سامي عمارة
لم تكفّ وسائل الإعلام العالمية قبل المحلية ومنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014، عن التأويلات في شأن روسيا وسياساتها الخارجية.
ولم يتوقف من يسمّون أنفسهم بالمراقبين أو خبراء الشؤون الروسية من دون معايشة أو إلمام بحقائق الأمور أو معرفة بخباياها وخفاياها، عن الخوض في شتى جوانب هذه الشؤون وما يتلامس معها من سير ذاتية للرئيس فلاديمير بوتين ورفاقه من قيادات الكرملين.
لكن هناك قليلاً من دهاقنة السياسة، والثقات بشؤون السياسة العالمية وليس الروسية وحدها، ممن يمكن الركون إلى أحكامهم والإنصات إلى آرائهم في هذا الشأن، حتى إن تأثرت في بعض ملامحها بمواقف مسبقة تعود إلى تاريخ ذي شجون.
ولعل الكتاب الذي صدر أخيراً والذي يحمل عنوان “روسيا في الجغرافيا السياسية الأميركية قبل وبعد عام 2014″، يمكن أن يكشف أبعاد التناقضات والاختلافات في تقدير السياسة الروسية من جانب أقطاب السياسة الأميركية، وبما قد يستطيع القارئ معه تبيان أبعاد الموقف تجاه كثير من قضايا المنطقة.
فمؤلفا الكتاب اثنان من عمالقة السياسة العالمية وهما هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركية ومستشار الرئيس الأسبق للأمن القومي، ونظيره في الإدارة الديمقراطية زبيغنيو بريجنسكي المعروف سلفاً بعدائه التاريخي لروسيا وقياداتها السياسية.
الطائفة اليهودية
وعلى الرغم مما يجمع الاثنين من أصول متقاربة، يعود تاريخها إلى انتمائهم المشترك لـ”الطائفة اليهودية”، وكونهما من الوافدين على أميركا من بلديهما الأصليين المتجاورين، ألمانيا بالنسبة إلى الأول، وبولندا بالنسة إلى الثاني، فإن هناك كثيراً من التباين في الرؤى والاختلاف في التقديرات ووجهات النظر تجاه السياسة الروسية، ماضيها وحاضرها.
وإذا كان عنوان الكتاب حدّد الفترة الزمنية الفارقة لما سيرِد من رؤى وأحكام في عام 2014، فإن ذلك قد يعني قصر موضوع التباين في التقديرات والاختلاف في الآراء على الأزمة الأوكرانية، وما قد يبدو من اعتبار الرئيس بوتين بطلها الرئيس وليست الأطراف المعنية في الداخل الأوكراني.
وتلك مشكلة “عضال”، تدفع إلى التوقف كثيراً عما خلص إليه من نتائج ومواقف كل من كيسينجر “بطريرك السياسة العالمية” الذي شغل منذ أكثر من خمسين عاماً عدداً من المناصب البارزة في الإدارة الأميركية في السبعينيات، وخلفه بجيزينسكي الذي سرعان ما كشف عن مواقف موغلة في العداء للاتحاد السوفياتي السابق وبعده روسيا المعاصرة، وهو ما كشف عن بعض جوانبه في كتابه ذائع الصيت واسع الانتشار الذي أصدره تحت عنوان “رقعة الشطرنج الكبرى”.
ونستبق التفاصيل بإيجاز يوضح أن الخلاف بين قطبَي السياسة العالمية يكمن في “اعتقاد بجيزينسكي أنه بعد الأحداث المعروفة في أوكرانيا، أصبحت سياسة بوتين غير متوقعة وخطيرة، بينما يعتبرها كيسينجر، على العكس من ذلك، متوازنة وأكثر واقعية”.
ومن هنا تحديداً يمكن تناول الموقف من الأزمة الأوكرانية التي تشير شواهد كثيرة إلى أنها تعود في كثير من جوانبها إلى ما شاب عملية انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه من ارتباك وسوء تقدير لدى تقاسم “الأصول”، وما تعلق منها بتاريخ هذه المنطقة وجغرافيتها.
