تباينت الآراء والمواقف في أوساط الثورة السورية، من الضربة التي شنتها أمريكا وفرنسا وبريطانيا صبيحة يوم 14 نيسان 2018، على منشآ ت وقواعد عسكرية تابعة لنظام الأسد. وتراوحت بين المبالغة في الرهان على الأثر الحاسم لتلك الضربة في إنهاء النظام، أو على الأقل في إلحاق الضرر البالغ بوجوده وصورته، فيما تمحورت الآراء الأخرى على التقليل من أهمية الضربة إلى الحدود الدنيا، وتضاؤل التوقعات من جدواها. للوهلة الأولى بعد حدوث الضربة، وإفصاح الدول التي قامت بها عن بنك أهدافها، في زمن خاطف بين بدايتها والإعلان عن توقفها، تبدّى بشكل أوضح تراجع الآمال لدى من بالغوا في الرهان عليها، في مقابل رسوخ اعتقاد من قللوا من أهميتها قبل حدوثها. وفي جميع الأحوال كشفت ردود الأفعال عن الضربة التي تمت من خارج مجلس الأمن، في سياق الرد على مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام في دوما، عن مسألتين بارزتين حكمتا النظر إليها:
( الأولى ) إسقاط الرغبات على الواقع في ظل التراجعات الكبيرة في صفوف الثورة، لاسيما بعد المصير المأساوي الذي آلت إليه الغوطة، والحاجة النفسية والعملية للرد على النظام وحلفائه، بضربة عسكرية موجعة من شأنها تعديل موازين القوى لصالح الثورة، فكانت تغريدات ترامب التي سبقت الضربة، وتهديداته النظام ومن يغطون على جرائمه، ما عزز تلك الرغبة ونفخ من الآمال المقترنة بها. في هذا المناخ الذي يعكس حجم الغضب من استمرار الصمت الدولي على جرائم النظام، طغت الاعتبارات النفسية والعاطفية في تناول الضربة، على القراءة السياسية الواعية في دراسة الخيارات والتداعيات الناجمة عنها. بالمقابل كشفت تأثيراتها الميدانية والسياسية الأوليّةّ لمن خفّضوا سقف توقعاتهم حيالها، عن صعوبة التسليم بمحدودية الضربة، ولا عقلانية تجاهل السيناريوهات المحتملة الناجمة عنها.
( الثانية ) أظهرت تلك الآراء وردود الأفعال على اختلافها وتباينها، عن تسليم مجتمع وقوى الثورة ولأسباب أيضاً لها ما يبررها، بأن القضية السورية خرجت من يد أصحابها، ولم يعد بالإمكان كسر هذه المعادلة، أو جدوى أي فعل أو جهد لتغييرها. مع أن مجرد التسليم بعجز الثورة في هذه المرحلة الحساسة من الصراع، هو بمثابة تكريس لحالة الاستلاب وانتظار المعجزات، وهو يعني فوات القدرة على استثمار أي حدث أو واقعة بما يخدم الثورة، سواء أتى ذلك من تداعيات ممكنة لهذه الضربة، أو سواها من أحداث وتحولات قادمة.
يحتم علينا قراءة مفاعيل الضربة وتداعياتها المحتملة على مسار الثورة، وكي ندرك ما تنطوي عليه من إشارات ورسائل سياسية صريحة وضمنية، أن نضعها في سياق تطورات الصراع واحتدام تناقضاته بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة فيه، ودون فصلها عن وقائع مفصلية شهدتها محطات الصراع، وعن توافقات ومساومات قد تنشأ عنها، أو تصعيد الصراع على نحو غير مسبوق، في حال استمرار الخلافات والتناقضات بين مختلف تلك الأطراف.
السبيل المنطقي لهذه القراءة هو الانطلاق من الحقائق والبناء عليها، والتي تساعدنا على إدراك مغزى تحرك الولايات المتحدة وحلفائها في هذا الوقت بالذات، بعد أن شكلت مواقفهم السلبية الواضحة منذ التدخل الروسي في عام 2015، علامة رضا على تدخل روسيا في القضية السورية، ووضع محاربة “داعش” على سلم الأولويات، فيما تجاهلت دور النظام وإيران المسؤولين الرئيسيين عن تضخم ظاهرة التطرف في المشهد السوري. ولو ذهبنا أبعد من ذلك لوجدنا أن الولايات المتحدة وقفت مكتوفة اليدين حتى حيال انتشار الميليشيات الإيرانية منذ بداية الأحداث في سورية. ما كشف عن الفارق الكبير بين الأفعال والأقوال في علاقة الولايات المتحدة بالقضية السورية، حيث كانت أمريكا ولازالت تواظب على التأكيد في تصريحات مسؤوليها على وحدة الأراضي السورية، بينما في الواقع تجعل من شرق سوريا الغني بالثروتين النفطية والغذائية، ساحة لبناء قواعدها العسكرية ومناطق لبسط نفوذها ومصالحها، على حساب وحدة الأرض السورية وضمانات الحفاظ عليها واقعاً ومستقبلاً.
الحقائق تقول أكثر من ذلك إذا ربطناها بمتغيرات المشهد السوري، وفحوى الرسائل التي حاول ترامب وحلفائه إيصالها من وراء تلك الضربة، والتي ليس من بينها وجود خطة سياسية لإسقاط النظام في المدى المنظور على الأقل، وقد كانت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي واضحة في قولها ” إن الضربة لا تستهدف تغيير النظام وإنما ردعه “. بالمقابل لا يمكن حصر الضربة بمجرد الرد على استخدام النظام للسلاح الكيماوي في دوما، ومنع استخدامه لهذا السلاح المحرم دولياً في أي مرحلة لاحقة، وإن أظهرت الضربة عزماً قوياً من الدول التي قامت بها على ردع النظام نهائياً بهذا الخصوص. ما يوضح أكثر أنها رسالة موجهة إلى الأطراف التالية:
– إلى روسيا: التي ابتعدت خطواتها بعد معركة الغوطة، عن دورها المتفق عليه في الفصل بين المقاتلين في الأراضي السورية، هو الدور الذي كانت (اتفاقيات أستانة) ترجمة عسكرية وميدانية لمتطلباته، ثم انتقال روسيا لسياسة تسليم مناطق المعارضة للنظام، ومساعدته من خلال ذلك على استعادة سيطرته على كامل الأراضي السورية، وهو ما تجد فيه أمريكا وحلفائها انقلاباً أحادياً من طرف روسيا على قواعد اللعبة، التي تم وضع أسسها وضوابطها، منذ دخول روسيا المباشر في الملف السوري عام 2015. ما يؤشر إلى ذلك؛ ربط الضربة الأخيرة سياسياً بمطلب العودة إلى مسار جنيف، بما يعني تذكير الروس بأن مسار سوتشي واتفاقيات الدول الضامنة، لم تعد المسارات المقبولة من قبل أمريكا وحلفائها لإدارة الملف السوري، وأن أمريكا تستطيع استخدام الفيتو على الأرض، وهو أكبر وزناً في الواقع من استخدام روسيا المتكرر للفيتو في مجلس الأمن، ويبدو أن روسيا فهمت فحوى الرسالة التي تشكل رداً على استعراض بوتين لعضلاته أمام العالم، بدلالة تصريحات مندوب روسيا في الأمم المتحدة الذي رأى في الضربة ” إهانة للرئيس الروسي غير مقبولة ومرفوضة “. أما التعبير الأبرز عن التقاط روسيا لتلك الرسالة، فقد بدأ يتوضح في استعدادها البحث عن مقايضة مع الغرب على وجود إيران في سورية، مقابل الاحتفاظ بدورها كلاعب رئيسي في القضية السورية وفي المسرح الدولي، رغم صعوبة تمرير مثل تلك المقايضة، بسبب الرفض الإيراني القاطع والمُعزز بنفوذ إيراني كبير في سوريا.
– إلى إيران: وهي ترجمة متطابقة للمخاوف الغربية – الإسرائيلية، من استمرار تمدد النفوذ الإيراني في سوريا، وإنذار قوي اللهجة بأن الوقت قد حان لتقليم أظافر إيران في سوريا، ورفض تكرار سيناريو العراق بعد سقوطه عام 2003. وفي سياق هذه الرسالة تأكيد من الرئيس ترامب لحليفه السعودي، على نهجه في تقليص نفوذ إيران في المنطقة، وتهيئة المناخ الدولي أمام إسرائيل لتصعيد هجماتها على الميليشيات الإيرانية وفي مقدمتها حزب الله. ويجب أن لا يغيب عن أنظارنا أن تكون هذه الضربة هي البوابة الواسعة لتصعيد العداء “الشيعي – السني” وأن تكون سوريا هي ساحة المواجهة الكبرى بين الطرفين، وما يرجح من هذا الاحتمال؛ التصريحات الأمريكية الأخيرة عن إدخال قوات عربية إلى المناطق الخاضعة للنفوذ الأمريكي بعد انسحاب القوات الأمريكية من شرق شمال سوريا، وأن تتم تلك المواجهة بدعم أمريكي وغربي للقوة العربية بعد انتشارها في تلك المناطق. بمقدورنا أن ندرك مسبقاً ردود الفعل الإيرانية على مثل هذا السيناريو في حال حدوثه، ومن أكثرها خطورةً محاولتها توظيف كافة حلفائها وميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لتوسيع نطاق هذه المواجهة العسكرية والسياسية والمحمولة على تعبئة مذهبية إلى أبعد مدى، وانفتاح مواجهة إقليمية سيكون لها تداعيات مصيرية على كافة دول المنطقة.
– إلى النظام : لا يكفي النظر للضربة على أنها رسالة لردع النظام عن استخدام الكيماوي فقط، فهي أيضاً تلويح بالنار في أي وقت يتم فيه التوافق دولياً على إنهاء دوره ووظيفته، كي لا يبني المزيد من الأوهام على انتصاراته الميدانية التي تمت بدعم حلفائه الروس والإيرانيين، ورغم تظاهر النظام كعادته بالصمود في وجه مثل هذه الضربات، واستثمارها لتحشيد مؤيديه في أشكال فولكلورية من الاحتفاء المكشوف، غير أن مؤشرات الإرباك في صفوفه، وخشية النظام من آثار هذه الضربة في تعميق التناقضات بين حليفيه الروسي والإيراني، تقضُّ مضاجعه أكثر من أي وقت مضى. لاسيما أن الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع الميليشيات الإيرانية بعد ضربة 14/ نيسان، تكشف بدورها عن مدى الاستهتار بخطاباته الفارغة عن السيادة المستباحة؛ في ظل نظام عاجز أمام حماية حدود الوطن ومتوحش على مواطنيه.
أغراض أخرى للضربة
لا يمكن فصل الضربة عن أهداف وأغراض داخلية ذات صلة بالدول التي نفذتها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حيث يعاني الرئيس ترامب من مشكلات داخلية حادة، باتت تهدد استمرار وجوده في الحكم، في ضوء التحقيقات الجديّة، حول تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية، وهو يريد من خلال الضربة السورية حرف الأنظار عنها أمام الرأي العام الأمريكي، وفي نفس الوقت توجيه رسالة للعالم أنه رئيس يختلف في التوجه والسلوك عن الرئيس السابق أوباما، وأن الحفاظ على عظمة أمريكا تقترن “كما يرى وفريق إدارته” بحضورها متعدد الأشكال والأهداف على الساحة الدولية.
أمام فرنسا وبريطانيا، فهما يريدان من خلال مشاركتهما في الضربة، تأكيد الحضور الأوروبي في القضية السورية، بعد تهميشه المتزايد في محطاتها السابقة، ومحاولة لتعزيز أدوارهم في مساراتها السياسية، من خلال ضخ الحياة مجدداً في مسار جنيف بعد تعطيله في الفترة الماضية، وتأمين حصة أوروبية في أي اتفاق أو محاصصة مستقبلية، وتدرك أوروبا وفرنسا بصورة خاصة أن الخلاف بين الدول الضامنة الثلاث (روسيا – تركيا – إيران) يصب في هذا الاتجاه. ولم يخفِ الرئيس ماكرون استعجاله في أن تؤدي الضربة إلى فك التحالف بين روسيا وتركيا، في حين أن الكثبان الرملية التي تتحرك عليها التوافقات والمساومات حول المسألة السورية، يبدو أنها تحمل مفاجآت على غير ما يتوقعه أطرافها في كثير من الأحيان.
أخيراً : إن ضرب نظام الكيماوي في سوريا ومهما كانت حسابات ومصالح الدول من ورائه، يشكل حدثاً مهماً في حد ذاته وفي تداعياته المحتملة، لأن أي تغيير في قواعد اللعبة لغير صالح النظام وروسيا وإيران، يجب استثماره من قبل قوى الثورة والمعارضة، ومن أهم ما يجب استخلاصه من وحي الضربة، إعادة تنظيم صفوف الثورة بعد سلسلة التراجعات والانكسارات التي ألمت بها، وإعادة صوغ إجماعها على ثوابت وأهداف الثورة، وفي مقدمتها إسقاط نظام الإجرام الأسدي دون القبول بأية تسويات أو مساومات تفضي إلى بقائه أو إعادة إنتاجه، وتوظيف المتغيرات الناجمة عن الضربة وما يليها من تداعيات، للتحرر من سطوة التوافقات الدولية والإقليمية التي تمت من خارج مسار جنيف، وأدت إلى مخاسر كبيرة بحق الثورة وبيئتها المجتمعية، وهذا يتطلب بالضرورة إعادة بناء كيان ثوري يجسد تلك الثوابت، ويُعيد رسم استراتيجية الثورة بمختلف مجالاتها السياسية والتفاوضية والعسكرية والمدنية.