سامر إلياس
مع انضمام اليابان إلى العقوبات الغربية على روسيا بسبب اجتياحها لأوكرانيا، تصاعد التوتر في العلاقات الروسية – اليابانية، وأعاد طرح الخلافات الحدودية بين البلدين منذ قرون، والتي تسببت خلالها في معارك وحروب، تبادل فيها الجانبان السيطرة على جزر الكوريل، بحسب التسمية الروسية، وجزر الشمال بحسب اليابانيين.
وانضمت طوكيو إلى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا. وفرضت اليابان عقوبات على 76 فرداً، وسبعة مصارف، و12 كياناً آخر في روسيا، بمن فيهم مسؤولون في وزارة الدفاع الروسية وشركة “روسوبورون إكسبورت” الروسية لتصدير الأسلحة والمملوكة للدولة.
واحتجاجاً على الموقف الياباني “غير الودي”، أعلنت روسيا، أمس الإثنين، انسحابها من المحادثات الثنائية الهادفة إلى توقيع معاهدة سلام لم يبرمها البلدان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأعلنت وزارة الخارجية الروسية أن “الجانب الروسي لا ينوي في ظل الظروف الراهنة مواصلة المحادثات مع اليابان بشأن معاهدة السلام”. وبرّرت الوزارة هذا الموقف بـ”استحالة مناقشة الوثيقة الأساسية للعلاقات الثنائية مع دولة اتخذت صراحة موقفاً غير ودي وتسعى جاهدة لإلحاق الضرر بمصالح بلدنا”.
في المقابل، ندّد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا بالمحاولة الروسية لتحويل الحرب على أوكرانيا إلى العلاقات اليابانية – الروسية، معتبراً أنها محاولة “غير مبررة على الإطلاق وغير مقبولة بتاتاً”. وقال كيشيدا، اليوم الثلاثاء، أمام البرلمان في طوكيو، إن “هذا الوضع هو نتيجة العدوان الروسي في أوكرانيا”، مؤكداً أن بلاده “تحتج بشدة” على قرار موسكو، ومجدّداً إدانة طوكيو لأعمال روسيا في أوكرانيا التي “تغيّر الوضع الراهن بالقوة وبصورة أحادية الجانب”.
كما أكد أن طوكيو “ستواصل فرض عقوبات على موسكو مع بقية العالم”. وأكد سكرتير الحكومة هيروكازو ماتسونو أن حكومته سلّمت السفير الروسي في اليابان ميخائيل غازولين اعتراضاً على الخطوة الروسية. وأكد غازولين لاحقاً لصحيفة محلية، أنه “نظراً للوضع الراهن نتيجة تصرفات غير ودية (لليابان)، فإن روسيا لا نية لديها لمواصلة المفاوضات”.
وكان كوشيدا قد أعرب في بداية شهر فبراير/شباط الماضي، قبل الغزو الروسي الذي بدأ في 24 فبراير، في كلمة بمناسبة يوم الأراضي الشمالية (جزر الكوريل وكوريا)، عن “أسفه الشديد”، لأنه “بعد 76 عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يتم حل مشكلة الأقاليم الشمالية، ولم تُبرم معاهدة سلام بين اليابان وروسيا”.
وأكد رئيس الوزراء الياباني حينها عزمه على متابعة المفاوضات المستمرة مع موسكو بشأن هذه المسألة، بناء على الاتفاقات التي توصل إليها الطرفان في وقت سابق، بما في ذلك التفاهمات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي في نهاية عام 2018 في سنغافورة، والتي نصّت على استعداد البلدين لتكثيف الحوار حول معاهدة سلام تستند إلى الإعلان السوفييتي الياباني لعام 1956. وتضمن الإعلان حينها استعداد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية لنقل جزيرتي شيكوتان وهابوماي إلى اليابان بعد توقيع معاهدة سلام.
أرخبيل بطول 1200 كيلومتر
تضم جزر الكوريل، أو جزر الشمال، نحو ألف جزيرة تقع بين شبه جزيرة كامتشاتكا في أقصى شمال شرقي روسيا، وجزيرة هوكايدو اليابانية. وتحتل هذه الجزر موقعاً استراتيجياً يفصل بين بحر آخوتسك والمحيط الهادئ بقوس يصل طوله إلى 1200 كيلومتر، وتبلغ المساحة الاجمالية للجزر قرابة 10.5 آلاف كيلومتر مربع، وتقع الحدود البحرية بين روسيا واليابان إلى الجنوب منها. وتتشكل الجزر من مجموعتين متوازيتين، هما الكوريل الكبير والكوريل الصغير. ويبلغ عدد الجزر المأهولة قرابة 56 جزيرة، منها أربع مأهولة بشكل دائم، يبلغ عدد سكانها قرابة 21.5 ألف نسمة، بحسب إحصاءات عام 2021.
