سامويل لوفيت
يتحدث صمويل لوفيت إلى دبلوماسيين ومساعدين سياسيين وصحافيين وأكاديميين التقوا جميعاً ببوتين على مدى الـ22 عاماً الماضية وشهدوا تطوره
بصفته مستبداً أبقى نفسه على مسافة من الغرب خلال معظم فترة إدارته، يعتبر فلاديمير بوتين رجلاً يصعب الاقتراب منه. في الواقع، شاركه الغرفة نفسها عدد قليل من الأفراد من خارج الدائرة المقربة من مسؤولي الكرملين والأوليغارشيين والزعماء الروس الأقوياء. في المقابل، هناك أقلية صغيرة من الغربيين الذين يمكنهم الادعاء بأنهم رأوا الرئيس الروسي وتعاملوا معه من كثب، فكونوا انطباعاً مباشراً نادراً عن بوتين.
في الحقيقة، التقى أولئك الدبلوماسيون والمساعدون السياسيون والصحافيون والأكاديميون جميعاً ببوتين في مناسبات متعددة على مدى الـ22 عاماً الماضية، وشهدوا تطور رجل وعقل أعاد تشكيل العالم الحديث من خلال غزو أوكرانيا.
هنا، تروي “اندبندنت” قصصهم:
“البيروقراطي الصغير المتواضع”
بصفته سفيراً لبريطانيا لدى روسيا بين عامي 2000 و2004، كان السير رودريك لين في الصف الأمامي الذي شهد صعود بوتين وتوطيد سلطته في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. لقد رأى الرجل يتحول من شخص مجهول نسبياً إلى شخص يبني اسماً لنفسه ويدخل في فترة جديدة من التعاون مع النظام الروسي، فترة أشارت للوهلة الأولى إلى أن البلاد بدأت في مواءمة نفسها مع الغرب بعد سنوات من الانقسام.
كان بوتين عميلاً سابقاً في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي KGB) ارتقى في المناصب السياسية في سانت بطرسبورغ قبل أن يسعى لاحقاً لاسترضاء بوريس يلتسين، أول رئيس للاتحاد الروسي، ووصل إلى المسرح العالمي كجهة غير معروفة، أولاً رئيساً للوزراء، ثم خلفاً لرئيسه، الذي استقال بشكل غير متوقع في ديسمبر (كانون الأول) 1999.
لقد جاء ارتقاؤه في وقت حدوث تحول واضطراب كبير في روسيا. تحت حكم يلتسين، تفككت الهياكل القديمة في الاتحاد السوفياتي، لكن المستقبل الاقتصادي والسياسي والدولي للبلاد ظل غير واضح وغير مستقر. كذلك، اندلعت الحرب مع الانفصاليين الشيشان في منطقة شمال القوقاز مرة أخرى، ما أثار إدانة واسعة النطاق بسبب تعامل روسيا الوحشي مع الصراع وقتل المدنيين.
وحصل أحد أول لقاءات لين مع بوتين في ظل هذه الخلفية، في مارس (آذار) 2000، عندما تمت دعوة توني بلير إلى سانت بطرسبورغ في “زيارة غير رسمية للدولة” من أجل مقابلة بوتين الذي، على الرغم من عدم انتخابه رسمياً رئيساً، كان قد بدأ في إضفاء الطابع الشخصي على العلاقات مع الغرب.
تم اصطحاب عائلات بلير ولين ومسؤولين بريطانيين آخرين حول أراضي ومباني قصر بيترهوف، إلى غرب المدينة، وشاهدوا متحف “إرميتاج” الشهير وتلقوا دعوة إلى العرض الأول لإنتاج جديد من “الحرب والسلام” في مسرح ماريانسكي. بكل المقاييس، كان بوتين يستخدم استراتيجية الجاذبية والإطراء.
ويقول لين “لقد اختار عن عمد الإعدادات المبالغ بها لكي يثير الإعجاب”. “لكنه كان شخصياً متوتراً للغاية في ذلك الوقت، لدرجة جعلت الآخرين يشعرون حقاً بأنه الفتى الجديد. لم يكن متأكداً على الإطلاق كيف يلعب دور القائد، كما أن الشخص الذي أمامه كان بحلول ذلك الوقت قد شغل منصب رئيس الوزراء لمدة أربع سنوات وحقق نجاحاً كبيراً”.
“كان هناك شعور بأنه يراقب طريقة تصرف القادة السياسيين الكبار وبطريقة موازية كان يدرس بلير تقريباً. كذلك، تحدث من خلال مترجم، بالتالي، فالمهم حقاً كان لغة جسده، والطريقة المختلفة التي تحدث بها مع بلير، وأنواع المواضيع التي أثارها”.
“أحد الأشياء التي أدهشتني خلال تلك المحادثات هو عدم امتلاكه أي فهم للاقتصاد على الإطلاق. لقد تحدث بمصطلحات قديمة جداً، فكان الأمر أشبه بالاستماع إلى القادة السوفيات القدامى الذين كنت أستمع إليهم من قبل”.
“تناولنا موضوع الشيشان أيضاً، التي شكلت موضع قلق كبير في الغرب. ووجهت انتقادات كثيرة للطريقة التي اعتمدها الروس في إدارة ذلك الموضوع، ما جعل بوتين عدوانياً ودفاعياً للغاية. فكان يستخدم مونولوغاً طويلاً وعاطفياً للغاية وغاضباً بعض الشيء من أجل مقاطعة الأمور التي لا يريد الإجابة عنها”.
في الواقع، كانت فرضيته الأساسية هي أن الغرب فشل في فهم أن ما تفعله روسيا في الشيشان كان القتال على خط المواجهة الأمامي ضد الإرهاب الإسلامي الذي يحاول الوصول إلى أوروبا. لقد جادل بأنه يجب أن نكون أكثر دعماً وألا ننتقد الطريقة التي يديرون بها تلك الحرب.
