سمير صالحة
بقدر ما يعتبر التصعيد التركي في مواجهة عضوية السويد وفنلندا داخل حلف شمال الأطلسي “الناتو”، محاولة من قبل أنقرة لاقتناص أكثر من فرصة سياسية وأمنية واستراتيجية قبل إعطاء موافقتها، يقدر ما يوصف الاستعجال الغربي وتحديدا الأميركي في قبول عضوية البلدين، محاولة التفاف على موقف تركيا وشروطها ومطالبها وإلزامها بالضوء الأخضر الذي تريد واشنطن والأمانة العامة للحلف إشعاله أمام هلسينكي وستوكهولم لتضييق الخناق الجيوسياسي على روسيا.
تركز أنقرة في استراتيجية تحديد شروطها ومطالبها حيال رغبة السويد وفنلندا الالتحاق بحلف شمال الأطلسي على نقطتين أساسيتين: الأولى هي مطلب وضع التنظيمات الثلاث التي تصنفها إرهابية “حزب العمال الكردستاني” ومجموعات “الكيان الموازي” التابعة لفتح الله غولن وعناصر قسد ومسد ووحدات الحماية في شرق الفرات في سلة واحدة، والتعامل معها على هذا الأساس من قبل حلفاء الأطلسي. والثانية هي ضرورة دعم دول الناتو لخطة المنطقة الآمنة التي تريد تشكيلها على طول الحدود التركية السورية المشتركة وتفعيل هذه الخطة دوليا وأمميا.
تغيرت وظيفة المنطقة الآمنة التي تتمسك تركيا بها منذ 9 سنوات من منطقة عازلة توقف موجات اللجوء باتجاه أراضيها، وتمنع قوات النظام وحلفائه من استهدافها بدعم دولي. إلى منطقة آمنة تريدها في إطار خطة تسهيل عودة مئات الآلاف من السوريين الموجودين فوق أراضيها إلى بلادهم برعاية وتمويل وإشراف دولي. لم تلق أنقرة آذانا صاغية تسهل تفعيل الخطة. لا بل وجدت نفسها وسط أزمة تقسيم الشمال السوري إلى منطقتين تشكلان عقبة جغرافية وسياسية وأمنية ومالية أمام ما تريد. فرصة طرح موضوع عضوية السويد وفنلندا لا يمكن التفريط بها إذن. لأنها تجمع كل هذه المطالب وتضعها في سلة تفاوض واحدة، مع حلفاء وشركاء الأطلسي الذين لا يتعاملون بجدية مع ما تقوله بشأن الملف السوري وتحديدا في الشمال. ما تريده أنقرة من واشنطن لا يقل أهمية عما تريده من ستوكهولم وهلسينكي. تبدل في الموقف الأميركي حيال مجموعات قسد، دعم خطة توسيع رقعة المنطقة الآمنة باتجاه الخط الحدودي والعمق السوري أو تسهيل قيامها بعملية عسكرية جديدة تنهي العقدة في شرق الفرات لتعلن ولادة منطقة بطول 470 كلم وعمق 30 كلم تزيل أكثر من أزمة سياسية وأمنية واقتصادية تواجهها حكومة العدالة والتنمية مرتبطة بالملف السوري وأجواء الداخل التركي وتهدد فرصها الانتخابية مع اقتراب موعد الذهاب إلى الصناديق.