وإضافة إلى أهميتها الاستراتيجية والعسكرية، فقد اكتشفت في هذه الجزر ثروات معدنية مهمة، مثل المعادن الملونة والنفيسة، والغاز الطبيعي والنفط. واستخرج اليابانيون منها الكبريت منذ بداية القرن العشرين. وبحسب البيانات الروسية، فإن الجزر تحتوي على 1867 طناً من الذهب، و9284 طناً من الفضة، و39.7 طناً من التيتانيوم، و273 طناً من الحديد، كما تضم المنطقة رواسب معدنية من الرينيوم في منطقة البراكين.
من اكتشفها أولا؟
تعزو المصادر التاريخية الروسية التسمية إلى كلمة “كوريل” في اللغة المحلية للسكّان المحليين والتي تعني “البشر”، وتقر بأن اليابانيين كانوا أقدم إلى اكتشافها بنحو 50 عاماً. واكتشف الروس الجزر للمرة الأولى في عام 1697 أثناء حملة فلاديمير أطلسوف إلى كامتشاتكا، واحتلوها في عام 1711 بعد معارك مع السكان المحليين، وتحولت إلى مرتع خصب لصائدي الحيوانات للحصول على فرائها وبيعه.
وفي نهاية القرن الثامن عشر، أدرجت روسيا جزر الكوريل ضمن حدودها، لكن الدولة لم تسيطر عليها فعلياً، نظراً للمعاملة القاسية من قبل المحتلين والصناعيين والتجار للسكان المحليين. وتزامناً مع ذلك، ونظراً لخشية اليابانيين من توسع الروس قرب حدودهم الشمالية، ركزت اليابان جهودها لمواجهة الوجود الروسي، وبدأت أولى الحروب للتنافس على الجزر. وفي بداية القرن التاسع عشر، تمكن اليابانيون من السيطرة على الأرخبيل وطرد الروس، وأقاموا نصباً في جزيرة إيتوروب لتأكيد تبعية الجزر لليابان، ونظموا نقاط حراسة فيها وفي جزيرة كوناشير.
وبدأ اليابانيون بالتوسع شمالاً في الأرخبيل. في المقابل، بنت روسيا معسكراً حصيناً في جزيرة أوروب. وفي عام 1804، بسطت روسيا سيطرتها على المناطق الشمالية بينما بقيت المناطق الجنوبية تحت سيطرة اليابان. وفي عام 1855، وقعت الإمبراطوريتان الروسية واليابانية معاهدة تنظم التجارة والحدود، وتعهدتا ببناء علاقات صداقة وسلام، وافتتحت 3 موانئ يابانية للسفن الروسية ورسمت الحدود في جزر الكوريل الجنوبية بين جزيرتي أوروب وإيتوروب.
وفي 1875، تنازلت روسيا لليابان عن الجزر من أوروب إلى شومشو. واعترفت اليابان بدورها بأحقية روسيا بجزيرة سخالين (أقصى شرق روسيا). وفي عام 1904 انسحبت اليابان من المعاهدات السابقة، وشنّت حرباً على روسيا، وبعد انتصارها فرضت شروطاً جديدة على الروس وثقت في معاهدة بورتسموث، وبموجبها تنازلت روسيا لليابان عن كامل جزر الكوريل الشمالي والجنوبي، وكذلك عن أجزاء واسعة من جزيرة سخالين (جنوب خط العرض 50).
اليابان تتجرع مرارة الهزيمة
بعد خسارتها في الحرب العالمية الثانية، تجرعت اليابان مرارة الهزيمة، وأجبرت على التخلي عن جميع مكاسبها نتيجة حرب 1905، وفقدت السيطرة على كامل الأرخبيل الذي انتشر فيه الجيش السوفييتي. واتفق الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل في مؤتمر يالطا 1945 على حصول الاتحاد السوفييتي على جزر الكوريل وجنوب سخالين. وفي سبتمبر/ أيلول 1945، وقعت اليابان على قانون الاستسلام غير المشروط، ووافقت على شروط إعلان بوتسدام لعام 1945، الذي حصر سيادتها على جزر هونشو وكيوشو وشيكوكو وهوكايدو.
ورفض الاتحاد السوفييتي التوقيع على معاهدة سلام مع اليابان في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1951، لعدم وجود إشارات واضحة في نص المعاهدة إلى أن جنوب سخالين وجزر الكوريل تخضع لسيادة الاتحاد السوفييتي. وبدعم أميركي، طالبت اليابان في 1955 بعودة سيطرتها على كامل الأراضي وفق معاهدة 1855.
