محمود الوهب
موت آخر عاناه السوريون، في ثاني أيام عيد الفطر الذي لم يكن سعيداً على أحد من السوريين، ففي وسط العاصمة دمشق، تجمهر نحو خمسة آلاف مواطنة ومواطن، فوق ما يسمّى جسر الرئيس وتحته، في انتظار السجناء الذين قيل إنهم خرجوا بموجب مرسوم عفو عام رقم 7، وشمل كل من ارتكب جرائم إرهابية، غير القتل، قبل الثاني من إبريل/ نيسان عام 2022، ومن دون إسقاط الحق الشخصي.. وكانت تلك الجمهرة من الأهالي تنتقل على مدى يومين من أمام سجن صيدنايا (سيئ الصيت)، أو من ساحة سجن عدرا أو من أماكن أخرى، بحسب ما يقال لهم.. إلى منطقة الجسر المذكور، رغم أن العفو لم يشمل في حدِّه الأقصى أكثر من “مئتين وخمسين سجيناً” يخرجون تباعاً من أصل عشرات آلاف المعتقلين (تقدير المرصد السوري لحقوق الإنسان). ومعظم المفرج عنهم معتقلون بعد عام 2018، أيْ بعد إجراء المصالحات، وقليل منهم قبل ذلك الوقت، أي منذ أخذ النظام يلحق تهم الإرهاب بثلثي سكان سورية.
ويقول المرصد السوري بأنَّ مائة وخمسة آلاف سجين قتلوا داخل معتقلاتهم خلال العقد الأخير (بحسب “بي. بي. سي”). يؤكد ذلك العدد ما رواه “حفّار القبور” الشاهد في قضية أنور رسلان الذي “جنَّده” أحد عناصر المخابرات في عام 2011، وطلب منه “أن يُعدَّ فريقاً من 10 إلى 15 رجلاً، ليكونوا مسؤولين عن مرافقة شاحناتٍ محمّلةٍ بجثث، أربع مرات أسبوعياً، باتجاه مقابر جماعية”. وذكر “أن المخابرات أمّنت له شاحنة صغيرة من دون لوحة، عليها صور بشّار الأسد..”، وقال إن “عدد الجثث التي كانت تنقل إلى المقابر الجماعية في كل نقلة بين 300 و700 جثة”، وحدّد مسار الشاحنات التي تنطلق فجراً، بين الرابعة والخامسة، من مشافي تشرين وحرستا والمزّة العسكري 601، إلى مقبرتين جماعيتين في القطيفة شمال دمشق، ونجها جنوب دمشق. وهناك، تفرّغ الجثث عشوائياً في الحفرة العملاقة بعمق ستة أمتار وطول مائة متر. وقد يستغرق ملء كل حفرة قرابة 150 نقلة، إذ إن عدد الشاحنات يتراوح بين واحدة وثلاث”.
وإذا كان “العفو” قد صدر نوعاً من التغطية على الفيديو الذي نشرته صحيفة الغارديان اللندنية، فاضحاً ذلك الإجرام غير المسبوق، إذ سيق عشرات المعتقلين من الشارع، أو من محلاتهم، أو لدى قضائهم بعض حاجات أسرهم في حي التضامن، إلى القتل المباشر من دون أيّ سبب، ومن غير أية تهمة توجه إليهم، فإن موت الأحياء الموازي تراه ربما أكثر مرارةً، حين تستمع إلى أهالي المعتقلين من خلال أنين النساء وآهات لهفتهم ودموعهم، وهم يروون لإذاعة “شام إف إم” حكايا عن تاريخ اعتقال أبنائهم، وإخوتهم المختفين منذ نحو عشر سنوات وأكثر، والأكثر إزعاجاً أن الأجهزة لا تردُّ على الأهالي فتسمع منهم، على سبيل المثال، لماذا “ينطرونا” كل هذا الوقت، أو “أنا لي ولدان صار لهم عشر سنين ما تركت محلّ إلا و”رحت عليه”، مرّة يقولوا لنا روحوا على صيدنايا، ومرّة إلى جسر الرئيس”، وبعضهم يقول لك: “أنا نمت هنا ولم أغادر”. وامرأة تقول باكية: “لا نريد منهم غير أن يقولوا لنا عايشين أو ميتين..”.
وهكذا يعايش أهالي المعتقلين مرارة موت موازٍ آخر، ومن الذل ومهانة النفس أيضاً أن تستمع إلى بعض هؤلاء يصرح: “والله نحن منحب الرئيس وما لازم يعاملونا هيك” (كيف لإنسان فقد أخاه أو ابنه أو أباه، ويعرف تماماً قاتله ويزعم أنه يحبّه؟). ولا يفوّت المذيع، في النهاية، أن ينبه هؤلاء الذين يتقلبون على جمر اللهفة والخوف من السماسرة، فيحذرهم: إياكم أن يقولوا لكم كذا وكذا (توجد مكاتب “علاقات عامة” في دمشق واللاذقية وطرطوس، وظيفتها التوسط في قضايا كهذه، وأخرى مشابهة، وتتقاضى مبالغ طائلة، ربما كلفت أهل السجين بيع كل ما يملكونه. أما إذا كانت الواسطة زوجة فلان أو أم فلان فإنها تقبل بهدية متواضعة من الذهب الخالص). ويبدو أن الإعلامي الذي جاء ليغطي هذا الخبر “المفرح”، ولينتصر للأسد، لم يستطع تجاوز الأحزان أمامه في وجوه تضجّ بالبؤس والتعاسة والشقاء. فبدأ حديثه: “كثيرون ظنوا أن هؤلاء سيكون عيدهم عيدين، ولكن لماذا الإفراج في هذه المنطقة المزدحمة من دون أي تنظيم؟ ولماذا يوجد خمسة آلاف شخص ينتظرون أياماً وليالي، لخروج أربعين موقوفاً
مجازر كثيرة سبقت مجزرة حي التضامن، منها، مثلاً، مجزرة “رسم النفل” التابع لمنطقة السفيرة، جنوب شرق حلب، وذهب ضحيتها 208 أشخاص، معظمهم نساء وأطفال، ومن بينهم عجوز تسعيني، ونفذت في 22 يونيو/ حزيران 2013، أي بعد شهرين من مجزرة حي التضامن. ويقول تقرير مجزرة التضامن، وعنوانه “قرابين التضامن”، إنه في شهر إبريل/ نيسان من العام نفسه 2013، قتل فرع المنطقة التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، المعروف بالفرع 227، أكثر من 280 مدنياً اقتيدوا إلى أحد أحياء دمشق المعزولة.
بعد ذلك كله، وما لم يُذكر أكثر وحشية وأشد فظاعة، هل يمكن أن يُطلب من نظامٍ كهذا العمل للإبقاء على سورية موحدة أرضاً وشعباً، وهل ترك مجالاً للتعايش المشترك بين أطياف هذا الشعب، وهل يمتلك في الأصل روحاً وطنية ليحقق هذا الطلب؟ ولو كان يملك لما قام بكل ذلك الإجرام الذي وازى أوحش ما فعله مستبدو العالم المعاصر كلهم، وربما تفوق عليهم في زرع بذور الكراهية والبغضاء بين مكونات الشعب السوري، وبين أفراد كل مكوِّن. ولذلك لا حلَّ للمأساة السورية إلا بإزالة هذا النظام، من خلال تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وتحت إشراف دولي، أما ما يجرى من خلال مساعي اللجنة الدستورية وسواها فليس أكثر من عبثٍ بدماء هؤلاء الأبرياء وطحن للهواء.
المصدر: العربي الجديد