ومن ثوابت التاريخ أن أوكرانيا كانت إحدى الدول المؤسسة للاتحاد السوفياتي عام 1922، مثلما كانت أيضاً من البلدان الثلاثة التي وقّع رؤساؤها وثيقة “الخروج” من هذا الاتحاد في ديسمبر (كانون الأول) 1991.
ومن الثوابت أيضاً أن ذلك الانفصال بما أعقبه من انهيار سرعان ما طالت تبعاته كل أرجاء المنطقة، يظل في صدارة المقدمات التي يتمثل كثير من نتائجها، فيما عصف بالمنطقة من خلافات وصراعات.
كما أن ما أصاب روسيا من ترهل وهوان جراء سياسات رئيسها الأسبق بوريس يلتسين، يظل أيضاً من الثوابت التي استندت إليها “هرولة” الدوائر الغربية وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي (ناتو) والولايات المتحدة صوب ضرورة تحقيق أكبر قدر من المكاسب الجيوسياسية بما يرتبط بها من توسع “ناتو” شرقاً.
وذلك ما لم تأخذ منه روسيا في حينه موقفاً يتفق مع مصالحها ودورها في المنطقة. ونذكر بهذا الشأن ما قاله يلتسين حول أن “انضمام بولندا إلى ناتو لا يتناقض مع مصالح روسيا”، فضلاً عن تعجله إجلاء القوات الروسية الموجودة في ألمانيا الشرقية، بما صاحب ذلك من “مشاهد مخجلة” تمثلت في ترك موقعه إلى جانب المستشار هيلموت كول لدى توديع هذه القوات قبل عودتها إلى مواقعها داخل الأراضي الروسية، ليقود الأوركسترا منتشياً بما احتساه من خمور، وهو ما ثبت قطعاً بما صدر من تصريحات شاهدي العيان، ومنهم ألكسندر كورجاكوف كبير حرس الرئيس، وكثيرون من مشاهدي التلفزيون الذي بث الحدث صوتاً وصورة.
تلك هي الظروف التي “شبّت وترعرعت” بين جوانبها، توجهات كثيرين من القوميين ممّن تزعموا لاحقاً معارضة التكامل مع روسيا ومنظومة بلدان “الكومنولث” من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق.
الثورات الملونة
وفي ظلها، كانت الخلافات التي أججتها أفكار “الثورات الملونة”، ومنها “الثورة البرتقالية” في عامي 2004 و2014 في أوكرانيا بما استبقته وأعقبته من دعم وشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة والبلدان الغربية. وهي التي حولها اختلفت تقديرات قطبَي السياسة العالمية كيسينجر وبجيزينسكي، وما انعكس منها على رؤية كل منهما تجاه الرئيس بوتين وسياساته على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ولعل ما ذكرناه في مستهل حديثنا حول تأثير الانتماء والأصول، هو ما يؤكده بجيزينسكي في تقديمه لكتابه الذي صدر تحت عنوان “رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة قوى العولمة” الصادر عام 2012. وكان بجيزينسكي أشار إلى ضرورة مراعاة الظروف الداخلية لروسيا لدى التعامل معها، مؤكداً أن ما كان يجري في روسيا شبيه بما سبق وشهدته بولندا إبان صحوة حركة “التضامن”، وتمثل في أمرين أولهما أن المجتمع بدأ يدرك أزمة النظام، والثاني أن الناس تخلّصوا من مخاوفهم.
ومن اللافت أن بجيزينسكي خلص في هذا الصدد إلى أن لا خيار أمام روسيا، سواء مع بوتين أو من دونه، إلا الحركة في اتجاه الغرب، بما يعني أن روسيا عاجلاً أو آجلاً، لا بد من أن تنحو صوب النهج الغربي في التطور.
وفي مناسبة أخرى يعود تاريخها إلى ديسمبر 2012، عاد بجيزينسكي إلى تأكيد سابق توقعاته التي جانبها الصواب، بشأن أن الولايات المتحدة لم تعُد تعتبر روسيا “خصماً” لها، على الرغم من اعترافه بوجود بعض المشكلات التي تعتري علاقات البلدين، قال إنها يمكن أن تكون سبباً في “كراهية استراتيجية” أو “عداء تاريخي”.
وأوغل بجيزينسكي في تقديراته الخاطئة ليقول إن تنبؤاته حول المستقبل في مداه البعيد تتسم بالتفاؤل.
قال بجيزينسكي أيضاً إن روسيا تقف في مفترق طريق يتعلق بمشكلة حفاظها على سيادتها، وعزا ذلك إلى أنها تتغير، مؤكداً أن التغيير ليس رغماً عن إرادة بوتين، بل وربما بفضل بوتين، وأن التغيير سيكون بوتيرة أسرع بعد رحيله عن صدارة الساحة.
ومضى بجيزينسكي في تقديراته “الخاطئة” حول أن بوتين لم يعُد يمثل ذلك الزعيم النشيط، الواثق من نفسه. ولم يتوقف ذلك السياسي اليميني عن تقديراته تجاه علاقات روسيا مع الفضاء الأوروآسيوي، التي لم تخرج عن سابقاتها، على ضوء تنبؤاته تجاه علاقات روسيا مع كل من كازاخستان وأوزبكستان وأوكرانيا “يانوكوفيتش” أي قبل 2014.
على أن ذلك لم يكُن القول الفصل في توجهات بجيزينسكي التي راحت تتغير مع كل تطور جديد في الفضاء السوفياتي السابق، لا سيما ما يتعلق منها بما يجري من تغييرات على الساحة الأوكرانية.
لكن الخطير في توقعاته وتقديراته التي سردها في حديث أدلى به إلى “شبيغل” الألمانية قد يكمن في مبالغاته التي تصاعدت إلى الحد الذي شبّه فيه بوتين بأدولف هتلر ووصفه له بأنه “لاعب خطير مهتم بتجميع الثروة”، وإن عاد ليقول بوجود بعض الاختلافات التي تتمثل في أن هتلر لم يكُن مهتماً أبداً بالحصول على كثير من المال شخصياً. بينما يتميّز بوتين بأن لديه مصلحة جانبية في أن يصبح ثرياً”، وهو ما تحرص المعارضة مدعومة بدوائر غربية كثيرة على الترويج له، وهو ما سبق ودحضته مصادر الكرملين في أكثر من مناسبة، آخرها ما قيل عن امتلاكه أحد القصور على شاطئ البحر الأسود.
على أن ذلك لم يكُن يعني أيضاً وصم كل تقديرات بجيزينسكي سواء تجاه السياسات الروسية، أو بشأن ما يتخذه بوتين من خطوات وقرارات، بأن حالفها الصواب في مجملها.
صحيح أنها اتسمت ولا تزال، بكثير من الحدة والعداء من منطلقات تاريخية طالما حددت معالم عداء بولندا والغرب عموماً لروسيا، وصحيح أنها تظل شديدة الصلة بما تتخذه الدوائر الغربية من قرارات معادية لروسيا، لكنها تتسق أيضاً مع ما يتردد داخل المجتمع الروسي حول انفراد من يسمّونهم “سيلوفيكي” في إشارة إلى ممثلي دوائر الجيش والشرطة والنيابة العامة والقضاء، بالسلطة والثروة وما يتبع ذلك من تفاقم ظاهرة الفساد وضعف الإجراءات التي يتخذها الكرملين لمواجهة مثل هذا الفساد. ويكفي أن نعود إلى ما قاله بوتين في نهاية ولايته الثانية حول أن “الفساد هو المشكلة الوحيدة التي استعصت على الحل”، وهو اعتراف لا يتسق بما يملكه بوتين من قدرات على مواجهة مثل هذه القضايا “الدنيوية”.
لكن ماذا عن الاختلاف في الرؤى بين كيسينجر وبجيزينسكي تجاه بوتين والسياسات الروسية؟
لعله يكون من الأكثر مناسبة أن نستهل الحديث حول تقديرات كيسينجر بـ”طرفة جميلة”، ننقلها عن الرئيس بوتين حول بداية علاقاته مع “بطريرك السياسة الأميركية” كما يحلو لكثيرين تسميته.
كشف بوتين أنه تعرّف إلى كيسينجر خلال أول زيارة قام بها الأخير إلى سان بطرسبورغ مطلع تسعينيات القرن الماضي. قال إنه رافقه خلال تلك الزيارة بحكم منصبه كنائب لعمدة المدينة.