بعد شهر، في رحلة العودة إلى لندن، انزلق بوتين إلى “ثرثرة غاضبة” أخرى حول الشيشان بعد أن طرح صحافي بريطاني سؤالاً حول الصراع خلال مؤتمر صحافي مشترك مع بلير في وزارة الخارجية.
يقول لين: “أثار ذلك انزعاج بوتين فغضب غضباً شديداً”. “لقد أعطى إجابة طويلة جداً ومبالغاً فيها للغاية. وبدا بلير محرجاً جداً، إذ كان يتكلم عن مدى روعة الأمور، ثم بدأ ذلك الرجل يتحدث بصخب وغضب عن الشيشان. كان ذلك الجانب الآخر من بوتين يظهر.
لقد استنتجت من تلك اللقاءات المبكرة مع بوتين، وأعتقد أن هذا ما كنت أبلغه إلى لندن، أن هناك بوتينين اثنين: بوتين، البراغماتي العقلاني الذي كان يحاول تحسين روسيا، ثم بوتين الآخر: متزعزع الثقة بالنفس، مصاب بجنون العظمة بعض الشيء، صبي خشن من الشوارع الخلفية في سانت بطرسبورغ، ضابط سابق في الاستخبارات الروسية نشأ في الاتحاد السوفياتي وآمن به”.
بدت ومضات العاطفة والشغف تلك متناقضة مع الصورة المتواضعة التي زرعها بوتين، حتى لو عن قصد، خلال الأيام الأولى من إدارته. بطريقة موازية، فوجئ الآخرون الذين التقوا به بافتقاره إلى الكاريزما وطريقته المملة في ارتداء الملابس وسلوكه ولغة جسده.
يقول اللورد جورج روبرتسون، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي من 1999 إلى 2004 “لم يكن هناك شيء مميز فيه. في بعض الأحيان عندما تقابل أشخاصاً، يجذبونك بحضورهم. لم يكن لدى بوتين أي شيء مميز. كانت بدلته زرقاء اللون، وربطة عنقه زرقاء منقطة، وكانت ساعة يده بسيطة للغاية. لم يكن يضع أزرار أكمام معدنية. ولا مجوهرات، بل كان ضابط استخبارات كلاسيكياً”.
بيد أنه يتذكر أيضاً نوبات الغضب غير المتوقعة، التي كان سببها في أغلب الأحيان الحديث عن العالم السوفياتي القديم الذي أجبر بوتين على إدارة ظهره له. يقول روبرتسون “كانت هناك لحظات، إذا فكرنا فيها الآن، نجدها أكثر أهمية مما كنا نعتقد في ذلك الوقت”.
“تشاركت معه المخاوف بشأن ما يجري في الشيشان. وشكلت جورجيا موضوعاً آخر عبر عن آراء قوية جداً بشأنه، وكذلك لاتفيا، التي تضم عدداً كبيراً من السكان الناطقين باللغة الروسية. في تلك الحالات، كان أكثر حيوية وعاطفية. وتغير سلوكه المدروس، لكنه كان لطيفاً جداً وهادئاً 90 في المئة من الوقت”.
كان جوناثان باول، الرئيس السابق لفريق موظفي بلير، شخصية أخرى حاضرة خلال الزيارة إلى سانت بطرسبورغ في مارس 2020. وعلى نحو مماثل، هو يتذكر “بيروقراطياً صغيراً متواضعاً” بدا غير واثق من نفسه و”متزعزعاً”.
ويقول “لقد كان بالتأكيد خجولاً تماماً. ولم يتحدث كثيراً. في تلك المرحلة، لم يكن يملك سلطة كاملة، إذ إنه شغل منصب رئيس الوزراء وليس رئيس الدولة. بالتالي، كان تحت مظلة عائلة يلتسين التي اختارت أن تضعه في ذاك المنصب. لذلك، أعتقد أنه كان يشق طريقه بحذر.
لكنه كان موظفاً أكثر منه قائداً، لا سيما بالمقارنة مع يلتسين. في الحقيقة، كان النقيض منه تماماً”.
حتى إن بوتين سوق لنفسه من هذا المنطلق، كما تقول ماري ديجفسكي، مراسلة أجنبية سابقة التقت بالرئيس عبر نادي فالداي للنقاش (Valdai Discussion Club)، وهو عبارة عن مؤسسة فكرية مقرها موسكو، جمعت، على مدى الـ18 عاماً الماضية، خبراء من خلفيات مختلفة لمناقشة كل ما يتعلق بروسيا والتكلم مع بوتين في شكل أسئلة وأجوبة.
هناك طابع غير رسمي بعض الشيء في مؤتمرات فالداي السنوية، التي تعقد في جميع أنحاء روسيا، لكن ديجفسكي تتذكر لحظة نادرة من “الثرثرة الوقحة” عندما سأل صحافي أميركي بوتين “كيف ترى نفسك كسياسي؟”، “فأجاب على الفور، أنا لست سياسياً”. وفق ما قالته ديجفسكي. “وهكذا عاد الأميركي وقال، “حسناً، ماذا أنت؟”، ورد بوتين، “أنا تكنوقراطي، أنا مدير، هذا عملي”.
ويقول المراقبون إنه على الرغم من جديته، كان هناك بعض (محاولات) الفكاهة في تلك المناقشات المبكرة للغاية بين بوتين والمسؤولين الغربيين.
في الاجتماع الأول لمجلس الناتو وروسيا، مع روبرتسون بصفته الرئيس الوحيد للمجلس، أتيحت فرصة التكلم لكل رئيس دولة وحكومة، ثم يتذكر روبرتسون “رفع بوتين يده وطلب الكلام. فكرت في أنه إذا أراد إلقاء خطاب آخر، فسيفعل الجميع مثله”.