تحريك أنقرة لموضوع المنطقة الآمنة بهذا الشكل الواسع في حوارها الجديد مع شركاء الأطلسي لا يمكن فصله أيضا عن الأنباء التي أشارت إلى قرار أميركي رفضه الرئيس التركي على الفور، واعتبره وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو خطوة انتقائية تهدف لشرعنة حزب العمال ووحدات الحماية، ويهدف لإعفاء مناطق في شمال شرقي سوريا من العقوبات وتسهيل مشاريع إعمار وتنمية واستثمار فيها من قبل الشركات العالمية. كما أن رسائل “الغزل” التركي الروسي التي لا تتوقف حول أكثر من ملف ثنائي وإقليمي تسعى أنقرة لتجييرها إلى فرص مناورة بينها مطلب موسكو الأخير بإلغاء قرار حظر استخدام الطائرات العسكرية الروسية للأجواء التركية باتجاه سوريا. النقلة الجديدة التي ستقرب تركيا وروسيا مرة أخرى هي ملف بقايا تنظيم داعش وضرورة حسمه كورقة سياسية عسكرية تضعها واشنطن بيد حليفها الكردي في سوريا لتبرر من خلالها أسباب دعمها لهذه المجموعات. جاويش أوغلو بحث الموضوع مع نظيره الأميركي حتما في لقاء واشنطن الأخير. لكنه لن ينتظر مطولا الرد الأميركي إذا ما وجد خيارات وبدائل تعرضها موسكو على أنقرة لحسم الملف. هل تنجح أنقرة في الوصول إلى ما تريده مع بايدن كما فعلت مع سلفه ترامب الذي عارض تحركاتها في شمال شرقي سوريا قبل 3 أعوام ثم عاد وبدل رأيه فاتحا الطريق أمام عمليتها العسكرية؟
تدرك القيادة السياسية التركية حجم الصعوبات التقنية والقانونية والمالية التي تقف في وجه مشروع المنطقة الآمنة الذي يحتاج إلى تنسيق وتعاون وتفاهمات إقليمية ودولية. لكن ما يقوي الموقف التركي أكثر فأكثر اليوم ويقرب احتمالات الوصول إلى ما تريده تركيا في شمالي سوريا، هو ليس فرص الحرب الروسية ضد أوكرانيا فقط، بل تراجع سيناريو احتمال حدوث تفاهمات أميركية روسية في المشهد السوري على حسابها. وتراجع المقولات التي كان النظام يروج لها بدعم إيراني حول أن الخطة التركية في الشمال تمهد لاقتطاع المنطقة وسلخها عن الأراضي السورية في حين أن أنقرة تدعو المجتمع الدولي للإشراف على هذه الخطة التي تمهد لمرحلة انتقالية سياسية تبعد شبه التقسيم والتفتيت عن سوريا.
بقي أن نرصد مرة أخرى الموقف الأميركي حول المطالب التركية وأي موقف ستعتمده واشنطن حيال المطالب التركية. هل ستواصل الاستماع إلى ما يقوله الشركاء في شرق الفرات أم ستتعامل بليونة جديدة مع ما يريده الحليف تحت مظلة الناتو؟
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يردد قبل سنوات أن أنقرة قادرة بمفردها على إدارة شؤون المنطقة الآمنة في شمالي سوريا لكنها تفضل أن يكون ذلك بالتشاور والتنسيق مع واشنطن وموسكو. وأعلن وزير الخارجية التركي قبل مدة عن مبادرة إقليمية تبحث بين تركيا والعراق والأردن ولبنان بهدف تسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى بلادهم. لا أحد يعرف تفاصيل الخطة بعد وهل الهدف هو إنشاء مناطق آمنة مشابهة على الحدود المشتركة لهذه الدول مع سوريا. لكن الواضح اليوم هو أن أنقرة في وضعية الراغب بالاستفادة من ملفي الحرب الأوكرانية ومسألة عضوية السويد وفنلندا في الأطلسي وتجيير ذلك إلى فرص سياسية واستراتيجية في الملف السوري ويمنح حكومة العدالة والتنمية الكثير من النقاط التي فقدتها في شق اللجوء تحديدا، وهي تستعد لانتخابات برلمانية ورئاسية بعد عام. سيناريو جديد تفجر مؤخرا على ضوء عملية إعادة التموضع العسكري الروسي في سوريا وأسبابه. هل تريد موسكو هنا فتح الطريق أمام الميليشيات المحسوبة على إيران لتتمدد وتنتشر أكثر فأكثر مقتربة من الحدود السورية – الإسرائيلية؟ وهل ستفعل موسكو ذلك في الشمال أيضا لتوتير العلاقات التركية الإيرانية؟ لمن يقدم الكرملين مثل هذه الخدمات هنا للإيرانيين أم للإسرائيليين أم للأتراك؟ كيف ستأتي انعكاسات كل ذلك على خطة المنطقة الآمنة التي تريدها أنقرة؟
نشرت وكالة أنباء “سانا” بيانا نسب إلى الخارجية السورية في دمشق ترفض فيه التصريحات التركية حول إنشاء منطقة آمنة وخطة تسهيل عودة مليون لاجئ إلى بلادهم. ودعا البيان الدول التي “زجت بنفسها في تمويل هذه المشاريع الإجرامية بالتوقف فورا عن دعم النظام التركي”. أجمل ما في البيان هو ليس الحديث عن المقاومة التي يبديها النظام وأعوانه للدفاع عن وحدة وتماسك البلاد! بل الإشارة إلى المشاريع الإجرامية! التي ينفذها بعضهم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا