة”، تجنّب بيرغمان الإجابة على سؤال أساسي هو: هل تُعتبر حملة العمليات السرية التي نفّذتها جبهة تحرير لبنان من الغرباء مثالًا عن “الاغتيالات الإسرائيلية المُوجّهة” أم أنها كانت شيئًا آخر تمامًا؟
لقد ذكرتُ بالتفصيل في مقالَين نُشرا على موقع Mondoweiss (هنا وهنا) أن التفجيرات بالسيارات المفخخة التي نفذّتها جبهة تحرير لبنان من الغرباء تزامنت مع إطلاق الحكومة الإسرائيلية حملات هاسبارا ]وهو تعبير يعني حرفيًا “الشرح والتفسير”، غالبًا لغايات نشر الدعاية الإسرائيلية[ لإقناع الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية بأن أعداء إسرائيل “الإرهابيين”، على غرار منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها العرب، هم في الواقع أعداء العالم الغربي (المتحضّر) بأسره، وأن “الحرب” التي تخوضها إسرائيل ضد “الإرهابيين” هي في الحقيقة حرب سيتعيّن على “الغرب” ككل المشاركة فيها قريبًا.
إن محو إرهابـ”نا” ]نحن[ يسمح بألّا يواجه الخطاب السائد أي اعتراض أو تحدٍّ، كما يسمح بأن تبقى الممارسات غير الأخلاقية وغير المجدية وأحيانًا الدموية الناجمة عنه متواصلة من دون هوادة. لهذا السبب، إن توصيف بيرغمان لجبهة تحرير لبنان من الغرباء بأنها “منظمة إرهابية” في حاشيتَين من كتابه يحمل دلالة مهمة. ولهذا السبب أيضًا يطرح تجنّبه المدروس لهذا المصطلح في نص الكتاب، وحتى في الحواشي المرتبطة بالفصل المتعلق بالجبهة، إشكالية مُلفتة.
الشواف: من غير المُستغرب أن ترغب إسرائيل في إبقاء ظاهرة جبهة تحرير لبنان من الغرباء طيّ الكتمان، لكن ماذا عن موقف الولايات المتحدة وسفيرها السابق في لبنان جون غونتر دين؟ حتى إذا غضّينا الطرف عن جميع المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين الذين قتلتهم جبهة تحرير لبنان من الغرباء، فقد أصرّ دين على أنها أيضًا مسؤولة عن تنفيذ الكمين الذي تعرّض له موكبه في آب/أغسطس 1980، وجرى فيه إطلاق النار واستخدام أسلحة خفيفة مضادة للدبابات. وقد تبنّت الجبهة هذا الهجوم، أليس كذلك؟
برولان: هذا صحيح. فغالبًا ما وجّهت إسرائيل انتقادات لاذعة لدين على خلفية مواقفه “الداعمة للفلسطينيين”، وتحديدًا تأييده إجراء محادثات مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية. ولطالما أصرّ دين على أن إسرائيل، من خلال وكلائها، وقفت وراء محاولة اغتياله في آب/أغسطس 1980، وهذا ما ذكره في سيرته الذاتية. علاوةً على ذلك، كشفت علاماتٌ على قذائف صاروخية غير منفجرة استُخدمت خلال الهجوم على موكبه أنها صواريخ باعتها الولايات المتحدة إلى إسرائيل. وقد بذل دين جهودًا حثيثة من أجل فتح تحقيق في هذه الحادثة، لكن كان ذلك، وفقًا له، من دون جدوى.