“قلت إن الرئيس بوتين له الكلمة”، فقال “سيدي الأمين العام، لقد أخبرتنا أنك رئيس المجلس، وأنت رئيس مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية، كما أنك تشغل الآن منصب رئيس مجلس روسيا-الناتو. هل يمكنني اقتراح إعادة تسمية مقر الناتو إلى مجلس المجالس؟”.
لكن الكلمة الروسية التي تعني مجالس هي “سوفيات” (Soviet). لذلك، قال المترجم الذي أدرك الأمر، “أقترح أن تسمي المقر مجلس السوفيات”. وتسبب ذلك في بعض الذعر، لكنني أعلنت أن الرئيس بوتين كان يمزح. وكانت مزحة بالفعل، لقد كان واضحاً بشأن ذلك في الغداء الذي أقيم لاحقاً. إذاً، كانت تلك هي روح الدعابة لديه”.
نظرت في عيني الرجل. ووجدته واضحاً جداً وجديراً بالثقة – لقد تمكنت من الشعور بروحه.
وفي لحظة مرحة أخرى بحسب ما يتذكر باول، قام لين بكسر “كرسي فاخر” في بيترهوف خلال زيارته إلى سانت بطرسبورغ في أبريل (نيسان) عام 2000. ويتابع باول “لقد هدد بوتين بجعله يدفع ثمن ذلك، ليس على سبيل المزاح تماماً، إذ كان هناك تهديد خفيف في ما قاله”.
في الرحلة نفسها، قام بوتين، الذي لم ينسَ جذوره، بأخذ الوفد البريطاني إلى الشوارع الخلفية في سانت بطرسبورغ حيث نشأ كصبي صغير. وفي ذلك الإطار يقول باول “زرنا مربعاً سكنياً رديئاً إلى حد ما في ضواحي المدينة حيث كان يعيش”.
“ويروي بوتين تلك القصة، عن الفترة التي قضاها هناك، والتي تفسر بشكل كبير المكان الذي يجد نفسه فيه اليوم. تسكع في طفولته على درج تلك الشقق الجماعية التي تتشارك جميعها حماماً واحداً. وقد كانت السلالم مليئة بجرذان يضربها حتى الموت بالعصا لتسلية نفسه”.
“في إحدى المرات، كما يرويها، حاصره جرذ أسود كبير في الزاوية، وكان يحمل عصا جاهزة لقتله، بيد أن الجرذ الأسود، الذي لم يجد أي خيار آخر، قفز على رأسه وخدشه وهرب. وهو يستخدم تلك الحادثة ليشير إلى أنه لا ينبغي حشر الناس في الزاوية. والمشكلة الآن أنه هو الجرذ المحاصر”.
“نافذة استثنائية” للاستكشاف والتعاون
بين عامي 2000 و2003، كان هناك اعتقاد متزايد بأن بوتين سعى إلى إصلاح روسيا وجعل الآخرين يتقبلونها بعد سنوات من العزلة وانعدام الثقة وعدم الاستقرار الجيوسياسي.
وبدا أن العلاقات مع المملكة المتحدة، على وجه الخصوص، في تحسن، كما اتضح من العلاقة التي كانت تتعمق بين بوتين وبلير، اللذين حافظا على حوار مباشر ومنتظم مع بعضهما بعضاً.
وفي ذلك السياق يصرح باول “نظراً إلى أن توني كان أول من ذهب لرؤية بوتين، فقد كانت تربطه علاقة جيدة جداً به. وكان بوتين يتصل في بعض الأحيان ويطلب النصيحة وأشياء من هذا القبيل، ليس في الشؤون المحلية، بل في المسائل الدولية”.
وفي واحدة من المحادثات المبكرة بين الاثنين، أخبر بوتين بلير أنه جلب فريقاً من التحديثيين إلى الإدارة بهدف إدخال روسيا في القرن الحادي والعشرين، وفق ما يتذكره لين.
“لقد كانوا أشخاصاً لامعين للغاية في مختلف الإدارات الحكومية، وتولوا مهمة تحديث الاقتصاد الروسي. كانت نظريته الكاملة أمام شعبه هي أن روسيا لم يعد بإمكانها أن تكون قوة عسكرية وأنها ليست الطريقة المناسبة التي تعمل بها القوة في العالم اليوم”.
وبسبب إعجابه بحديث بوتين، وافق بلير على إرسال “فريق الإصلاحيين” الخاص به إلى موسكو من أجل المساعدة في تنفيذ تلك الخطط. يقول لين “لقد استضفت زيارة صغيرة من ديفيد ميليباند، الذي كان رئيس وحدة السياسة التابعة لبلير، وبعض الأشخاص الآخرين بهدف التحدث مع نظرائهم في الكرملين لبضعة أيام حول طريقة تعزيز الإصلاح داخل الحكومة”.
“لقد أجرينا كثيراً من تلك المناقشات البناءة حول ما يمكن تسميته جدول أعمال التحديث الخاص به”.
وقد جرى تجنيد باول حتى من أجل تنمية تلك العلاقات المزدهرة والحفاظ على دماثة الكرملين. تم الاتفاق على أنه سيتناول الغداء على أساس منتظم مع رئيس أركان بوتين في ذلك الوقت، ديمتري ميدفيديف، وفي وقت لاحق، رئيس بلدية موسكو الحالي، سيرغي سوبيانين.