وأشار إلى بعض ما دار بينهما من حديث عفوي لمس خلاله حرص كيسينجر على استيضاح شخصية مرافقه. وأوضح أنه اضطر إلى الاعتراف بأنه “ضابط استخبارات متقاعد”، وهو ما علّق عليه كيسينجر بقوله “وماذا في ذلك؟ أنا أيضاً عملت يوماً كضابط استخبارات. فضلاً عن حقيقة أن ضابط الاستخبارات لا يتقاعد”. وذلك ما كان مقدمة لعلاقة طويلة الأمد لا تزال فصولها تتواصل حتى اليوم، تحكمها “كيمياء شخصية”، أسهمت وتسهم كثيراً في تطوير علاقاتهما، في إطار من الود المتبادل بين “ضابطَي الاستخبارات اللذين لم يتقاعدا”، إن جاز التعبير.
مراقبون كثر ينسبون كيسينجر إلى تلك الفئة القليلة التي يقولون إنها من أفضل من يعرف خبايا السياسة الخارجية، بخاصة عندما يتعلق الأمر بروسيا.
إعجاب دفين
أعاد هؤلاء إلى الأذهان بعضاً مما قاله كيسينجر حول بوتين على مدى سنوات ولايته الأولى، ومنها ما يتعلق بما أجراه بوتين من إصلاحات وتغيير، سرعان ما أثار دهشة وإعجاب كثيرين في البلدان الغربية.
ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيراً لما اتخذه كيسينجر من مواقف وما أدلى به من تصريحات تفيد بإعجاب دفين من جانب سياسي حرص على متابعة الشأن السوفياتي- الروسي باهتمام بالغ منذ ستينيات القرن الماضي.
ويذكر مراقبون في روسيا وخارجها أن هنري كيسينجر كان من أوائل الذين انبروا للدفاع غير المباشر عن روسيا وزعيمها حين تعلق الأمر بالاتهامات التي ثمة من دأب على ترويجها في الولايات المتحدة، حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتزعمها لحملات القرصنة الإلكترونية.
قال كيسينجر “الكل قادر على القرصنة. وربما تشارك جميع أجهزة الاستخبارات في أنشطة قرصنة على أراضي دول أخرى. لكن من يفعل ماذا بالضبط؟ على ما يبدو، هذه المعلومات سرية للغاية. من الصعب جداً التحدث عنهم، لأن لا أحد يريد الاعتراف بحجم أنشطتهم. ليس لدي شك في أن الروس يخترقوننا، وآمل أن نقوم باختراقهم أيضاً. لكن كيف تُستخدم هذه المعلومات؟ إذا كانت لأغراض عدائية، فإنها تصبح مشكلة دولية”.
تعليق يتسم بكثير من الذكاء وحصافة اختيار المفردات، أعقبه كيسينجر باعتراف آخر تناول فيه انطباعاته عن فلاديمير بوتين الذي التقاه مرات عدة، “إنه بطل من أبطال روايات دوستويفسكي. يشعر هذا الشخص بعلاقة قوية تربطه داخلياً بالتاريخ الروسي كما يفهمه. إنه شديد الحساسية تجاه كل ما يتعلق بالمصالح الوطنية الروسية، كما يتصورها، والتي، وكما يعتقد، تبدو على الأرجح، شديدة التميز”.
ومضى كيسينجر ليقول إن قضية الهوية الروسية تعتبر بالنسبة إليه مسألة أساسية، نظراً إلى أن روسيا فقدت لأسباب تعود إلى انهيار الشيوعية، حوالى 300 عام من تاريخها. لذلك، فإن السؤال “ما هي روسيا؟” يحتل مركز الصدارة في أذهان أبناء موسكو، وهو ما لم يعِش الأميركيون مثله من قبل. ولعل ذلك هو ما يقف وراء اعتراف الرئيس بوتين بأن “روسيا تولي اهتماماً كبيراً لتقديرات كيسينجر”، بخاصة ما يتعلق منها بما قاله حول إن “العلاقات المستقرة بين روسيا والولايات المتحدة هي مفتاح الاستقرار والهدوء في جميع أنحاء العالم”.
