راغدة درغام
لا نعرف إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقف الآن على حافة الشراسة أو على حافة الاستدراك، أو أنه سيحاول الجمع بين النقيضين. الشراسة واضحة في معارك دونباس التي يعتزم بوتين أن تكون لمصلحته مهما كلف الأمر. أما الاستدراك فإنه قد يكون في طيّات عضوية السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) حيث خياراته تتقلّص، والوقت يداهمه، والناتو يطوّقه.
أوراق الرئيس الروسي النووية التكتيكية لا تزال في يديه، ولربما تلك هي “المفاجأة” التي تعدّها موسكو رداً على طلب هلسنكي واستوكهولم الانتماء إلى حلف الناتو، لكنها أوراق انتحارية ولا يبدو أن فلاديمير بوتين جاهز للانتحار، بعد. الواضح أن حرب بوتين على أوكرانيا ألغت حياد السويد وفنلندا، لأنها فجّرت الخوف من الغايات الروسية ودفعت الدولتين الى أحضان الناتو بهدف الحماية والحصانة الجماعية.
هذه الحرب قضمت من إنجازاتٍ روسية كان الكرملين يتباهى بها كتلك في سوريا. شراسة المعارك في دونباس بدأت تدفع بعض الدول إلى إعادة التموضع باتجاه تكتل الناتو وحلفائه، بتملّصٍ تدريجي من التعاطف مع روسيا للحفاظ على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية معها. في ضوء ذلك، قفزت إدارة بايدن والحكومات الأوروبية إلى فرص الاستثمار مجدّداً في علاقاتها مع الدول الخليجية العربية، بالذات الإمارات والسعودية، آملة سلخها عن الحياد في الحرب الأوكرانية وترغيبها باستعادة توطيد علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ومع حلف الناتو. أما مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن الغموض يكتنف مصير المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والصين وروسيا وطهران، فيما يتخبّط الكرملين بين حاجته الاستراتيجية لإيران وخشيته من استغلالها لانشغال روسيا بالحرب الأوكرانية وملء الفراغ باختراق إيراني بامتياز في مواقع مهمة مثل سوريا.
يتخبّط بوتين في سياساته وعلاقاته مع إسرائيل، لا سيّما بعد وضوح الرد الأميركي على رهان الكرملين على وهنٍ بنيوي من العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وبوهمٍ دفع إدارة بايدن للاختيار بين الأولوية الإسرائيلية والأولوية الإيرانية لإحراجها إسرائيلياً وأميركياً. فأين هو فلاديمير بوتين ذهنياً وصحياً وعسكرياً وسياسياً، وأين هي روسيا في هذا المنعطف في ضوء الحرب الأوكرانية؟
الروس يحبّون تدوين التاريخ والذكرى التاريخية وهم يضعون لأنفسهم أحياناً مواعيد مع التاريخ. يوم 12 (يونيو) حزيران هو اليوم الوطني لروسيا، وما تريده المؤسستان العسكرية والسياسية هو تحقيق نجاحات نوعية في الحرب مع الناتو في أوكرانيا – كما بدأت الأوساط الرسمية الروسية بوصف ما كانت تصفه بعمليات عسكرية في أوكرانيا.
شهر كانون الأول (ديسمبر) يشكّل موعداً مهماً للرئيس الروسي، لأنه تاريخ مرور مئة سنة على إنشاء الاتحاد السوفياتي الغالي على فلاديمير بوتين والذي كسر تفكيكه قلب الرئيس الروسي الذي لا يزال مقتنعاً بأن الغرب هو الذي سيتراجع أمام تصعيده، لا سيّما نووياً، فينتصر.
الخطورة تكمن جزئياً في إقناع فلاديمير بوتين نفسه بهذا المنطق، ومن جهة أخرى، إنه يكمن في ازدياد حشره لنفسه في الزاوية سويّة مع توسيع وتعميق حشر الناتو وحلفاء حلف شمال الأطلسي لفلاديمير بوتين في الزاوية.
الوقت يداهم الرئيس الروسي ويضغط عليه. صحياً، لا يزال الحديث عن احتمال إصابته بمرض السرطان يُهمَس وقد تُعرَف الحقيقة في الجزء الثاني من شهر حزيران (يونيو) بعد إجراء الفحوصات الضرورية. روسيا ليست كالدول الغربية إزاء إصابة على مستوى الرئيس بمثل ذلك المرض. عندئذ سيتصرّف نظام الحكم في روسيا على الطريقة الروسية ويتخذ القرارات، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، الرئيس الروسي يبدو في سباق مع الزمن عسكرياً وفي سباق مع قرارات حلف الناتو المتعلقة بالحرب الأوكرانية. قمّة الناتو الفائقة الأهمية التي ستعقد في مدريد في 29 حزيران (يونيو) و30 منه باتت موعد سباق للرئيس الروسي مع خياراته المتاحة والمحدودة بما فيها أوراقه النووية. فإذا كان في ذهنه إبراز قبضته الحديدية، أمامه فترة شهر للقيام بذلك. والكلام لا يستثني أوراق السلاح التكتيكي النووي، لا سيّما أمام التطورات المنتظرة في ساحة الحرب الأوكرانية.