“كنت أذهب إلى الكرملين، وأتناول الغداء معه وألتقي بمسؤولين آخرين في الكرملين وأتحدث عن أمور تتعلق بالسياسة الخارجية وهم يأتون إلى (10 داونينغ ستريت) [المقر الرسمي والمكتب التنفيذي لرئيس الوزراء]. وكنا نفعل ذلك بشكل معكوس. إذاً كانت العلاقات مع الكرملين جيدة جداً، وفي مكان مختلف تماماً عما كانت عليه من قبل. وفي الواقع، نشأت تلك الفرصة التي كان من الممكن أن تقود إلى مكان ما”.
“بدا وكأنه يريد أن يتواصل مع الغرب. بدا الأمر وكأنه يريد أن يكون مصلحاً”.
كان سير ديفيد مانينغ، مستشار السياسة الخارجية لبلير بين عامي 2001 و2003، حاضراً بصفته مدوناً للملاحظات خلال عدد من تلك الاجتماعات والمحادثات مع بوتين. وهو يصف الفترة التي سبقت غزو العراق، في عام 2003، بأنها “نافذة استثنائية إلى حد ما” تضمنت “أملاً حقيقياً في كل من لندن وواشنطن” بإمكانية إقامة “علاقة تعاونية” جديدة.
وإحدى اللحظات البارزة بالنسبة إليه هي اجتماع القمة بين الولايات المتحدة وروسيا في سلوفينيا، في يونيو (حزيران) 2001، قبل أشهر لا غير من 11 سبتمبر (أيلول). وفي المؤتمر الصحافي الختامي، قال بوش رداً على سؤال حول ما إذا كان يمكنه الوثوق ببوتين “نظرت في عيني الرجل. ووجدته واضحاً جداً وجديراً بالثقة، لقد تمكنت من الشعور بروحه”.
ولاحقاً، كتبت كوندوليزا رايس أنه نتيجة لتعليقات بوش، “لم نتمكن قط من الهروب من فكرة أن الرئيس قد وثق بسذاجة في بوتين ثم تعرض للخيانة”- بيد أن تلك التصريحات عبرت عن سهولة الانقياد في ذلك الوقت.
بين عامي 2001 و2003 أصبح أكثر غطرسة. في إحدى الزيارات، كان هناك خيول أكثر، ورفاهية أكثر، ومزيد من تجهيزات الحمامات الذهبية، وما إلى ذلك، في منزله الريفي.
ويشير مانينغ إلى أن فترة الاستكشاف تلك مع بوتين “لم تكن مجرد شيء أوروبي أو له علاقة ببلير، بل كانت رايس وبوش وزملاؤهما مهتمين جداً برؤية ما إذا كان يمكن بناء نوع جديد من العلاقات”.
بعد شهرين من القمة في سلوفينيا، اهتز العالم الغربي حتى صميمه: لقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لحظة غيرت مجرى التاريخ وشكلت نقطة تحول في العلاقات العالمية. كما أنها كانت سبباً في تقريب روسيا والغرب من بعضهما بعضاً لفترة وجيزة.
يقول باول “تلقينا مكالمة من بوتين في يوم 11 سبتمبر. لقد اتصل هاتفياً وسأل ما الذي يجب أن تفعله روسيا. كذلك، عرض تبادل المعلومات الاستخباراتية والمساعدة. وبعد ذلك بوقت قصير، ذهب توني في رحلة عالمية إلى فرنسا وألمانيا، ثم إلى نيويورك، وواشنطن، وعاد إلى المملكة المتحدة ثم إلى موسكو”.
“كان بوتين هناك مرن الطبع ومتعاوناً وودوداً للغاية، إضافة إلى ذلك، عرض قاعدة [لغزو أفغانستان]. وحاول تشجيع توني على الطيران إلى طاجكستان، حيث أراد الروس أن تتمركز القوات الأميركية والقوات البريطانية في مهاجمة أفغانستان.
خلال الرحلة، دعا بوتين توني للعودة إلى منزله الريفي، كان ودوداً للغاية، فلعبا البلياردو، وأجريا مكالمة مشتركة مع بوش. كان كل شيء غير رسمي وطبيعياً للغاية”.
وعلى نحو مشابه، كان الناتو، الذي أصبح الآن موضع غضب بوتين، يقترب أيضاً من النظام الروسي. في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عندما كان بوتين يجتمع مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل، يتذكر روبرتسون أن الرئيس سأله “متى ستدعو روسيا للانضمام إلى الناتو؟”، فأجبته “نحن لا نطلب من الدول الانضمام إلى الناتو، بل عليها هي أن تقدم طلباً”.
“فكان رده، نحن لن نقف في الصف مثل جميع البلدان الأخرى غير المهمة”. فقلت له: “هل يمكننا إيقاف رقصة السيف الدبلوماسية، ونبني علاقة ونرى إلى أين ستؤدي؟”.
“لقد توقف عند تلك النقطة. لا أعتقد أنه كان جدياً تماماً في طرحه. وكان يعرف الجواب، ولكن إذا كنت سياسياً جيداً، فأنت لا تطرح سؤالاً على الإطلاق إلا إذا كنت تعرف الإجابة بالفعل”.
وعلى الرغم من مكائد بوتين، ظلت روسيا والناتو يتقاربان ببطء، كما تبين من إنشاء مجلس الناتو وروسيا في عام 2001. وجاءت “ذروة” تلك العلاقة، على حد تعبير مانينغ، مع الاجتماع الأول الذي عقده المجلس في روما، في مايو (أيار) 2002.
ويصرح مانينغ “في تلك المرحلة تقريباً، بدا أن نوعاً من التعاون الهيكلي سيكون ممكناً بين رؤساء حكومات الناتو وروسيا بطريقة جديدة تماماً”.
ولكن كما يقول باول، في حين أن “بوتين العقلاني كان بالتأكيد في القمة” في السنوات الأولى من الحرية، ظلت هناك إشارات تحذيرية بسيطة تظهر رويداً رويداً، تشير إلى ما سيأتي.
