عقيل عباس
لا تزال السياسة في القاموس الاجتماعي العربي كلمةً سلبيةً عموماً. فهي مشكوك فيها، ومرتبطة بسوء متجذر مُفترض يكمن في الذين يمارسونها بوصفها عملاً أو فعالية سيئة. في تشكل السياسة كنشاط إنساني ينبغي ربطها بسياقها الاجتماعي الذي برزت فيه وتطورت عبره.
وبعكس قصتها الغربية، في جذورها الإغريقية القديمة، التي ارتبطت بالمدينة واضطرارات الاجتماع الإنساني فيها، السياسة لدى العرب تاريخياً ذات منشأ زراعي – بدوي، وعكست علاقات القوة السائدة في مثل هذه المجتمعات.
يكفي هنا تفحص أصل كلمة “سياسة” في العربية لتلمس هذا الجذر، إذ هي مأخوذة من الفعل الثلاثي “ساس” الذي يشير إلى أفعال الاعتناء بالدواب وترويضها التي يقوم بها البشر. تعني الدواب هنا مختلف الحيوانات، وخصوصاً التي تُحمل عليها الأثقال وتُركب كالخيل والبغال. ومنها جاءت مفردة السائس بدلالتها على الشخص الذي يدرّب الخيل ويروّضها كي يجعلها مناسبة للاستخدام البشري، أي تلبية مصالح مالكها. يؤكد معنى السياسة، بدلالاتها المرتبطة بالتدبير والسيطرة، سيادة العاقل (الإنسان) على غير العاقل (الحيوان)، في إطار متطلبات المجتمع الزراعي – البدوي.
من هنا انتقل معنى السياسة الى تنظيم العلاقة بين البشر على أساس هرمي: بين أعلى هو الحاكم الذي يعرف المصالح المشروعة ويحميها، وأدنى هو الجمهور الذي غالباً ما يُنعت بالجهل بوصفه “دهماء” يحتاج إلى القيادة والتوجيه والترويض. ولذلك يكثر في كتب التراث ومقولاته المعتادة توصيف العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أنها علاقة الراعي بالرعية، في استعارة واضحة من العالم الزراعي – البدوي، وتأكيده هيمنة الإنسان المالك على الحيوان المملوك.
لم يغيّر مرور الزمن ومجيء جماعات وسلالات حاكمة مختلفة، استمدت شرعيتها من الدين وتفسيرات الفقهاء التي لم تغادر ثنائية الراعي – الرعية، هذا الفهم المركزي والجوهراني للسياسة، فبقيت وظيفة الحاكم بوصفه خليفةً، بسلطاته المطلقة، راعياً فيما بقي المحكومون رعيةً، بوصفهم جمهوراً جاهلاً مطلوباً منه فقط الطاعة واتباع أوامر الحاكم مدعومةً بما يقوله أهل “الحل والعقد”. على امتداد قرون طويلة عبر منظومات الحكم المختلفة كالراشدية والأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية، حافظ تعريف الخليفة على ثباته بوصفه حاملاً للسلطة المطلقة، فلم يخضع المنصب لتحديدات شعبية أو ضوابط مؤسساتية، باستثناء موانع الشريعة التي كان غالباً ما يُعاد تكييفها كي تتسق مع سياسات الخليفة. عبر هذا كله لم يتطور مفهوم الشورى الإسلامي المهم، ويتبلور في صيغ مؤسساتية تضبط سلوك الحاكم وتراقب أفعاله وتقيّد سلطاته، بل ظل مفهوماً عاماً ومطاطاً يَستثمر في إصلاح الذات الأخلاقية للحاكم عبر نصائح يتلقاها باختياره قابلة لرفضه، وقبوله في إطار سلطته المطلقة في تحديد النصائح المفيدة من الضارة.