نعرف أن جبهة تحرير لبنان من الغرباء أعلنت في العام 1980 مسؤوليتها عن الكمين الذي تعرّض له دين. وبتنا نعلم أيضًا، بفضل كتاب بيرغمان، أن إسرائيل هي التي أنشأت هذه المجموعة. وهذا يشير إلى أن دين كان محقًا في شكوكه وأنه قصد جبهة تحرير لبنان من الغرباء من خلال استخدامه تعبير “وكلاء” إسرائيل في سيرته الذاتية. لكن بيرغمان لم يأتِ على ذكر محاولة الاغتيال هذه في كتابه. هذه المعلومات كانت لتكون في غاية الأهمية، ولا سيما أننا نعلم أيضًا أن وحدة الرقابة العسكرية الإسرائيلية منعت نشر مقال لصحافيين إسرائيليين (في صحيفة يديعوت أحرنوت) كان سيكشف أن قادة عسكريين إسرائيليين رفيعي المستوى على غرار رافائيل إيتان ومئير داغان وأفيغدور بن غال وغيرهم وقفوا بالفعل وراء الحملة الإرهابية التي شنّتها جبهة تحرير لبنان من الغرباء. من المستغرب أن بيرغمان لم يتحدّث أبدًا عن حادثة الرقابة هذه في كتابه.
وفي الولايات المتحدة، لم تكتب أي وسيلة إعلامية عن المعلومات التي كشف عنها بيرغمان. ومع أنه حلّ ضيفًا في الكثير من المقابلات وبرامج البودكاست للحديث عن كتابه، لم يسأله أي صحافي عن هذه المعلومات. وهذا مُقلق، أولًا لأن الحقائق التاريخية مهمة ولها وزنها، وثانيًا لأن هذا الكتاب غالبًا ما يؤطَّر على أنه “قصة تروي كيفية استخدام إسرائيل للاغتيالات المُوجّهة في حربها ضدّ الإرهاب”. وحتى إذا عبّر بيرغمان أو محاوره/مُراجِع كتابه عن انتقادٍ ما للسياسات أو الممارسات الإسرائيلية، بقي الحديث يدور في فلك “كلّ ذلك يحدث في سياق الحرب المحقّة ضدّ الإرهاب”. لكن عدم الإتيان على ذكر العمليات الإرهابية التي ارتكبتها جبهة تحرير لبنان من الغرباء (وبعبارة أخرى إسرائيل) هو مدعاة قلق بالغ.
يفاقم هذا الصمت الإعلامي المشكلة لأنه يعني أن المسؤولين الإسرائيليين لم يضطروا إلى تأكيد صحة ما كتبه بيرغمان أو نفيه، ولا حتى تأكيد أو نفي أو شرح حيثيات قرار وحدة الرقابة العسكرية الإسرائيلية بحظر نشر مقال كان سيكشف عن كل هذه المعلومات (وربما كان سيحول دون وقوع التفجيرات التي نفّذتها جبهة تحرير لبنان من الغرباء وتسبّبت بقتل وتشويه مئات الأشخاص). كذلك، لم يُرغم المسؤولون الإسرائيليون على فتح أي تحقيق في هذه الجرائم المزعومة.
الشواف: لماذا لم يُظهر عدد كبير من مراكز الأبحاث (الغربية) والمجلات ذات الطابع الأكاديمي التي تدّعي دراسة الإرهاب سوى اهتمام ضئيل بجبهة تحرير لبنان من الغرباء؟ وهل ينطبق الأمر نفسه تاريخيًا على مجموعات إرهابية أخرى تجمعها روابط مع دول غربية نافذة؟
برولان: من الممكن أن الأشخاص الذين قاموا بمراجعة كتاب بيرغمان الطويل جدًّا لم يتنبّهوا إلى دلالة الصفحات التي تتحدث عن جبهة تحرير لبنان من الغرباء. يُشار أيضًا إلى أن إعداد الأبحاث الأكاديمية يستغرق وقتًا. ثم يجب أن تخضع لعملية مراجعة، ما يعني أنها تُنشَر بعد مرور عام أو حتى عامَين. إذًا، ربما سيُنشر قريبًا عددٌ من الأبحاث المهمة عن جبهة تحرير لبنان من الغرباء. لا أدري.
لكن تجدر الإشارة إلى أن “خبراء الإرهاب” لا يتفقون في ما بينهم على تعريف موحّد لمفهوم “الإرهاب”. ثمة تحديدًا خلاف قوي حول ما إذا ينبغي أن ينطبق حصرًا على الجهات غير الدولتية، أو أن يشمل أعمال “الإرهاب المدعوم من الدول”، و”الإرهاب برعاية الدول” وحتى “إرهاب الدول”. يلفتني أن عددًا كبيرًا من خبراء الإرهاب يتردّدون في إجراء نقاش علني ومفتوح بشأن النتائج المترتبة على تعريفاتهم للإرهاب حين تُطبَّق هذه التعريفات على أرض الواقع.
في الثمانينيات مثلًا، لم تنشر كبريات “المجلات المتخصّصة بالإرهاب” أي مقال عن مجموعات الكونترا في نيكاراغوا، أو عن فرق الموت في غواتيمالا والسلفادور وبلدان أخرى في أميركا اللاتينية. وكان ذلك مستغربًا، على أقل تقدير لأن مجموعات الكونترا استخدمت أساليب تنطبق عليها معظم تعريفات “الإرهاب”، تحديدًا من خلال لجوئهم إلى العنف السياسي ضد المدنيين. كذلك، نفّذت فرق الموت في السلفادور وغواتيمالا الشيء نفسه على نطاق أوسع. وكانت هذه المجموعات تحصل على التدريب والسلاح والدعم (بدرجات متفاوتة) من الولايات المتحدة. تُظهر مستندات رُفِعت عنها السرّية أن محلّلين أميركيين في وزارة الخارجية أو وكالة المخابرات المركزية وصفوا عناصر هذه المجموعات تكرارًا بـ”الإرهابيين”، ووصل بهم الأمر أحيانًا إلى الاعتراض على السياسات التي تضع الولايات المتحدة في موقع دعم الإرهابيين أو تدريبهم. ولكن إضافةً إلى أن المجلات الأساسية المتخصّصة بالإرهاب لم تأتِ على ذكر هذه الخلافات، اعتبرت مقالات كثيرة نُشِرت آنذاك (ومنذ ذلك الوقت) في هذه المجلات أنه من البديهي أن تكون الولايات المتحدة “معارِضة لمختلف أشكال الإرهاب”، وقيّمت سياسات “مكافحة الإرهاب” التي انتهجتها في مختلف أنحاء العالم.
لطالما تعرّض ميدان “دراسات الإرهاب” للانتقاد تحديدًا لتركيزه حصرًا على “الإرهابيين” الذين هم أعداء القوى الغربية المختلفة، ولم يركّز على “الإرهاب” باعتباره وسيلة تستخدمها الدول الغربية أو حلفاؤها. وقد وردت الإشارة إلى هذه النقطة في الثمانينيات في كتابات نعوم تشومسكي وإدوارد س. هرمان ومايكل ستول وإدوارد سعيد وكريستوفر هيتشنز وألكساندر جورج وسواهم. وفي أواخر التسعينيات ومطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهر ميدان فرعي سُمّي دراسات الإرهاب النقدية، بهدف تصويب هذه الشوائب المزعومة. ويعتبر الباحثون المتخصّصون بدراسات الإرهاب النقدية أن “خبراء الإرهاب التقليديين” مقرّبون جدًّا من مراكز النفوذ (الغربية).
الشواف: لكنها ليست ظاهرة غربية تحديدًا، أليس كذلك؟ ألا تسعى دول غير غربية، مثل روسيا والصين وإيران، إلى خدمة مصالحها أيضًا حين يتعلق الأمر بتحديد الجهات الإرهابية؟
برولان: هذا صحيح تمامًا. ففي حقبة ما بعد 11 أيلول/سبتمبر، استخدمت دول كثيرة سردية “مكافحة الإرهاب” لتبرير اعتماد سياسات إشكالية وغير ديمقراطية وعنفية وإجرامية إلى حد كبير. وقد اعتُبرت هذه المسائل ذات أهمية فائقة لدرجة أن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان استحدثت في العام 2005 منصب المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب.
وروسيا مثال جيّد في هذا الصدد. فقد وثّقت تقارير عدة صادرة عن الأمم المتحدة كيف استخدمت موسكو سياسات “مكافحة الإرهاب” لاستهداف معارضي النظام (ومن بينهم صحافيين)، والتعدّي على الحريات المدنية، وانتهاك حقوق الإنسان وغيرها من الممارسات. إذًا، ليس المقصود أن ما ناقشناه هنا هو ظاهرة غربية حصرًا. فهذا غير صحيح.
