عدنان عبد الرزاق
مع بقاء لاجئين سوريين كثر في تركيا، منذ عام 2011 حتى يومنا، لم يعد هؤلاء يعانون مع اللغة التركية التي صار يجيدها اليوم الجيل الجديد. وهذه اللغة التي أتى إتقانها على حساب اللغة العربية الأم، ساهمت في تفوّق سوريين في المدارس كما الجامعات التركية. ويحذّر مراقبون من مخاطر جهل الأطفال السوريين في تركيا لغتهم العربية، فكثر هم أبناء الجيل الجديد الذين وإن حافظوا على اللغة المحكية إلا أنّهم يجهلون في الغالب قراءة العربية وكتابتها. وهكذا، قد نكون مستقبلاً، مع الجيل المقبل أو ذلك الذي يليه، أمام من هم ذوو أصول سورية إنّما أتراك باللغة والثقافة ومنقطعون بالكامل عن هويّتهم. ويرى هؤلاء أنّ المسؤولية تتوزّع ما بين الأهل والحكومة التركية. ففي حين لا يمكن تجاهل دور المنازل في الحفاظ على اللغة العربية، فإنّ الواقع وقرارات الدمج هما من الأسباب الرئيسية لذلك، تُضاف إليها مسألة تُصنَّف مهمة ألا وهي رغبة الأطفال في تعلم التركية ليهربوا من حالات التمييز والمضايقات والتنمّر التي زادت في المجتمع التركي في العامَين الأخيرَين.
بالنسبة إلى أمير ميرزو، مدير أحد معاهد تعليم اللغة التركية في منطقة الفاتح بإسطنبول، فإنّ مسؤولية “أمّية الأطفال السوريين في ما يخصّ اللغة العربية يتحمّلها الأهل أوّلاً وأخيراً، خصوصاً الأسر التي يتحدّث أفرادها باللغة التركية في المنزل ولا يعيرون أهمية لتعليم الأطفال لغتهم الأم، بل يتفاخرون بأنّ أولادهم أتقنوا التركية غاضّين الطرف عن مصيبة جهل الجيل الجديد اللغة العربية”. ويشير ميرزو لـ”العربي الجديد” إلى أنّ “المعهد كان يقيم دورات لتعليم اللغة التركية على مدار العام، منذ عام 2012، لكنّ الأعداد صارت تتناقص”، الأمر الذي دفعه إلى وقف تعليم تلك اللغة في عام 2019. يضيف أنّ “المعهد تخصّص بالتالي في تعليم المهن واللغة العربية والقرآن الكريم، للأطفال السوريين والعرب وحتى للأتراك، وإن كان إقبال الأخيرين قليلاً”.
وفي حين يلفت ميرزو إلى أنّ انتشار المدارس العربية والدولية في تركيا، يؤكّد أنّ “المدارس التركية تميت العربية إذ لا تتعدى حصص اللغة أسبوعياً الاثنتَين في المرحلة الابتدائية. بالتالي، في نهاية المرحلة الابتدائية لا يصل التلميذ باللغة العربية إلى مستوى تلميذ الصفّ الأوّل في سورية”. ويؤكد أنّ “المشكلة تكمن في قلّة عدد الحصص والمنهج، وخصوصاً في المدرّسين، لأنّ اللغة العربية يعلّمها مدرّس تركي لا يحسن النطق بشكل سليم”.
الأهل مسؤولون
أمّ عبد الرحيم لاجئة سورية من ريف حلب، تؤكّد لـ”العربي الجديد” جهل ابنتها الصغرى اللغة العربية كتابة وقراءة، مشيرة إلى أنّ “حتى نطقها يدللّ على أنّها غير عربية. أمّا ابنتي الأكبر سنّاً وابني البكر فهما ما زالا يجيدان العربية محادثة، لكنّ معرفتهما بالكتابة والقراءة تراجعت بحكم التعليم باللغة التركية ومحيطهما التركي”. وتلفت أمّ عبد الرحيم، الموظفة السابقة في مديرية الاتصالات بسورية، إلى أنّ “خوف الأهل من التنمّر على أولادهم، خصوصاً في السنوات الأخيرة، هو ربّما سبب مهمّ لسرعة إتقان اللغة التركية وعدم التكلّم في الشارع والمدرسة باللغة العربية، إذ يُشار إليهم من بعض الأطفال الأتراك في المدارس والأماكن العامة بكلمة سوريالي، وذلك بشيء من الاستخفاف والكراهية”.