فهناك كلام جديد عن تحوّل مهم في مواقف دول حلف شمال الأطلسي نحو اعتماد فرض حظر الطيران في أوكرانيا، الأمر الذي قاومته دول عديدة، بما فيها ألمانيا وكذلك الولايات المتحدة. فإذا حدث حقاً هذا التحوّل النوعي، فإن إمكان وقوع اشتباكات جوية مباشرة بين روسيا وحلف الناتو تصبح شبه مؤكدة وتفتح الباب على تطورات ضخمة في الساحة الأوكرانية والأوروبية برمّتها.
في الساحة الأوكرانية، يضغط عامل الوقت على روسيا لأن عملياتها العسكرية في الدونباس بطيئة، وقراراتها تتطلّب الشراسة حيث يدفع البعض في المؤسسة العسكرية إلى تصفية الجيش الأوكراني المحاصر في دونباس للانتهاء من العمليات العسكرية هناك. عنصر فرض حظر الطيران في أجواء أوكرانيا بقرار وأفعال من الناتو يفتح باباً جديداً على الحرب الأوكرانية واحتمال توسيع رقعة الانتقام الروسية بالذات في بلدان البلطيق – أستونيا، لاتفيا، وليثوانيا – ليس عبر الاحتلال المباشر بل من خلال التقزيم والشلّ والتحطيم.
أوروبياً، ليست وحدها عضوية السويد وفنلندا في حلف الناتو موضع اختبار لروسيا، بل إن بولندا هي في طليعة ساحات التوتر وإمكان توسيع الحرب الروسية – الغربية. فإذا قررت بولندا السماح للولايات المتحدة بنشر أسلحة نووية على أراضيها، فإن روسيا ستأتي بأسلحتها النووية إلى كالينينغراد التي تبعد مجرد 500 كيلومتر عن استوكهولم، وتحتوي على الصواريخ والقدرات النووية التكتيكية، وهي المنطقة الأكثر تسليحاً في روسيا.
المصادر الروسية أكدت أن موسكو حذّرت وارسو بأن الأسلحة النووية الأميركية يجب ألا تكون في الأراضي البولندية تحت أي ظرف كان، وأبلغتها أن موسكو ستأتي بالأسلحة النووية إلى كالينينغراد رداً على مثل تلك الخطوة. هكذا يصبح بحر البلطيق نووياً، علماً أن كالينينغراد تقع بين بولندا وليتوانيا، وستكون روسيا قادرة على تهديد أوروبا بصواريخ برؤوس نووية بسهولة من كالينينغراد.
فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف يدركان أنه فات الأوان على التهديد بإجراءات في حال انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، ولذلك يتجنبان التهديد المباشر ويبتلعان الحقيقة المرّة، وهي أن الحدود الجديدة لروسيا مع الناتو “ستحوّل بحر البلطيق إلى بحيرة حلف شمال الأطلسي”، بحسب تعبير مخضرم في العلاقات الروسية مع دول حلف الناتو. ويضيف هذا المخضرم أن الناتو سيكون قادراً، بعد انتماء فنلندا والسويد إليه، أن يضرب الحصار البحري على سانت بطرسبرغ كما على كالينينغراد المعزولة، والتي لا يمكن الوصول إليها براً بل حصراً جواً وبحراً، وهي النقطة الوحيدة المتبقية لروسيا على بحر البلطيق، وتُعدّ أهم قاعدة عسكرية لروسيا.
بوتين لم يكن يصدّق جديّة فنلندا والسويد، بل استهتر بإمكان انتمائهما للناتو، فأتته المفاجأة. فات الأوان على قدرة روسيا على أن تفعل شيئاً، لا سيّما بعد وضوح مشاعر الرأي العام السويدي والفنلندي بافتقاد ثقته بنيات روسيا بعد غزوها أوكرانيا. حتى تركيا التي تعارض عضوية السويد بصورة خاصة لأسباب ذات علاقة بحزب العمال الكردستاني PKK الأرجح أن تتغلّب على عقدتها البسيكولوجية مع احتضان السويد لهذا الحزب، وذلك إذا ما حصلت على مساعدات مادية تحتاجها بشدّة من الاتحاد الأوروبي، وإذا وافقت الولايات المتحدة على إعادة تركيا إلى برنامج الناتو لطائرات F-35 التي أخرجتها منها بسبب صفقة صواريخ S-400 الروسية لتركيا.
