لا يصعب على المتأمل للمسار التاريخي للفكر العربى أن يميز الانحدار العام الذى وسمه بعد تصفية التيارات العقلانية فيه ومحاربتها على يد التيارات المحافظة انطلاقًا من القرن الثالث عشر الميلادى بعد أن شكلت الإبن رشدية ذروة العقلانية العربية التى سعت لإيجاد أرضية مشتركة بين التدين والفلسفة، ونجم عن تصفية ذلك الفكر ومحاربته انحدار عام مستمر للفكر العربي ومحاصرة للعقلانية فيه لحساب أنماط من الوعى ذات هياكل ضيقة وتكرارية، لاتقبل التطور ولا تسمح بالنقد. لم يتوقف انحدار الفكر العربى حتى اصطدم بمدافع الفتوحات الاستعمارية الغربية فى القرن التاسع عشر الميلادى، فظهرت بوادر صحوة فكرية تأسست بفعل حركة الترجمة والبعثات العلمية، خاصة خلال فترة حكم محمد على باشا لمصر، فانطلقت حركات الاصلاح، ودعوات مراجعة الفكر السائد على يد مصلحين أمثال رفاعة الطهطاوى، محمد عبده، رشيد رضا، جمال الدين الأفغانى وغيرهم. إلا أن تلك الصحوة مالبثت ان تجمدت بصورة متزامنة مع فشل محاولات بناء اقتصاد ودولة حديثين، وأدت الهجمات الاستعمارية الغربية المتكررة إلى دفع المجتمع نحو الابتعاد عن التجديد الفكري الذى أصبح مقترنًا بالتغريب والاستلاب الثقافى، ومنذ الثلاثينات من القرن العشرين دخل الفكر العربى فى مرحلة من التمزق بين تيارات دينية تمثل فى الجوهر الفكر القديم مع محاولة استعادة قدر محدود للغاية من التجديد، وتيارات فكرية قومية واشتراكية مستمدة من حيث الجوهر من الفكر الغربى، وبالتدريج تعمقت القطيعة بين هذه وتلك، وفى حين صعدت التيارات القومية والاشتراكية إلى السطح دون أن تتمكن من إحراز إنجازات حقيقية، بدا لاحقًا وكأن التيارات الدينية آخذة فى الصعود على حساب فشل التيارات الأخرى، وفى المرحلة الراهنة ظهر واضحًا عجز الفكر العربى المنقسم على ذاته، بكل أجنحته، مما يطرح إعادة تشكيل مرجعية ذلك الفكر من وجهة نظر تاريخية وفلسفية. دعونا نعترف ببعض الحقائق التى لم يعد ينفع إنكارها، الأولى أنه لاغنى للفكر العربى عن منابعه الاسلامية، الثانية أن التراث الفكرى الاشتراكى لايمكن الاستغناء عنه ولايمكن بذات الوقت الاتكال عليه باعتباره مرجعية فكرية أحادية، لقد ماتت الماركسية كإيديولوجيا شمولية، ولكنها استعادت بموتها ذاك قيمتها الفكرية والإنسانية، الثالثة أنه لابد من إعادة تشكيل الفكر العربى بأدوات فكرية مستمدة من المنطق والفلسفة والعلوم الحديثة، وضمن هذا السياق تحتل الابن رشدية مكانة مرموقة كمرجعية هامة. إبن رشد ليس فيلسوفًا يلبس العمامة ويدعي التدين نفاقًا، وهو ليس شيخًا متدينًا متطفلًا على الفلسفة، وفكره ليس محاولة تلفيقية متهافتة، ابن رشد عالم فقيه ، ومؤمن مخلص لإيمانه حتى النهاية، وهو مع ذلك فيلسوف وحكيم، والأهم من ذلك أنه لايرى تعارضًا ولا تناقضًا بين تدينه وفلسفته بل الفلسفة والحكمة فى نظره طريق موصلة للحقيقة، ولأن الشريعة والإيمان يقعان فى قلب الحقيقة أيضًا، فهو لايرى في الجمع بينهما من تعارض سوى ما صنعه الجاهلون وقصر عن فهمه القاصرون، ويذكر ذلك بما كتبه هيغل فى مؤلفه ( محاضرات فى تاريخ الفلسفة) (الفلسفة تقترح على نفسها معرفة الدائم، الخالد، ما هو