وفي كتابه الذي أصدره تحت عنوان “هل تحتاج أميركا إلى سياسة خارجية؟”، كشف كيسينجر أن تقديرات الغرب لعلاقاته مع روسيا كانت تتسم دوماً بازدواجية المعايير. وقال إن روسيا لطالما كانت بالنسبة إلى البلدان الأوروبية لاعباً جديداً على الساحة العالمية، دولة متخلفة تتسم سياساتها بالغموض، غير قابلة للسيطرة.
وأضاف أنها لم تعلن عن نفسها بكل القوة إلا في القرن 18. استعاد كيسينجر كثيراً من مراحل تطورها وعلاقاتها مع البلدان الأوروبية. خلص إلى ما لم ينتبه إليه بجيزينسكي حول أن تاريخ روسيا حدّد موقعها على خريطة السياسة الأوروبية. قال إنها لطالما كانت متميزة متفردة بكثير من خصائص التاريخ والجغرافيا.
وأشار إلى أن طموحاتها لطالما ارتبطت بقدراتها التي كثيراً ما دفعتها إلى عدد من الحروب مع جيرانها. توقف كيسينجر عند ما قاله الألمان حول أن كثيراً مما لحق ببلادهم من كوارث ومآسٍ قومية نجم عن تجاهل ألمانيا لنصيحة ووصايا مستشارها بسمارك حول ضرورة دعم علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا.
ولم يفُت كيسينجر أيضاً استعراض بعض تاريخ علاقات روسيا مع كل من فرنسا وبريطانيا العظمى. أما عن تاريخ علاقاتها مع الولايات المتحدة، فقال إنه يرتبط بما شاع في أعقاب ثورة أكتوبر (تشرين الأول) البلشفية عام 1917 حول أنها صارت بالنسبة إلى كثيرين مصدراً رئيساً للشر. وعزا كيسينجر ذلك إلى تعمّد الولايات المتحدة التأخر في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي حتى عام 1934، مشيراً إلى أولى مراحل التعاون بين البلدين انطلاقاً من اعتبار الشيوعية خير سبيل لمواجهة الفاشية وما يمكن أن يكون ذلك معه أفضل نذير لإقامة نظام عالمي جديد. ولعل ذلك ما دفع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت إلى اعتبار الاتحاد السوفياتي، يمكن أن يكون أحد أهم أركان النظام العالمي الجديد.
لكن ماذا عن تقدير كيسينجر لسياسات روسيا تجاه أوكرانيا وما طرحته وتطرحه من مبررات وتفاسير لضم شبه جزيرة القرم؟
قال كيسينجر إن كثيراً من خطوات بوتين تجاه أوكرانيا، بما فيها ضم القرم، كان في إطار ردود الأفعال، وجاء تالياً لتصرفات وسياسات وضغوط خارجية.
لكنه سرعان ما أعقب بقوله إن ذلك لا يمكن أن يكون مبرراً لضم القرم. وللمزيد من الإيضاح، أضاف كيسينجر أن مستقبل أوكرانيا يجب أن يحدده الأوكرانيون، في إدانة غير مباشرة للسياسات الغربية والتدخل الأميركي الذي كشف عنه الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي اعترف بأن بلاده أنفقت نحو مليار دولار لتمويل “الثورة البرتقالية” وإطاحة الرئيس الأسبق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) 2014. لكنه عاد ليقول أيضاً إن مستقبل أوكرانيا الديمقراطية، يجب أن يحدده أبناؤها وليس مواطني الاتحاد السوفياتي السابق.
وتلك كلها تقديرات تبدو أقرب إلى الإيجابية، لا سيما إذا قورنت بما سبق وكشف عنه بجيزينسكي في تقديراته لشخصية الرئيس بوتين التي اتسمت في بعض جوانبها بقدر كبير من “الكراهية الشخصية”، وهو ما قد يبدو غير جائز في عالم السياسية، لا سيما على ضوء ما سبق واعترف به بجيزينسكي حول تمتع الرئيس بوتين بما وصفه بـ “الدهاء الغريزي والخبرة”، وتلك صفات حميدة قلما تتوافر اليوم في كثير من القيادات السياسية الغربية.
المصدر: اندبندنت عربية