حتى إنجازات الرئيس الروسي التي تفاخر بها في سوريا باتت في المرتبة الثانية لحربه الأوكرانية، بل إن مصير الحرب الأوكرانية هو الذي سيقرّر مصير روسيا في سوريا. اليوم، انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا يجعلها غير مهتمّة بمن يملأ فراغ غيابها في سوريا، بل إن البعض في موسكو يرى فائدة لقيام إيران بملء هذا الفراغ.
فالتفكير في روسيا اليوم لم يعد استراتيجياً بل بات تكتيكياً بامتياز. وهذا يُطبَّق بالذات على العلاقات الروسية بكل من إيران وإسرائيل، وكذلك بـ”حزب الله” الذي ينفّذ أجندة إيران كما يمليها “الحرس الثوري” في لبنان، وبالذات ضمن موازين السياسة الإيرانية – الإسرائيلية.
المصادر الروسية تؤكد أن لدى إيران ضوءاً أخضر من روسيا لتتصرّف كما تشاء نحو إسرائيل، ليس فقط بسبب تدهور العلاقات الروسية – الإسرائيلية، بل أيضاً لأن موسكو تعتقد أن مواجهات إيران و”حزب الله” مع إسرائيل تخدم المصالح الروسية. لذلك أرسلت موسكو أسلحة متفوقة الى إيران لتتأكد طهران من إيصالها إلى “حزب الله” في لبنان. لماذا؟ وما هو منطق موسكو؟
ترى موسكو أن اندلاع أزمة بين “حزب الله” وإسرائيل سيجبر إسرائيل على الاستعانة بروسيا ومناشدتها للعب دور مع إيران للجم “حزب الله”، وللضغط على كليهما كي لا تتورّط أكثر. هذا المنطق الملتوي يبيّن كم انحدرت السياسة الروسية في زمن تقلّص نفوذها العالمي بل في زمن عزلتها. بالأمس كانت روسيا فاعلة في صنع القرارات الدولية الكبرى. أما اليوم فإن حدود نفوذها دولياً تتوقف عند الفيتو الذي لا تزال تمتلكه في مجلس الأمن وقدرتها على شل الأمم المتحدة. يتوقف دورها اليوم عند تسليح ميليشيات “حزب الله” للانتقام من سياسة إسرائيل نحو الحرب الروسية – الأوكرانية، بعدما كانت بالأمس القريب راعياً أساسياً لتطوير العلاقات الإقليمية.
الولايات المتحدة مستفيد كبير من الإخفاقات الروسية، والرئيس الأميركي جو بايدن بات قائداً يؤخذ بجدّيته بفضل أخطاء فلاديمير بوتين الاستراتيجية وحساباته التكتيكية الفاشلة. لم يتورط بايدن إسرائيلياً، والأرجح أنه لن يتورط كما أراد له بوتين عبر تملّصه من إسرائيل في ساعة الحشرة. حدث العكس، إذ إن الولايات المتحدة ستشارك في مناورات إسرائيلية واسعة النطاق لمحاكاة توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية في تعاون جوي أميركي – إسرائيلي غير مسبوق.
والسؤال هو: هل ستتمكن روسيا من تقديم المعونة العسكرية لإيران في حال اندلاع مواجهة عسكرية إيرانية – إسرائيلية مباشرة؟ الجواب هو لا، لأن روسيا لا تمتلك المال ولا الوقت للتورّط خارج أوكرانيا وأوروبا. وهل سيؤدّي توريط لبنان في حرب مع إسرائيل إلى مساعدة روسيا في حربها مع حلف شمال الأطلسي؟ بالتأكيد لا. فأين المنطق إذاً وراء قصر نظر السياسات الروسية؟ إنه التخبّط الاستراتيجي الذي يتحكّم بالقرارات الصادرة من الكرملين… والمرعبة.
الهجمة الودّية الأميركية والأوروبية، على الدول الخليجية العربية لها دلالات فائقة الأهمية تصبّ في جزءٍ منها في الحرب الروسية مع الدول الغربية وتداعياتها النفطية والجيو – سياسية. إنها خطوات مدروسة تسعى لإصلاح ما سبقها من اعتباطية في السياسات الغربية، بالذات الأميركية، نحو الدول الخليجية العربية.
هذه ليست ساعة الحزم والحسم بما ستتطوّر إليه الأمور في الحرب الأوكرانية، أو في الخيارات الروسية في الحرب مع حلف شمال الأطلسي، ولا هي ساعة النصر للغرب أو الفشل الاستراتيجي لروسيا، بعدما وقع فلاديمير بوتين في مصيدة الاستدراج لتطويق روسيا بدول حلف شمال الأطلسي.
فلاديمير بوتين يقف على شفير الشراسة وحافة الاستدراك. الوقت يداهمه والعالم يحبس أنفاسه في الانتظار.
المصدر: النهار العربي