ولا تنكر أمّ عبد الرحيم “تقصير الأسر السورية، وأنا منها، في المحافظة على اللغة الأم بالمنازل، وتعليم الأطفال القراءة والكتابة بها. لكنّ القصة بدأت مع فرحتنا بأنّ الأولاد أجادوا اللغة التركية، وثمّ راحت تتّسع الفجوة باستمرار، بحكم تلقّيهم تعليمهم باللغة التركية ومشاهدة قنوات التلفزة التركية والمحيط التركي”، مشيرة إلى أنّ “اللغة التركية بالنسبة إلى الأطفال أسهل من العربية، لذا يحجمون عن تعلم القراءة والكتابة بالأخيرة، لكنّ هذا لا يعفينا من المسؤولية”.
وبحسب آخر البيانات التي كشف عنها وزير التربية التركي ضياء سلجوق، يبلغ عدد التلاميذ السوريين الذين يتلقون تعليمهم في المدارس التركية 839 ألفاً و735 تلميذاً وتلميذة من أصل مليون و272 ألفاً و692 تلميذاً، وذلك في العام الدراسي 2020 – 2021. وأشار الوزير التركي في تصريح نقلته صحيفة “حرييت” التركية إلى أنّ ثمّة 432 ألفاً و956 تلميذاً وتلميذة تحت الحماية المؤقتة لم يتمكّنوا من الالتحاق بالمدارس، وأنّ التلاميذ السوريين يتلقّون تعليماً في المدارس الحكومية مع أقرانهم الأتراك ويشاركون في أنشطة التعليم والتدريب في 15 ألفاً و839 مدرسة.
من جهتها، ترى المدرّسة السورية منار عبود أنّ “مشكلة ضياع اللغة العربية بدأت مع إلغاء مراكز التعليم السورية المؤقتة التي كانت تعلّم المنهاج السوري، وتفاقمت المشكلة مع قرارات الدمج، لتُتوَّج بإبعاد المدرّسين السوريين عن المدراس التركية. واليوم، حتى حصص اللغة العربية والدين الإسلامي يعطيها مدرّسون أتراك”. تضيف عبود لـ”العربي الجديد” أنّ “كلّ ذلك لا يعفي الأهل من جهل أولادهم اللغة الأم، سواء عبر التسجيل في معاهد خاصة أو مدارس عربية، أو حتى عبر الدروس الإلكترونية عن بُعد لمن لا قدرة مالية لديه”. وتوضح عبود أنّ “ثمّة عوامل كثيرة تزيد من إهمال الأطفال السوريين اللغة العربية، من بينها المجتمعية التي تتعلّق بالاندماج والهروب من التفريق والتنمّر. كذلك يأتي التذرّع بصعوبة اللغة العربية، نظراً إلى قلة الاختلاط بالعرب في بعض الولايات التركية أو حتى شعور الأهل بتلاشي الأمل بالعودة إلى سورية، خصوصاً الذين حصلوا على الجنسية التركية”.
دمج التلاميذ تركياً
وبدأت تركيا منذ عام 2017، تاريخ إغلاق مراكز التعليم السورية المؤقتة، سياسة دمج التلاميذ السوريين في المجتمع التركي. وبحسب المدرّس السوري خالد الأسعد، فإنّ ذلك “أتى بعد تدابير سابقة. ففي الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2016، أصدرت وزارة التربية والتعليم التركية قراراً نصّ على دمج التلاميذ السوريين الخاضعين لقانون الحماية المؤقتة في المدارس التركية، ما أجبر الذين كانوا يدرسون مناهج الحكومة السورية المؤقتة على الانتقال إلى مدارس تركية حكومية”. يضيف الأسعد لـ”العربي الجديد” أنّ “في عام 2017 دُمج تلاميذ الصفوف الأوّل والثاني والخامس والتاسع، وتبعهم في عام 2018 التلاميذ المتبقون في المدارس السورية المؤقتة”.
ويتابع الأسعد أنّه “في عام 2021، فُصل نحو 12 ألفاً و700 مدرّس ومدرّسة سوريين في تركيا، وذلك من خلال رسائل وردتهم من مديري مدارسهم على تطبيق واتساب تنصّ على إنهاء عقودهم بعد نحو سبعة أعوام من تعاقدهم بصفة متطوّع مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ودائرة تعليم مدى الحياة التركية التابعة لوزارة التربية”. وقد نصّت الرسالة النصيّة على أنّ المدرّس السوري سوف يحصل على مستحقاته المالية عن آخر شهر تعليم، يونيو/ حزيران 2021، لتتوالى الوعود بعودة هؤلاء إلى التعليم. لكنّه حتى يومنا هذا، لم يُعَد إلا نحو 3500 مدرّس منهم إلى المدارس بصفة مرافقين ومترجمين أو إلى مؤسسات تركية أخرى.
“سياسة تتريك”
في سياق متصل، يقول رئيس الهيئة التربوية السابق طه غازي لـ”العربي الجديد” إنّ “سياسة الدمج التي طاولت التلاميذ السوريين بعد إغلاق مراكز التعليم المؤقتة، تحوّلت إلى سياسة تتريك، من خلال إبعاد المدرّسين السوريين وندرة حصص اللغة العربية. فهي إن توفّرت، تُعطى من قبل مدرّسين أتراك. يُضاف إلى ذلك حرص الأطفال والأهل على إجادة اللغة التركية مخافة الإشارة إليهم، خصوصاً بعد حملات العنصرية والكراهية التي قادتها أحزاب تركية عدّة في العامَين الأخيرَين، والتي تتصاعد ليتحوّل السوريون إلى ورقة انتخابية في العام المقبل”.
وحول دور الأهل في تعليم أولادهم اللغة الأم، يشير غازي إلى أنّ “أكثر من 60 في المائة من الأسر السورية في تركيا فقيرة وفقيرة جداً بواقع الغلاء والمداخيل الضئيلة، لذا نرى السعي نحو تأمين سبل المعيشة”، لكنّه يؤكد أنّ هذا “لا يعفي الأهل، غير أنّه واقع لا بدّ من الإقرار به بعيداً عن الأماني والمثاليات”. ويتحدّث غازي عن “الغياب الكامل لدور الهيئات والمنظمات التربوية السورية في تركيا. فعلى الرغم من اقتران أسماء منظمات ومؤسسات عدّة بالتعليم، فإنّ أياً منها غير متقن للغة العربية”، مشدّداً على أنّه “من حقّ الطفل السوري، حتى على الدولة المضيفة، أن يتعلّم اللغة العربية، لأنّه ما زال تحت بند الحماية المؤقتة والقوانين تنصّ على عدم المساس بهوية اللاجئ ولغته وثقافته”.
ويبيّن غازي أنّ “ظروف معيشة السوريين، بمعظمهم، تحول دون إرسال أولادهم إلى مدارس خاصة أو دولية تعتمد العربية في تعليمها. فتلك المدارس تخصّ أولاد الطبقة الغنية، وتلك حالة إضافية لخلق طبقية في التعليم، إذ لا يستطيع أكثر من خمسة في المائة من التلاميذ السوريين متابعة تعليمهم في تلك المدارس”.
وعن الآثار المستقبلية على التلاميذ السوريين، يقول غازي إنّ “النتيجة سوف تكون واضحة لدى الجيل المقبل، وسوف تُترجَم بالبعد عن اللغة والثقافة العربيتَين وجهلهما”. يضيف: “اليوم نسأل تلميذاً سورياً: من أين أنت؟ فيجيب: من إسطنبول”، لافتاً إلى أنّ “الأتراك الموجودين في ألمانيا منذ عام 1960 يحافظون على لغتهم وهويتهم الوطنيّتَين”. ويشدّد غازي على أنّ “الجميع مقصّر، ولا بدّ من إحياء اللغة العربية لدى الأطفال اللاجئين، لأنّها صلة الوصل مع الماضي والتاريخ… وهي وعاء الهوية الوطنية”.
المصدر: العربي الجديد