بذاته ولذاته، فغايتها هى الحقيقة)، وفى حين نظر الناس إلى الفلسفة فى كثير من الأحيان كترف وتحذلق، وهوجمت من البعض باعتبارها طريقًا للزندقة، وأهملت باعتبارها أمرًا لاطائل منه، فإننا نعرف الآن أنها كانت من أقوى الأسلحة العقلية التى اكتشفها الإنسان لامتحان الفكر، ولتطويره، ولأجل بيان أهمية وراهنية فكر ابن رشد، دعونا نستحضر الجدل الذى لايكاد ينقطع حول علاقة الديمقراطية بالإسلام، وهل يجوز الأخذ بالديمقراطية أم أنها بدعة ضلالة غربية، مازالت غالبية التيارات الدينية تعانى من هذه المسألة، وحين يعترف بالديمقراطية بعضها فى السياسة فهو اعتراف مؤقت، عملي، لايرقى إلى مرتبة الأخذ بها ودمجها مع المنظومة الفكرية، وهو فى ذلك ينظر للعلاقة بالديمقراطية كزواج المتعة، والسبب عجزه عن تطوير مفهوم فكري يسمح له باستيراد الديمقراطية ودمجها، ابن رشد تعرض إلى ما يمكن وصفه بمرجعية تشمل مثل تلك المسألة وغيرها حيث ذكر فى باب ( علوم غير المسلمين وحكمها) فى كتابه( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) ( بين الشارع أن علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا فى ذلك وسواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا فى الملة أم غير مشارك، فإن الآلة التى تصح بها التزكية ( يقصد سكين ذبح الضحية) ليس يعتبر فى صحة التزكية كونها آلة لمشارك لنا فى الملة أو غير مشارك)، إذًا يكفى أن تكون الديمقراطية وسيلة حقيقية ومجربة لدفع الظلم وإحقاق العدل وتأمين مصلحة الناس كى نأخذها كما هى دون حرج، وبخلاف الذين قصروا باب الاجتهاد على الأحكام الفقهية( أو حتى على جزء منها) يطرح ابن رشد مسألة القياس العقلي للمسائل الفكرية فيقول فى الكتاب السابق ذكره( كما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه فى الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها)، كذلك على العارف (يقصد المشتغل بمسائل الفكر) أن يستنبط من الأمر بالنظر فى الموجودات وجوب معرفة القياس العقلى، وأنواعه، بل هو أحرى بذلك لأنه إذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعالى ( فاعتبروا يا أولى الأبصار) وجوب معرفة القياس الفقهي فكم بالحري والأولى أن يستنبط من ذلك العارف وجوب معرفة القياس العقلي. هكذا تمكن ابن رشد وبالانطلاق من الكتاب أن يصل إلى وجوب إعمال القياس العقلى للموضوعات العقلية، مثلما أن على الفقيه إعمال القياس الفقهى للأحكام، فالقياس الفقهى للأحكام ليس سوى فرع للقياس العقلي فكيف نأخذ بالفرع ونترك الأصل؟ إن وصول كثير من التيارات الدينية إلى طريق مسدود يطرح ضرورة إعادة النظر بأطرها الفكرية الضيقة التى لم تتمكن من استيعاب حقائق العصر، ولعل تلك المراجعة تمر بالضرورة عبر إعادة الاعتبار للإبن رشدية، وللعقلانية العربية التى لاتريد الخروج عن الإيمان، ولا ترى فى الفلسفة طريقًا موصلة للإلحاد بل للحقيقة الواحدة. لقد استطاع ابن رشد أن يبني منظومته الفكرية الفلسفية دون الحاجة للخروج عن الإيمان، ألا يمكن للفكر العربى أن يستكمل تلك المهمة مستوعبًا الإنجازات الفكرية والعلمية للبشرية؟ فى المرحلة السابقة عرضت الماركسية كمنظومة فكرية متكاملة موحدة تشمل ما سمي بالمادية الجدلية كفلسفة، وصراع الطبقات كتحليل اجتماعى اقتصادى، والاشتراكية كحل وهدف، والآن فإن سقوط الأنظمة التى أُسست على فهم محدد للماركسية( برهن عن خطئه التاريخي) يطرح إمكانية تأمل مكونات تلك المنظومة والبحث فيها عن العناصر ذات القيمة الفكرية الحقيقية بعيدًا عن الاستلاب الأيديولوجي ورفض العناصر الأخرى والتى ليست فى الحقيقة ذات أهمية بنيوية، مثلما أنها غير مطابقة للحقيقة، وغير مناسبة لنا، ومن تلك العناصر فكرة المادية التى تم نقلها من مذهب فى الفلسفة اليونانية وتحميلها صفة العلمية، ثم ادعاء تطبيقها على التاريخ والمجتمع، وفى حين أن التحليل الاجتماعى الطبقى يمثل محاولة متقدمة ( وليست كاملة ) لايمكن إنكارها في مجال العلوم الاجتماعية فهو لايحتاج فى كثير أو قليل للفلسفة المادية، لقد بدأ ابن خلدون فى استكشاف القوانين الاجتماعية الداخلية(مقدمة ابن خلدون) وقامت الماركسية بتطوير كبير على ذلك الطريق وما زال أمام العلم الاجتماعى طريق طويل، ومن السخف الاعتقاد بأن التحليل الاجتماعى الطبقى الماركسى هو آخر كلمة للعلوم الاجتماعية، ولعل أعمق جزء مما وصف بكونه مكونًا من مكونات الماركسية هو الجدل الهيغلى وهو فى الحقيقة مستقل تمام الاستقلال عن المادية وعن مكونات الماركسية الأخرى، أما الدعوة الاشتراكية فسيبقى وجهها الإنسانى النبيل الذى يهدف للقضاء على استغلال الإنسان للإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن لابد من البحث عن طريق آخر للوصول لتلك الأهداف النبيلة غير دكتاتورية البروليتاريا، والعنف الثورى، ونظرية الحزب اللينينية، فذلك الطريق هو الذى سقط مرة واحدة وربما إلى الأبد. _ لايمكن بالطبع التجمد عند الابن رشدية، كما لايمكنها أن تكون بديلاً فكريًا لعصرنا، ولكن يمكنها أن تكون مرجعية ذات أهمية بالغة بالنسبة لنا لما تحمله من دلالات متعددة : _ أولًا :_ إمكانية الجمع بين الفلسفة والتدين جمعًا حقيقيًا دون الدخول فى التناقض أو التلفيق . _ ثانيًا :_ بعث العقلانية العربية من مصادرها الأصلية وإطلاق الأمل بإمكانية توسيع مفاهيم الفكر الدينى وإخراج تياراته من الطريق المسدود. _ ثالثًا: _ جسر الهوة بين التيارات القومية والاشتراكية والتيارات الدينية وإيجاد نقطة ارتكاز لإعادة تشكيل الفكر العربى. تطوير الفكر العربى وإعادة تشكيله ليست مهمة بدون هدف ، فهذه الأزمات الخانقة التى تعصف بالتيارات السياسية العربية وتبقيها إما قليلة الجدوى أو كأنها حبيسة فى نفق مظلم لايمكن ردها فقط إلى الأنظمة الحاكمة، ففى مصر على سبيل المثال نجد أن الهامش الذي أتيح مرة من حرية الرأى والتعبير(على ضيقه) لم تستطع التيارات السياسية استنفاذه وبقيت الفجوة بينها وبين المجتمع، أن تحريض شرائح المجتمع الأكثر ثقافة لا يمكن أن يتم بدون رؤيا فكرية سياسية تشكل بديلاً مقنعًا، وإذا ابتعدنا عن زخم الأحداث السياسية اليومية وما تثيره من أمواج مؤقتة، نجد أن أصدق وصف للمرحلة الحالية هى كونها مرحلة انتهاء التيارات الفكرية التى سادت والفراغ الفكرى الذى يطرح إعادة تشكيل الفكر العربي .
المصدر: موقع ملتقى العروبيين