“بين عامي 2001 و2003، ما أدهشني هو أنه أصبح أكثر غطرسة. في إحدى الزيارات، كان هناك خيول أكثر، ورفاهية أكثر، ومزيد من تجهيزات الحمامات الذهبية، وما إلى ذلك، في منزله الريفي. كان يعيش أسلوب الحياة الإمبراطوري هذا، بدلاً من أسلوب حياة القائد العادي. وازداد ذلك سوءاً”.
في الواقع، كان مانينغ أيضاً يخبئ شكوكه تجاه بوتين وتجاه النيات الحقيقية لذاك الرجل. “كانت فكرتي عن ذلك الرجل آنذاك أنه شخص مرهق، يشق طريقه بحذر، مرتاب بشكل غريزي، قد يشك في المقترحات والناس. وحتى في البداية، كان هناك شعور على ما أعتقد، بأن العلاقات في نظره كانت على الأغلب علاقات فوز طرف واحد على حساب الجميع”.
“الخيانة العظمى”
التقى جون كامبفنر ببوتين في ثلاث مناسبات خلال مسيرته المهنية كصحافي وكاتب وأكاديمي، لكن لقاء عام 2004 هو المميز في ذهنه. كان كامبفنر يحضر المؤتمر السنوي الأول لنادي فالداي، الذي عقد في مقر بوتين الرئاسي في ضواحي موسكو.
وتزامن الاجتماع مع حصار مدرسة بيسلان الذي قتل خلاله 333 شخصاً من بينهم 186 طفلاً بعد أن اقتحم إرهابيون شيشانيون مدرسة ثانوية واحتجزوا الطلاب والموظفين كرهائن. وقد تمت إدانة روسيا على نطاق واسع بسبب طريقة تعاملها مع الهجوم والقوة المفرطة التي استخدمتها، بما في ذلك الدبابات والأسلحة الحرارية، من أجل إنهاء الحصار.
يمكن أن يكون عدوانياً للغاية عندما يطرح عليه الناس أسئلة ويوجهون له عمداً أسئلة استفزازية. وهكذا يرد عليهم بالمثل.
والجدير بالذكر أن كامبفنر، المكلف طرح السؤال الأول، استخدم الحادثة والحرب الشيشانية الأوسع “للحديث عن حدود روسيا وعدم الاستقرار في دول الاتحاد السوفياتي السابق”. ولا يزال الرد الذي حصل عليه محفوراً في ذاكرته حتى يومنا هذا.
يقول كامبفنر “أجابني لمدة 30 دقيقة، مناجاة لمدة 30 دقيقة كنت فيها جالساً في الجهة المقابلة تماماً ولم يرفع عينيه عني مرة واحدة. كنت أنظر إليه ثم إلى دفتر ملاحظاتي وأكتب تعليقاتي، ثم أرفع نظري إليه مرة أخرى، ولم تتحرك عيناه، وكأنهما رادار مثبت عليك. لقد كانت تجربة مخيفة للغاية”.
“بدا متحمساً وفي الوقت نفسه فيه نوع من البرودة. وكان رده في الأساس عبارة عن صرخة طويلة من القلب تعبر عن ضيم إزاء الطريقة التي حاول بها أن يكون صديقاً للغرب، وأنه أول من اتصل بعد 11 سبتمبر لتقديم الدعم للأميركيين، وهو أمر صحيح”.
“قال إنه منح الأميركيين قواعدهم لمهاجمة أفغانستان بعد شهرين من ذلك، على الرغم من المخاوف التي ساورته. وعلى نحو مماثل، كانت لديه أكثر من شكوك حول العراق، لكنه لم يقف في طريق الأميركيين في ذلك. وما الذي حصلت عليه في المقابل؟ كل ما نلته هو أنت والغرب، تثيران المشكلات في محيطي”.
بحسب كامبفنر، اعتقد بوتين أنه كان “مؤيداً للغرب وجريئاً إلى أبعد حد بين عامي 2000 و2004″، وعلى الرغم من ذلك، في الوقت نفسه، أغلق محطة التلفزيون المستقلة الوحيدة في البلاد، وطرد العديد من الأوليغارشيين وسجن ميخائيل خودوركوفسكي. “إذاً كان يشدد الإجراءات في الداخل، لكنه اعتقد أنه كان يتصرف بانفتاح مع الغرب، وشعر أنه لم يكن يحصل على شيء في المقابل”.
كانت ديجفسكي حاضرة أيضاً خلال مؤتمر فالداي الأول، ومنذ ذلك الحين حضرت غالبية الاجتماعات السنوية التي عقدتها المجموعة. وهي تتذكر تحول لهجة بوتين إلى “فظة وعدائية” بمجرد إثارة موضوع مذبحة بيسلان.
“لقد كان سريعاً جداً في استعمال نوع من اللهجة المستخدمة في غرفة الثكنات [لغة مبتذلة]. وهي لهجة تتعايش جنباً إلى جنب مع لهجته الرسمية، هذا جزء من هوية بوتين، وربما يعكس بعضاً من خلفيته الصعبة عندما كان طفلاً، والوقت الذي قضاه في كي جي بي وكل ذلك”.
“يمكن أن يكون عدوانياً للغاية عندما يطرح عليه الناس أسئلة ويوجهون له عمداً أسئلة استفزازية. وهو يرد عليهم بالمثل”.
“لكن في ذلك الاجتماع الأول، ما كان مثيراً للاهتمام هو أن ثلاث سنوات كانت قد مضت ربما على وجوده في السلطة. وجاء إلى الغرفة بمفرده مع مترجم، من دون أي حاشية، ولم يرافقه أحد. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك تغير بمرور الوقت، لكنه لم يأخذ في رأي أحد قط خلال تلك الاجتماعات، ولم يظهر عليه أي توتر. وهو مطلع جداً ويعرف كل الحقائق”.
بدأت الانقسامات في العلاقة بين روسيا والمملكة المتحدة بالظهور أيضاً خلال تلك الفترة. لم يتراجع بوتين بأي حال من الأحوال، ولكن بحلول منتصف عام 2004، لم تعد العلاقة بين الدولتين قائمة على أساس ثابت.
واعتبر الخلاف حول أحمد زكاييف مثالاً على ذلك. في الواقع، وجهت روسيا اتهاماً إلى زكاييف، نائب رئيس وزراء الشيشان في ذلك الوقت، بارتكاب 13 جريمة، بما في ذلك أعمال إرهابية وتعذيب واختطاف اثنين من الكهنة الأرثوذكس. كان زكاييف قد فر من روسيا ولجأ إلى المملكة المتحدة، التي رفضت مطالبات بوتين بتسليم الزعيم الشيشاني المطلوب، وذلك بعد تدخل محكمة بريطانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003.
يقول لين “لقد كان بوتين شخصياً غاضباً من ذلك، إذ إن بوتين، الذي لا يفهم الغرب، أمضى القليل من الوقت فيه ولا يفهم سيادة القانون. ببساطة، لم يستطع أن يفهم أن تلك لم تكن قرارات سياسية، لذلك ظللت أسمع أن بوتين شعر بالحيرة بشأن (السبب وراء اتخاذ توني بلير قراراً سياسياً بعدم إعادة زكاييف إلى روسيا)”.
“فبذلنا جهدنا لنوضح له أنه لدينا محاكم في بريطانيا، ولا يمكن لرئيس الوزراء نقض المحاكم حتى لو أراد ذلك، بيد أن بوتين أخذ ذلك على محمل شخصي للغاية. لقد ارتكب بلير شيئاً سيئاً بحقه. لذلك، كان عليه أن ينتقم لأن هذا في شخصيته بالتأكيد. إنه الطفل الصغير الذي اعتاد الدخول في شجارات في شوارع لينينغراد الخلفية وتعلم ضرب الأولاد الآخرين، أو كما قال ذات مرة، (احصل على انتقامك أولاً)”.
في الواقع، جاء الرد في شكل هجمات ضد “المجلس البريطاني” في روسيا، الذي كان يساعد في تلقين اللغة الإنجليزية للمواطنين المحليين وتعزيز التعليم. وفي ذلك الإطار. يقول لين إن بلطجيين يرتدون سترات جلدية، “بأمر من بوتين”، بدأوا في اقتحام مكاتب المجلس الثقافي البريطاني في موسكو وإزالة أجهزة الكمبيوتر، وتدمير الملفات وإخافة الموظفين.
بحسب لين “كان ذلك من سمات بوتين في تلك الفترة. كان من نوعية الفتى الصغير، الذي يشعر بعدم الأمان والذي يعتقد أن شخصاً ما يخدعه، لذا يجب عليه أن يرد بالمثل”.
“في عام 2003، بدا أن بوتين كان يتأرجح نوعاً ما. وأتذكر أن ذلك أدى إلى قدر لا بأس به من النقاش الخاص في أماكن مثل داونينغ ستريت، وفي البيت الأبيض، حول ما إذا كان الرجل يسير في اتجاه مختلف”.
كانت ومضات العاطفة تلك التي أزالت بشكل متقطع مظهر الكياسة الخادع الذي كافح للحفاظ عليه، قد أصبحت أكثر وضوحاً، وقوة، ودلالة.
شكلت الحرب في العراق نقطة مؤلمة أخرى لبوتين، الذي “شعر أنه لم يسمح له بالجلوس على الطاولة الكبيرة [بين صفوة القوم] أو لم يلمس الاحترام الذي تستحقه روسيا”، كما يقول باول. ويضيف مانينغ أن الغرب نفسه كان قد بدأ يتفرق و”ينقسم إلى معسكرات مختلفة” بسبب الصراع، ما جعل ربما “التلاعب بالأطراف المنقسمة أمراً لا يقاوم بالنسبة إلى الروس”.
بالعودة سريعاً إلى سبتمبر 2004، عندما خرج كامبفنر وزملاؤه المتخصصون الروس في الساعة الواحدة صباحاً من قصر بوتين الفخم في نوفو-أوغارييفو، كان هناك إجماع واضح بين المجموعة على أن “بوتين قد تخلى عن الغرب”.
يقول كامبفنر “بغض النظر عن وجهة النظر التي كانت لدينا، فقد اتفقنا جميعاً على أن تلك كانت الفترة التي تحول فيها بوتين. لقد عاد بشكل أساسي إلى النمط السوفياتي، بعد أن جرب ما كان بنظره موقفاً محفوفاً بالمخاطر لكونه ودوداً إلى حد ما مع الغرب، ثم عاد بشكل أساسي إلى عقليته العدائية، بالاستناد إلى ما أصر بينه وبين نفسه بأنه خيانة كبرى”.
“أنت لا تهتم بقتلنا المعارضين في شوارعك”
وحصل لقاء باول الأخير مع بوتين في يونيو 2007، في قمة مجموعة الثماني التي عقدتها أنغيلا ميركل في منتجع هايليغيندام شمال ألمانيا.
كانت العلاقات مع بوتين تتدهور بسرعة. قبل أشهر، في فبراير (شباط)، ألقى بوتين خطابه السيئ السمعة المناهض لأميركا في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي دان فيه الولايات المتحدة “بسبب استخدامها القوة في العلاقات الدولية بشكل مفرط وغير مسيطر عليه تقريباً”.
قبل ذلك، في نوفمبر 2006، توفي ألكسندر ليتفينينكو، وهو عميل سابق في الاستخبارات السوفياتية وناقد بارز لبوتين، بعد تسميمه بمادة البولونيوم-210. تبين أن جاسوسين روسيين كانا متورطين في ذلك، واستنتج لاحقاً أن بوتين نفسه قد أصدر أمراً باغتيال ليتفينينكو.
بعد سنوات من الاسترضاء والمغازلة، وصل بلير برفقة باول إلى هيليغيندام بهدف “إخبار بوتين برأيه الصريح”.
ووفق ما يتذكره باول “كان هناك بوتين والمترجم الروسي وتوني وأنا. كان توني صريحاً للغاية وقال ما يفكر فيه بشأن قتل ليتفينينكو في الشوارع البريطانية باستخدام مواد مشعة، وبشأن الاستبداد.
بيد أن بوتين رد عليه بشراسة وعدوانية (أنت لا تهتم بقتلنا المعارضين في شوارعك. ديمقراطيتكم مروعة، انظر إلى أي مدى أنت فاسد). لقد كانت محادثة قاسية وخشنة للغاية”.
وعلى نحو مماثل، كان الاجتماع بين غوردون براون وبوتين في يونيو 2008 فاتراً، غير أنه لم يكن بالنبرة التهجمية نفسها. والجدير بالذكر أن توني برينتون، الذي كان سفيراً لبريطانيا لدى روسيا من 2004 إلى 2008، حضر تلك المناقشة في موسكو، حيث اجتمع وزراء مالية مجموعة الثماني في ذلك الوقت.
يقول برينتون: “لقد كانا على دراية جيدة بما يجري في السياسة في البلدان الأخرى من حولهما. وكان من الواضح أن غوردون براون سيرث رئاسة الوزراء من بلير، لذا فقد جعلوه يلتقي ببوتين خلال انعقاد القمة”.
“لقد كان لقاء مثيراً جداً للاهتمام، لأنه في ذلك الوقت، وبالتوازي مع اليوم، من بعض النواحي، كانت أسعار الغاز قد ارتفعت بشكل تجاوز التوقعات. وشعرنا أن الروس كانوا مسؤولين عن هذا إلى حد ما، ولذا ذهب براون لإقناع بوتين بضرورة إطلاق مزيد من الغاز في السوق”.
لقد صدم بوتين بذلك كثيراً، إذ إنه على إلمام تام بتفاصيل سوق الغاز. وكانت الإجابة التي أعطاها إلى براون هي أن “سبب تأثر المملكة المتحدة بأسعار الغاز هو أنكم تشترون كل الغاز من السوق الفورية، وهذا هو سبب ارتفاع سعره. إذا اعتمدتم عقوداً طويلة الأجل مع شركة غازبروم، فسيكون ذلك أرخص بكثير بالنسبة إليكم”.
“كان ملماً بالملفات المطروحة. وفي الحقيقة، الشخصية السياسية الوحيدة التي تعاملت معها والتي أتقنت بشكل أفضل المواد التي طرحت عليها كانت مارغريت تاتشر.
لقد تصدى براون للأمر كله بطريقة دبلوماسية للغاية، لكنه خسر اللقاء، وخسر المناقشة لأن وجهة نظر بوتين كانت ذات مصداقية تامة”.
كان بوتين مختلفاً تماماً عن الرجل الذي تعامل بودية لأول مرة مع بلير منذ سنوات مضت في سانت بطرسبورغ. وفي الواقع، تبددت الصفات المؤقتة والمتواضعة والمراعية خلال كل تلك الفترة الماضية، واستبدلت بها سلسلة ثابتة من الثقة والقسوة التي عملت على زيادة الانقسام المتسع بين روسيا والغرب.
إذاً، بدأ الجانب المظلم لبوتين يسيطر، قامعاً البراغماتية التي كانت سائدة في الأيام الأولى في منصبه، إضافة إلى ذلك، كانت ومضات العاطفة تلك التي أزالت بشكل متقطع مظهر الكياسة الخادع الذي كافح للحفاظ عليه، قد أصبحت أكثر وضوحاً، وقوة، ودلالة.
حدث آخر لقاء لـ”لين” مع بوتين في اجتماع فالداي عام 2008، بعد شهر واحد فحسب من الحرب الروسية الجورجية. ووفق ما قاله لين، سأل صحافي بريطاني شجاع عن قضية ليتفينينكو خلال المؤتمر، وحصل على “إجابة حادة ومنفرة حقاً” عكست ثقة بوتين بالنفس وإحساسه المتزايد بأنه لا يقهر.
يتفق معظمهم على أن هناك غضباً هادئاً ولكن قابلاً للاشتعال يتربص في العمق، وهو ملطخ بالدم وعنيف بدرجة كافية لتحطيم الشخصية الخاضعة للسيطرة بين الفينة والأخرى
“نسيت الكلمات بالضبط، لكنه في الأساس لم ينتهز الفرصة ليذرف أي نوع من دموع التماسيح التي تعبر عن أسفه على موت الرجل. ورد بالكلمات التي قالت بشكل فعال، (لقد نال ما يستحق). كان هذا هو الجانب القاسي منه يظهر من دون أن يتمكن من كبح جماحه”.
وعلى نحو مماثل، بعد أن حضر جيمس شير، الزميل العالي الشأن في معهد السياسة الخارجية الإستوني، عدداً من اجتماعات فالداي باعتباره أكاديمياً روسياً بين عامي 2008 و2017، انضم إلى لائحة الأشخاص الذين لاحظوا تحول بوتين من براغماتي متردد إلى ديكتاتور.
يتذكر شير أنه في مؤتمر عام 2009، أعلن بوتين “بشكل عابر جداً” أنه “لا يوجد أي خطأ على الإطلاق في سياسة أدولف هتلر الخارجية أو أي شيء فعله حتى مارس 1939″، عندما ضم النازيون الأجزاء التشيكية من بوهيميا ومورافيا.
ويقول شير: “كانت حجة هتلر أنه كان ببساطة يعيد توحيد الأراضي الألمانية التاريخية”. وبالطريقة نفسها، كان بوتين يتحدث الآن عن وحدة روسيا والعالم الروسي.
“أصبح من الواضح أن الأساس العقائدي لسياسة بوتين الخارجية كان مشابهاً جداً لتلك الفترة السابقة من سياسة هتلر، إذ قال لتشامبرلين وآخرين، (أنا آخذ فحسب ما هو لنا تاريخياً)”.
“هذا المنطق لدى بوتين موجود منذ فترة طويلة”.
بحلول منتصف عام 2010، أصبح الاتصال الغربي المباشر مع بوتين نادراً. وبعد ضم شبه جزيرة القرم، لم تكن هناك رغبة كبيرة في استعادة روح الاستكشاف المشتركة بين روسيا والغرب في النصف الأول من العقد الماضي. وظلت بعض المقاطعات والقيادات والمنظمات الغربية أقرب من غيرها إلى بوتين، لكن روح العصر السائدة في ذلك الوقت كانت بشكل عام منقسمة وبعيدة.
أنجيلا ستينت، خبيرة السياسة الخارجية التي حضرت معظم اجتماعات فالداي منذ عام 2004، رأت أن ذلك انعكس في المؤتمرات التي عقدت منذ عام 2014 وما بعده.
في الواقع، ازداد حجم الاجتماعات، وفقدت الحميمية التي كانت سائدة في الاجتماعات السابقة ما جعل من الصعب إجراء محادثات مباشرة مع بوتين، الذي أصبح أكثر انعزالاً داخل دائرته المقربة. على نحو متزايد، تحولت الاجتماعات إلى احتفال خاص بروسيا، “نسخة عن دافوس” تعتمدها الدولة، بحسب ما تقوله ستينت.
“في السنوات الثماني الماضية، بدأ بوتين يستخدم المؤتمرات لانتقاد حقوق (مجتمع الميم)، واللياقة [أو الصوابية] السياسية، والتنديد بما اعتبره انحطاط الاتحاد الأوروبي، (نحن المسيحيون الحقيقيون، والغرب شيطاني)”.
أعتقد أن هذا ترافق مع ذلك الشعور الأكبر بالانتصار “لقد استعدنا شبه جزيرة القرم وشعبنا وطني حيال هذا الأمر”، بينما ينتقد بشدة العقوبات الغربية ولكن يقول إن اقتصادهم يمتلك وسائل الازدهار.
“في عام واحد، طوروا صانع الجبن البطل الوطني وقالوا نحن قادرون على صنع جبن البارميزان والماسكاربوني الخاص بنا. كان الوضع يزداد حدة ومعاداة للغرب ولأميركا. وعلى الرغم من أننا لم نعد نحظى بمقابلات شخصية مع بوتين، كان ذلك يدل على طريقة تفكيره”.
تجدر الإشارة إلى أن أفكاراً من هذا النوع تفتح نافذة، مهما كانت صغيرة، لدخول عقل الرجل، الذي هو فلاديمير بوتين. ومن خلال البقاء بعيداً ومعزولاً عن وهج المراقبين الغربيين، يبقى الرجل الروسي القوي لغزاً، ودوافعه في أوكرانيا مشوشة وغير واضحة، لكن التصورات التي بناها أولئك الذين قضوا وقتاً في رفقته تتضمن بعض القواسم المشتركة.
في الواقع، يتفق معظمهم على أن هناك غضباً هادئاً ولكن قابلاً للاشتعال يتربص في العمق، وهو عنيف بما يكفي أحياناً لتحطيم الشخصية الخاضعة للسيطرة التي بناها على مر السنين.
ويقولون إن هذا الغضب هو الذي دفع بوتين إلى أعمال الهمجية الوحشية وإقامة نظام شمولي يظهر القليل من الرحمة تجاه أعدائه. إنه غضب عبر عنه من خلال إدارته، ومن خلال قتل المدنيين في الشيشان، وتدمير غروزني، وسوء التعامل الوحشي مع حصار مدرسة بيسلان، وقصف حلب، وتسميم المعارضين، واغتصاب الأوكرانيين الأبرياء وتعذيبهم وقتلهم.
يتفق معظمهم أيضاً على أنهم لم يعتقدوا قط أن بوتين قادر على ارتكاب الفظائع التي تحدث في أوكرانيا اليوم. صحيح أنهم كانوا دائماً على دراية بـ”السيدين بوتين” المتعايشين معاً، وبسرعة الانفعال وقابلية الاشتعال المحمومتين اللتين حددتا وجهات نظره وأفعاله حول العالم، لكن لم يعتقد أي منهم أن الوحش الذي بداخله سيهيمن بالطريقة التي هيمن بها.
وبهذا المعنى، هم جميعاً متفقون على أن السلطة أثبتت أنها أعظم قوة مفسدة، دافعةً بوتين إلى حالة ذهنية تم فيها إطلاق العنان لقدرته الكامنة على ارتكاب الشر الخالص والسماح لها بالوصول إلى كامل إمكاناتها.
ويقول روبرتسون: “وصل إلى هذه الحالة منذ فترة طويلة جداً، وهو بعيد عن الأشخاص العاديين، عن التحدي، عن أي مجموعة حقيقية من القيود السياسية. وقد أتاح ذلك تحول كثير من الومضات العاطفية التي رأيتها إلى هواجس خطيرة، وأوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم”.
المصدر: اندبندنت عربية