ولكن بما أنني ركّزت في أبحاثي على أصول الخطابات عن “الإرهاب”، أُشير إلى أن التركيز على الخطابَين الأميركي والإسرائيلي مبرّرٌ بوجهٍ خاص نظرًا إلى الدور التأسيسي الذي أدّياه في إيصالنا إلى الوضع الراهن، حيث اكتسبت القيود على الحريات المدنية، وتبرير التعذيب أو “وسائل الاستجواب المعزّزة” بسبب ما يُسمّى سيناريوهات “القنبلة الموقوتة”، والتجسّس على المجتمعات المسلمة، واللجوء إلى الإيقاع في الفخ، شرعيةً واسعة كوسائل لمكافحة الإرهاب.
والحال أن كل ما ورد في الخطاب الأميركي عن “الإرهاب” بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر كان حاضرًا في خطاب الرئيس الأميركي رونالد ريغان عن الموضوع في الثمانينيات. وهذا الخطاب تأثّر بدوره إلى درجة كبيرة بالخطاب الإسرائيلي عن الإرهاب. وهذا مهمٌّ الآن في ضوء ما نعرفه عن أنه فيما كان مسؤولون إسرائيليون كبار يطلقون حملة هاسبارا التي هدفت إلى “بيع” خطاب بلادهم إلى الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، كان مسؤولون إسرائيليون آخرون ينفّذون سرًا حملتهم “الإرهابية” الخاصة (والدموية للغاية)، من خلال جبهة تحرير لبنان من الغرباء، من جملة وسائل أخرى.
الشواف: هل تندرج الخطوة التي أقدمت عليها إسرائيل مؤخرًا بتصنيف ست منظمات حقوقية ومدنية فلسطينية على قائمة الكيانات الإرهابية، في إطار كل ما تقدّم؟
برولان: بالطبع. فقد كتبت زينة آغا في مقال الرأي الممتاز في صحيفة نيويورك تايمز ما مفاده: “يبدو أن إسرائيل تهدف إلى عسكرة البنية التحتية الواسعة لقوانين مكافحة الإرهاب التي أُقرَّت حول العالم بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، من خلال استهداف المدافعين الفلسطينيين عن حقوق الإنسان عبر إدراج عملهم المشروع في خانة ’الإرهاب‘، ما يؤدي إلى تصوير منظماتهم ووجهودهم وحتى الأشخاص أنفسهم على أنهم مصدر أذى وضرر، وإلى جعلهم منبوذين، فيصبح من الصعب جدًّا حصولهم على التمويل”. ومن نواحٍ كثيرة، هذا ببساطة المثال الأحدث في تاريخ طويل من الجهود التي تبذلها إسرائيل لنزع الشرعية عن كل مَن يعارض سياساتها أو يحاول مقاومة هذه السياسات. في نظري، يسلّط هذا القرار الضوء على مدى استخدام بعض الدول (وليس إسرائيل فقط) توصيف “إرهابي/إرهاب” كسلاح إيديولوجي وسياسي.
يصرّ المسؤولون الإسرائيليون منذ عقود على أن “الإرهاب” مفهوم محدَّد بوضوح شديد وأنه يشير حصرًا إلى استخدام العنف ضد المدنيين. وقد أتاح لهم ذلك رسم خط فاصل بين “الإرهابيين” الذين يصفونهم بأنهم همجيون وغير متحضّرين لأنهم يستهدفون المدنيين، وبين الـ”نحن”، أي الدول (الغربية) التي تعارض الإرهاب وترفض استهداف المدنيين. وقد تطرّق إدوارد سعيد إلى هذه المسألة في العام 1986 في بحثه الرائع بعنوانThe Essential Terrorist (الإرهابي الأساسي). لكن على أرض الواقع، لم يستخدم المسؤولون الإسرائيليون مطلقًا توصيف “الإرهاب” بهذا المعنى الضيّق. بالطبع، أدانوا الفلسطينيين الذين لجأوا إلى “الإرهاب”، ولكنهم استخدموا أيضًاعلى مدى عقود هذا المصطلح للإشارة إلى الفلسطينيين الذين لجأوا إلى العنف ضد أهداف عسكرية بحتة وإلى الفلسطينيين المنخرطين فقط في أنشطة غير عنيفة.
وغالبًا ما استندت الاتهامات المُوجّهة إلى منظمات المجتمع المدني ومعارضين آخرين غير عنيفين للسياسات الإسرائيلية إلى افتراضات تطرح إشكاليات كبيرة بشأن نوع “الروابط” التي ربما جمعت بعض الأشخاص الفلسطينيين أو بعض المنظمات الفلسطينية مع مجموعات تعتبرها إسرائيل إرهابية. وخير دليل على ذلك القرار الإسرائيلي الأخير الذي يستند، على ما يبدو، إلى روابط مزعومة تجمع ست منظمات فلسطينية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تدرجها إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على قائمة التنظيمات الإرهابية.
لقد تمكّن عددٌ من المؤسسات الإخبارية من دراسة وتحليل “الملف السرّي” الذي يتضمن الأدلة التي استندت إليها إسرائيل في قرارها، وبيّنت هذه المؤسسات أن الاتهامات المُوجّهة إلى المنظمات الست لا أساس لها من الصحة. فالمنطق الأساسي المستخدَم في هذا الصدد هو اعتبار جهة معيّنة مذنبة لمجرد ارتباطها بجهة أخرى: أي أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تُعتبر تنظيمًا إرهابيًا، ما يؤدّي إلى إلصاق وسم الإرهاب بالجهات التي تقيم روابط معها. وقد استخدمت إسرائيل المنطق نفسه لاستهداف صحافيين فلسطينيين وقتلهم، استنادًا إلى أنهم كانوا أعضاء في حركة حماس، وبأنهم ليسوا بالتالي صحافيين، بل “إرهابيين”.
حين نفكّر بالقرار الإسرائيلي الأخير بشأن المنظمات الفلسطينية، علينا أن نتذكر ما حلّ بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر بأعداد كبيرة من المنظمات المسلمة في الولايات المتحدة. فقد تدخلت إسرائيل مباشرةً في عدد من القضايا التي رُفِعت ضد منظمات مسلمة أميركية بتهمة “تقديم الدعم المادي إلى الإرهاب” (لعل القضية الأشهر هي قضية مؤسسة الأرض المقدسة)، ووصل بها الأمر إلى حدّ إرسال جواسيس للإدلاء بشهاداتهم لصالح فريق الادّعاء.
الشواف: هل لاحظت أي توجهات حديثة حول قيام دول غربية قوية وتلك التي تدور في فلكها بتصنيف أفراد أو كيانات في خانة الإرهاب؟ وهل يواجه جوليان أسانج وويكيليكس، وإدوارد سنودن، وتشيلسي مانينغ خطر إدراجهم على قائمة الإرهاب؟
برولان: كي نحدّد توجهًا معيّنًا، ينبغي النظر إلى التاريخ المرتبط به. لطالما أسبغت الدول صفة “إرهابي” على خصومها لنزع الشرعية عنهم. فهذا ما فعله النازيون مع مجموعات المقاومة في مختلف أرجاء أوروبا وخارجها؛ وهذا ما فعلته فرنسا الاستعمارية مع أعدائها خلال حروبها في الجزائر والهند الصينية. كذلك، وصفت الولايات المتحدة الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (المعروفة باسم فيت كونغ) بـ”الإرهابية”. وخلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أطلق الحكام الدكتاتوريون في أميركا اللاتينية، والمدعومون من واشنطن، صفة “إرهابيين” على أعدائهم “المخرّبين” من أجل تجريدهم من الشرعية. فعلى سبيل المثال، أعلن الجنرال أوغوستو بينوشيه مرارًا وتكرارًا، بعد الانقلاب المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأميركية الذي نفّذه في تشيلي ووصل على إثره إلى السلطة، أنه يحارب “المخرّبين” و”الإرهابيين”، متّهمًا الدبلوماسي التشيلي السابق أورلاندو ليتيلييه الذي هرب من البلاد وقاد المعارضة ضد بينوشيه في واشنطن العاصمة، بأنه “إرهابي”. ركّز عمل ليتيلييه السياسي على الدفاع عن حقوق الإنسان في وطنه، وجمعته روابط وثيقة للغاية مع بعض الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي. وفي العام 1976، عمدت المخابرات السرية بأمر من بينوشيه إلى تفجير سيارة ليتيلييه بواسطة قنبلة زُرعت تحت سيارته، ما أدّى إلى مقتله ومقتل معاونه روني موفيت في حي السفارات “إمباسي رو” في قلب واشنطن العاصمة. وقد اعتبرت إدارة كارتر، فضلًا عن آخرين كثر في الولايات المتحدة، هذا العمل “إرهابيًا”، وسُرعان ما توقفت المساعدات العسكرية الأميركية إلى تشيلي حينما أصبح واضحًا أن نظام بينوشيه لا يعتزم فتح تحقيق بشأن التفجير وإحالة المذنبين إلى القضاء.
حدث اغتيال ليتيلييه في إطار عملية كوندور، وهي خطة سرية من القمع العابر للحدود صاغها عددٌ من الحكام الدكتاتوريين في أميركا اللاتينية لمحاربة أعدائهم “المخرّبين والإرهابيين” وتصفيتهم. وفي الواقع، كانت عملية كوندور في حد ذاتها، كما أظهرت العبوة الناسفة التي استهدفت ليتيلييه، عبارة عن شبكة إرهابية دولية. وهذا مثال إضافي عن الطبيعة الدعائية لخطاب “الإرهاب”: فالدول نفسها التي زعمت أنها تكافح “الإرهاب” كانت منخرطة في حملة “إرهابية” دولية.
في أواخر السبعينيات وخلال ثمانينيات القرن المنصرم، كانت مسألة المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية إلى عدد من الأنظمة اليمينية المتطرفة في أميركا اللاتينية، مثل تشيلي وغواتيمالا والسلفادور، محط نزاع كبير. وأصر ريغان على تقديم المساعدات لهذه الدول، بذريعة أن الإرهاب هو أسوأ انتهاك لحقوق الإنسان وأن المساعدات الأميركية هدفها مساعدة هذه الأنظمة على مكافحته. وفقًا لهذه الحجة، كان الإرهابيون هم المجموعات اليسارية المعارِضة لحلفاء واشنطن في المنطقة.
دفاعًا عن هذه السياسات، تعيّن على ريغان وحلفائه الجمهوريين في الكونغرس التأكيد على عدم وقوع الأسلحة الأميركية بين أيدي منتهكي حقوق الإنسان. لذا، رفضوا بشكل منهجي تقارير منظمات حقوق الإنسان التي عملت على توثيق هذه الانتهاكات، شارحةً العلاقات الوثيقة التي جمعت قوى الأمن في بعض دول أميركا اللاتينية مع فرق الموت. فعلى سبيل المثال، أصر ريغان على أن الدعم الأميركي لمجموعات الكونترا في نيكاراغوا شكّل جزءًا من “الحرب على الإرهاب”. وفي هذه الحالة، اعتُبر أنصار حزب ساندينيستا اليساري “إرهابيين”، فيما صُوِّر عناصر الكونترا على أنهم “مقاتلون من أجل الحرية”. وقد عارض الكثير من الديمقراطيين هذه السياسة، وشدّدوا على أن مجموعات الكونترا تستخدم أساليب تندرج في إطار الإرهاب، وأشاروا صراحةً إلى أن الدعم الأميركي للكونترا يرقى إلى دعم الإرهاب ورعايته.