ونتيجة مفاوضات، اقتربت مواقف الطرفين كثيراً وكانا على وشك التوصل إلى اتفاق، بعدما وافقت اليابان على حصر مطالبها بجزر هابوماي وشيكوتان وكوناشير وإيتوروب. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1956، وقّع البلدان على إعلان مشترك لإنهاء حالة الحرب واستعادة العلاقات الدبلوماسية والقنصلية. واشترط الاتحاد السوفييتي حينها أن تستلم اليابان الأراضي المشار إليها بعد توقيع اتفاق سلام شامل يتم التفاوض عليه. لكن الاتحاد السوفييتي تراجع عن الإعلان المشترك بعدما وقعت اليابان والولايات المتحدة معاهدة أمنية مشتركة، وأغلق القادة السوفييت الحديث عن أي تسوية مع اليابان. وكانت البيانات الرسمية تشير إلى أن الخلافات الحدودية حُلّت بنتيجة الحرب العالمية الثانية، ولم تعد موجودة.
وقبل أشهر من انهيار الاتحاد السوفييتي، وقع الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في إبريل/نيسان 1991 على بيان مشترك مع اليابان، أقرّ فيه الاتحاد السوفييتي للمرة الأولى رسمياً منذ عقود بوجود مشاكل حدودية، وشدّد البيان على أهمية تسريع العمل لاستكمال إعداد معاهدة سلام باستخدام الخبرة المتراكمة في المفاوضات الثنائية، بدءاً من الإعلان السوفييتي الياباني المشترك لعام 1956. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت مرحلة جديدة في العلاقات الروسية اليابانية.
وفي أكتوبر 1993، وقع الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين على “إعلان طوكيو”، الذي تحدث عن الحاجة إلى “التغلب على إرث الماضي الصعب في العلاقات الثنائية” و”إبرام معاهدة سلام في أقرب وقت ممكن من خلال حلّ هذه القضية” من أجل تطبيع العلاقات الثنائية بشكل كامل. وفي السنوات اللاحقة، عاد قادة روسيا واليابان مراراً وتكراراً إلى قضية معاهدة السلام ومشكلات الحدود لكن دون جدوى، لأن مواقف الطرفين متعارضة تماماً مع إصرار اليابان على العودة إلى معاهدة 1855.
وفي عام 2001، ومع صعود الرئيس فلاديمير بوتين، نوقشت فكرة نقل جزيرتين إلى اليابان أولاً، على النحو المنصوص عليه في إعلان عام 1956، ولكن تغير الحكومة في اليابان أوقف هذه النقاشات مع وصول جونيتشيرو كويزومي إلى السلطة.
وبعد زيادة حجم الاستثمارات اليابانية والمشروعات المشتركة ونمو التبادل التجاري، عرض رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في 2016 على الرئيس فلاديمير بوتين تحمل المسؤولية والدفع بمفاوضات مشتركة لحل قضية معاهدة السلام. وسجل بعض التقدم، وعزز البلدان شراكتهما الاقتصادية، وعرض بوتين افتتاح أنشطة اقتصادية مشتركة في جزر الكوريل كي يساعد في خلق مناخ ملائم لمواصلة المفاوضات حول معاهدة سلام.
وفاجأ بوتين الحضور في مؤتمر استثماري في مدينة فلاديفستوك، شرقي روسيا، في 12 سبتمبر/ أيلول 2018، واقترح حينها على آبي أن تبرم اليابان معاهدة سلام بحلول نهاية ذلك العام دون أي شروط إضافية، واقترح أن تكتب في نصّ الوثيقة رغبة موسكو وطوكيو في تسوية الخلافات حول قضية الأراضي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته أعلن شينزو آبي عن اتفاق لتسريع عملية التفاوض بشأن معاهدة سلام تستند إلى الإعلان السوفييتي الياباني المشترك لعام 1956. ولاحقاً اتفق بوتين وآبي على إنشاء آلية جديدة للمفاوضات بشأن معاهدة سلام تحت إشراف وزيري خارجية البلدين.
ولم تكلل المفاوضات بالنجاح، ولكنها كانت متواصلة. اليوم، يبدو أن شظايا الحرب الروسية على أوكرانيا وصلت إلى بعد آلاف الكيلومترات لتعلق كل الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة لإحلال السلام في الأرخبيل الذي بات عنواناً لخلافات حدودية بين اليابان وروسيا منذ قرون.
المصدر: العربي الجديد