بقيت الرعوية مهيمنة في فهم السياسة وممارستها الى حين البروز التدريجي للهيمنة الأوروبية في العالم العربي، بدءاً من القرن التاسع عشر مع الحملة الفرنسية في مصر، وصولاً إلى الصعود السريع والصادم لهذه الهيمنة بعد الحرب العالمية الأولى، وما قادت إليه من تفكيك الدولة العثمانية وظهور نظام الانتداب الأوروبي في المشرق برعاية دولية رسمية عبر عصبة الأمم. حينها استبدلت الرعوية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم بالتعاقدية، أي التعاقد المشروط المتضمن التزامات متقابلة بين الحاكم والمحكوم في ما عُرف بالعقد الاجتماعي الذي لخصته دساتير الدولة الناشئة حينها. كان أحد أشكال هذه التعاقدية هو تشكيل مجالس تمثيلية (برلمانية) تساهم في إدارة شؤون البلاد، لكن عوامل متداخلة، بينها المواجهة المستمرة بين قوى محلية – وطنية وقوى الانتداب ساهمت في ألا تتجذر الروح التعاقدية في فهم السياسة وممارساتها، لتبرز على أثرها قوة الأيديولوجيا في منح الشرعية الشعبية للفعل السياسي على حساب الشرعية المؤسساتية، خصوصاً بعد بروز نخب وطنية حزبية – عسكرية وسيطرتها على مقاليد السلطة بعد نهاية الهيمنة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فصعوداً.
ارتبط صعود هذه النخب بوعودها العالية بالحرية والتحرر (التي بقيت معانيها غامضةً، ربما عن عمد)، والرفاهية الاقتصادية، والتطور التكنولوجي والإداري الذي يعود بالنفع على المجتمع. ترافقت هذه الوعود مع تفكيك الملامح التعاقدية القليلة في بنية الحكم التي جاءت مع الهيمنة الأوروبية كالانتخابات والحياة البرلمانية، أو استبدالها بديكورات “ديموقراطية” فارغة المحتوى، لمصلحة شرعية الاستقلال الوطني والخطاب الثوري القومي بخصوص مواجهة الغرب الإمبريالي، وهزيمة “لقيطته” إسرائيل، وصولاً الى الهدف الأسمى: الوحدة العربية. افترضَ هذا الخطاب، القائم على المواجهة مع الآخر، تجانسَ المجتمع وسهولة تمثيله عبر السلطة الاستقلالية والثورية.
كان فشل هذه التجربة تدريجياً مريعاً، إذ أدى احتكار السلطة بيد نخب استبدادية إلى نشر الخوف وتكريس الدكتاتورية والشمولية، والفشل الطويل المدى لمناهج التنمية الاقتصادية، الاشتراكية الطابع. جعلت هذه المناهج معظم الاقتصاد الوطني حكومياً ومركزياً، لترسخ الفساد وتخنق البورجوازية الناشئة، ومعها رأس المال المحلي الطامح اقتصادياً. أدى هذا بدوره الى تردي الوضع الاقتصادي لمعظم المجتمع وتراجع الخدمات وترهل الدولة وعجزها عن إيفائها بالتزاماتها الأساسية إزاء الجمهور، ناهيك بالهزائم المادية المتتابعة أمام إسرائيل التي كانت تتقدم اقتصادياً وتكنولوجياً ومؤسساتياً، مقابل تراجع عربي واضح على هذه الصعد.
إحياء التعاقدية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم جاء عاصفاً ومضغوطاً، من دون أن يكون بالضرورة ناجحاً، على الأقل لحد الآن. كان البدء في عراق ما بعد صدام برعاية أميركية لديموقراطية توافقية، قادت ترتيباتها المشوّهة والمستعجلة إلى احتراب أهلي طويل وأزمات سياسية متلاحقة وفشل فظيع في إدارة الدولة. ثم كان “الربيع العربي” في 2010 فصعوداً الذي أطاح أنظمة حكم استبدادية وأضعف أخرى. وبالرغم من عجز “الربيع العربي” عن تقديم نماذج تعاقدية رصينة تستبدل المنظومات الاستبدادية التي ثار ضدها، باستثناء حالة واحدة (تونس) لا تزال مآلاتها غير محسومة إيجاباً، فإن أهميته الطويلة الأمد تكمن في ترسيخه شعبياً قيمَ مناهضة الاستبداد السياسي والمؤسساتي والإصرار على التعاقدية ورفض الشرعيات الثورية والأيديولوجية أساساً للحكم.
بالرغم من كل الخسارات التي ارتبطت به، دشن “الربيع العربي” صيرورة تحول صعبة ومهمة لا تزال المنطقة تخوضها ببطء مؤلم، إذ هو نجح في هدم الكثير من القديم وتقويضه، لكنه، لحد الآن، لم ينتج الجديد الذي يستبدل هذا القديم المتداعي.
المصدر: النهار العربي