وهذا أمرٌ مثير للاهتمام لأن جو بايدن، الذي كان آنذاك عضوًا يافعًا في مجلس الشيوخ الأميركي، شارك في بعضٍ من هذه النقاشات. إذًا هو يعرف خير معرفة أن مصطلح “إرهاب” خلافي للغاية وأن الديمقراطيين والجمهوريين لم يتفقوا على تعريفه خلال الثمانينيات. فهم لم يتفقوا حول هوية الجهات التي تُعتبر “إرهابية” في كلٍّ من نيكاراغوا وغواتيمالا وتشيلي والسلفادور، ناهيك عن جنوب أفريقيا، إذ أصر الجمهوريون على اعتبار المؤتمر الوطني وقائده نلسون مانديلا الذي كان قيد الاعتقال “إرهابيين”. أما الديمقراطيون في المقابل، فقد جادلوا بأن نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) القائم في جنوب أفريقيا عبارة عن دولة إرهابية.
لكن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني هو النزاع الوحيد الذي تخلّله إجماع وتوافق حول هوية “الإرهابيين”. فلطالما اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الفلسطينيين هم مرتكبو الأعمال الإرهابية، وليسوا أبدًا ضحاياها، فيما اعتبروا أن الإسرائيليين هم دائمًا ضحايا الإرهاب، وليسوا أبدًا مرتكبيه. لهذا السبب أيضًا ترتدي المعلومات الجديدة المتعلقة بجبهة تحرير لبنان من الغرباء جانبًا كبيرًا من الأهمية.
ساهمت أحداث 11 أيلول/سبتمبر في ترسيخ وهيمنة ممارسات خطابية كانت قائمة منذ عقود. كما ذكرنا، اعتبرت الحكومة التشيلية أن ليتيلييه إرهابي. لكن جريمته أنه عمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها حكومته، وعلى حشد الكونغرس الأميركي لتغيير السياسة التي اتّبعتها واشنطن حيال بلاده. أما جوليان أسانج بدوره، فقد أماط اللثام عن جرائم خطيرة ارتكبتها الولايات المتحدة في دول أخرى. لكن في العام 2010، وصفه جو بايدن الذي كان نائبًا للرئيس الأميركي بأنه “إرهابي”، ثم حذا حذوه عددٌ من المسؤولين الأميركيين الآخرين، إضافةً إلى شخصيات إعلامية ومحلّلين، سعيًا إلى نزع الشرعية عنه وعن أعمال سائر مسرّبي الوثائق. يرتدي هذا الأمر أهمية بالغة لأن الكثير من السياسات والأنشطة الأميركية التي كشف عنها أسانج وغيره كانت إجرامية، وربما ترقى في بعض الحالات إلى جرائم حرب. ويمكن النظر إلى مصطلح “إرهاب” على أنه المقابل المحتمل لجرائم الحرب في زمن السلم. إذًا، يظهر إلصاق صفة الإرهاب بالأشخاص الذين كشفوا النقاب عن جرائم كهذه كم يمكن أن يكون هذا الخطاب مشبّعًا بالدعاية التحريضية.
من الجائز مقارنة ذلك مع المنظمات الحقوقية الفلسطينية وجمعيات المجتمع المدني الآنفة الذكر التي وضعتها إسرائيل على قائمة الإرهاب. فبعضٌ من هذه المنظمات ينكبّ على مهمة في غاية الأهمية تتمثّل في توثيق كل التجاوزات التي ارتكبتها إسرائيل والتي يمكن أن تشكّل جرائم حرب. وقد استُخدم بعض ما توصّلت إليه هذه المنظمات لبناء قضية ورفعها أمام المحكمة الجنائية الدولية من أجل فتح تحقيق في عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. وبالمثل، ساعدت تسريبات ويكيليكس على توثيق جرائم الحرب الأميركية المُحتملة في أفغانستان والعراق. حتمًا، رفضت إسرائيل والولايات المتحدة الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ورفضتا أيضًا فكرة أن تتمتع المحكمة بحق أو صلاحية التحقيق في جرائمهما المزعومة. ينبغي قراءة الهجمات ضد المنظمات الفلسطينية أو ضد مسرّبي الوثائق مثل أسانج وسنودن ودانيال هيل على ضوء الجهود المتواصلة التي تبذلها الولايات المتحدة وإسرائيل للتملّص من المساءلة والمحاسبة عن الجرائم التي اتّهمتا بارتكابها.
المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط