لم يطلق النار على أحد ولكنه استشهد، تلكم هي الحرب تدور بنا على نفسها، وتحسن اصطيادَ الأرواح الجميلة والنقية.
في حي جوبر الدمشقي كان رامي هو الفتى المدلل الذي يحبه جميع أقرانه, الكل يريده في فريقه ضمن أي لعبة شعبية كان يلعبها الأطفال في ذلك الحين, كان جميلاً ومهذباً والجميع يخجل أمامه وكأنه الفتاة ضمن ثلة من الصبيان المشاكسين, ومع ذلك كان يحسن توزيع وقته بيننا وكأنه يمنح الجميع حصةً منه, لا أعرف ماذا يسمى هذا الحب بين الأولاد, ولكنه لم يخلو من رغبة في التملك والاستحواذ.
كان والده ضابطاً في الجيش, يوصله إلى المدرسة بالسيارة الجيب, ويوصينا دائماً بلكنته الحمصية الجميلة ” ديروا بالكن ع بعض يا حلوين”, لم نكن في حينها ندرك معنى أن تكون ابن ضابط إلا عندما يكون هناك اجتماع لأولياء الأمور ويصبح تحابي المدرسين مع والد رامي أشبه بتحابي العبد لسيده ومع ذلك فأبو رامي لم يكن من طينة من تستهويه هذه المحاباة فقد كان أكثر تحابياً وتواضعاً لكنه لم يتخلى يوماً عن بدلته العسكرية في مثل هذا النوع من الزيارات .
ربطتني برامي علاقة وثيقة كنت أغبط نفسي عليها, فقد أصبحت أقرب الأصدقاء إليه في الحي وهذا منحني بعضاً من جاذبيته التي جعلت الآخرين يتقربون مني بنفس الطريقة التي يتقربون بها من رامي, كنت أعلم في قرارة نفسي أن تقربهم مني له علاقة برامي ولكن ذلك كان يزيد من ثقتي بنفسي أكثر, وكان أجمل شيء حدث لي في حينها عندما اعترف لي رامي أنني من أعز الأصدقاء بالنسبة له, حدث هذا في الصف الثامن, كان يومها مرتبكاً كما لم أعتد عليه يوماً, يحملُ سراً بين ضلوعه يريد أن يبوح به, قال لي:
- بتوعدني إزا قلتلك السر إنو نضل رفقات وإنك ما تقول لحدا
وهذا بعد.. كان من أكثر الأشياء التي أسعدتني, إنه يخشى على صداقتنا ..!
- طبعاً
صمت قليلاً وقالها بقلق واضح ( أنا علوي)
لا أعلم لماذا ضحكت حينها مع أنني لم أفهم شيء, وأعتقد أنها المرة الأولى في حياتي التي برزت بها هذه الكلمة أمامي (علوي), لم يسبق لأحد في العائلة أن لفت انتباهي إلى مفردات من هذا النوع ولا أعتقد أن جميع أقراننا في الحي كان لديهم أدنى فكرة عن معنى كلمة علوي, بحكم العمر أولاً ولأنه ليس موضوعاً للنقاش عند أحد ثانياً, لكنها لم تبدو كذلك بالنسبة لرامي.
اختار رامي الانضمام إلى الكلية الحربية بعد الثانوية العامة, وهذا ما اعتادت عليه أغلب العائلات من الطائفة العلوية في سورية التي خصها النظام بأن تكون ركيزة حكمه, فيصبح أكثر طموح شائع لديهم إما الأفرع الأمنية وإما الجيش ودون ذلك فهم في خطر محدق ومشكلة وجودية لم ينج من وهمها حتى العلويين الذي كانوا يعيشون في بيئات مختلطة وتبين لهم كذب الدعاية التي تنهش في العقول الخائفة, ومع أن رامي لم يكن من أولئك الذين أثرت فيهم دعاية النظام كونه ترعرع في دمشق إلا أنه اختار أن يكون ضابطاً مثل أبيه الذي مر على وفاته حوالي السنة في حينها.
صادفته أولَ مرةٍ في الطريق وهو عائد من الكلية الحربية ببدلته العسكرية, كان قد غطى وجهه الأبيض سمرةً أسبغتها شمس التدريبات القاسية, عانقني كمن يريد أن يشعرني بالقوةِ التي اكتست جسده, نعم هو لم يعد ذلك الفتى الجميل الذي كنا نتبارى لنحتاز وده, لقد أصبح حضرة الملازم.
بدا حضرة الملازم أكثر تكلفاً في تصرفاته مع أبناء حارته في بداية مسيرته العسكرية وكأنه قرر أن يختط دوراً جديداً يتناسب مع مركزه, لكنه رويداً رويداً عاد لحالته المدنية وعدنا لسهرات الأساطيح والجلوس أمام المنازل حتى بزوغ الفجر, وأثناء ذلك بدأنا نلاحظ اللكنة الساحلية التي بدأت تغزو مفرداته, والتي كانت هي اللكنة الأمنية بطبيعة الأحوال, فليس عليك أن تكون من القرداحة كي تتكلم بها .
لم تخلو شخصية رامي الضابط من ثقافة متواضعة بدأ يشكلها وكانت بالنسبة لي جيدة ومقنعة في كثير من الأحيان, حدثني مرةً عن الخوف الذي يراه في عيون الناس عندما يركب السرفيس مرتدياً بدلته العسكرية أو عندما يكون واقفاً أمام طوابير الخبز, وبدا له الأمر غريباً, لكنه كان مقتنعاً أن النظام استطاع أن يخيف الناس من أي شيء يخص العسكر, وهذا ما حدا به في الفترات التي تلت تخلصه من زهوه العسكري بأن يخلع البدلة عندما يخرج من القطعة العسكرية وكما قالها لي , “هيك بحس حالي رجعت للناس”, وكثيراً ما كان يحتد للفساد المستشري في المؤسسة العسكرية, الضابط الذي يرشو ضابط آخر من أجل استعمال عساكره في بناء فيلا أو بيت, العساكر التي تدفع الرشاوي من أجل “التفييش” والمؤامرات والدسائس وغير ذلك, وبدأ مع الوقت يشعر بالحزن لانضمامه إلى سوق الحرمية كما أصبح يسمي الجيش فيما بعد, وبدأ يتشكل لديه يقين كامل بضرورة الاستقالة من مؤسسة الجيش لأنها لم تكن على مثال الصورة التي شكلها في رأسه من خلال اعتزازه بوالده, لكن الاجراءات المعقدة والتهم الجاهزة للذين يريدون الاستقالة من خدمة الوطن وطول فترة الرد على طلب الاستقالة جعلته يتخلى عن فكرته.
بدأت الثورة السورية في درعا وانتقلت شعلتها إلى دوما, بينما كانت مدينة جوبر حينها في سُبات صادم, وخلال الأشهر الأولى من الثورة عادت الكثير من جثامين شهداء لعساكر من أبناء سكان جوبر بجنازات مهيبة, ممن ادعى النظام أنهم قتلوا على أيدي الارهابيين في درعا وحمص, ويبدو أنها كانت خطة ممنهجة لتحييد المدينة التي تعتبر صلة الوصل بين الريف والمدينة واقناع سكانها أن أبناءها سقطوا وهم يواجهون المؤامرة التي تستهدف الدولة, كان من الواضح أن رامي الذي أصبح رائداً في حينها قد زادت غياباته, وعندما التقيته كان كثير التوتر والقلق وقد أعرب لي عن قلقه على أمه وأخته وأنه يجب أن ينتقل من جوبر, ومع أني حاولت تهدئته أن ما يحدث لا يقلق طائفياً وأن الشعارات المرفوعة هي شعارات وطنية, استغرب نبرتي واستدرك أني أؤيد الثورة, فسألني إن كنت أعتبر أن ما يحدث ثورة وأجبته أنه من الطبيعي ضمن مؤسسة الجيش أن تصور لَك الأحداث على أنها مؤامرة لكن ما يحدث هو ثورة حقيقية, ثم قال لي بالحرف الواحد: ” نعم قد تكون ثورة, لكن الأمور لن تذهب كما يشتهي الناس نحن لسنا مصر ولا تونس, طريق التهريب بين حمص ولبنان متروكاً الآن دون أي رقابة وأنا أعلم حجم الأسلحة التي تدخل عبر الحدود, ولا يوجد شرطي جمارك واحد كي يوقفها, النظام يريد للسلاح أن يدخل إلى حمص نحن ذاهبون إلى مذبحة لن ينجو منها أحد”
حدث ما كان يقلق رامي, أتذكر هذا اليوم جيداً, كانت جوبر قد بدأت تتجه نحو التسليح على شكل جماعات عائلية مسلحة لم نعلم حينها كتنسيقية جوبر من أين وصل سلاحها, كعائلة ادريس, والأفيوني وغيرها من العائلات الكبيرة التي وجدت في الثورة فرصةً للتخلص من المستأجرين ضمن عقود الإيجارات القديمة المجحفة بحق المالكين من هذه العائلات, ظناً منهم أن الثورة السورية سوف تنتهي كما انتهت الثورة المصرية والتونسية, وسينتهي معها الوضع القانوني الذي ثبت الناس في هذه البيوت, وتحت شعار إخلاء جوبر من كل طائفة لا تنتمي إلى الطائفة السنية اقتحم مجموعة من المسلحين بيت رامي, ولم يكن رامي حينها في البيت, وقام المسلحين بإصدار أمر الإخلاء إلى والدته , والجميل في حينها تصدي سكان الحي لهؤلاء الرجال وطردهم ونعتهم بأنهم عار على الثورة, حتى أن هناك مجموعة من شباب الحراك المدني في جوبر قام بتدمير الحاجز الذي وضعه هؤلاء المسلحون في منتصف الشارع, ومع ذلك لم يعد الوضع مُطَمئناً بالنسبة لوالدة رامي التي أخذت ابنتها وتركت الحارة رغم استجداء جميع الجيران لها بأن لا تفعل ومنذ ذلك الوقت لم أعد أرى رامي في جوبر.
خرجتُ من جوبر في أواخر عام 2012, كانت البلاد تسير على خارطة الاحتراق والتدمير ولا شيء سيوقف هذه الهمجية والبربرية التي وضع النظام بذورها في الغوطة الشرقية من خلال ترسيخ الاسلاميين الذين أخرجهم من السجون, وقضائه على كل أشكال الحراك المدني واعتقال قياداته, ولكن النفس السلمي الأخير كان لا زال يشتعل هنا وهناك.
بكى رامي عندما التقيته صدفةً بعد سنة وخمسة أشهر في أحدِ مقاهي دمشق, وبدأ يسألني عن كل سكان الحي “كيفو أبو فلان” وانا أقول استشهد, فيكفهر , ثم يعود ويسألني “وأبو فلان” وأنا أقول استشهد, ولا زال غير مصدق حتى أخبرته عن أبو فهد, الرجل خفيف الظل والمحبوب من جميع أهالي الحي, وعندما علم باستشهاده صار يكرر
- أبو فهد؟! .. لك أبو فهد يا الله
بكى بكاءً مراً وهو يحاول أن يؤكد لي أن سكان جوبر هم أهله, وأن جوبر جزء حيوي من ذاكرته وكأنه يشعر أنني أشك في كلامه ثم بدأ يحلف لي أنه لم يطلق النار على أحد ولم يرفع سلاحه في وجه المدنيين, كنت مدهوشاً وخائفاً عليه للحد الذي طلبت منه أن يصمت خشية تواجد أي من عناصر الأمن الذين ملأوا العاصمة دمشق , كنت سعيداً به وهو الذي ينتمي إلى مؤسسة النظام أنه لا يصدق شيء من اعلام النظام الذي أتحفنا بمعجزات الكوميديا الاعلامية التي تريد أن تثبت أن هناك مؤامرة رأسها في المريخ وآخرها في الزهرة تريد أن تنال من الدولة السورية.
كان رامي لازال برتبة رائد عندما تسلم مركزاً قيادياً لحماية المنشآت النفطية في مدينة عدرا العمالية في أواخر عام 2013, أخبرني لاحقاً أنه تم فرزه إلى عدرا لكي يتخلصوا منه في جبهات القتال لاعتراضه الدائم على القصف العشوائي الذي عايشه في حمص وعايشه في المليحة وهنا سأروي حادثتين كما أخبرني عنهما بنفسه.
الأولى هي دخول عناصر جبهة النصرة مع بداية العاصفة الثلجية في كانون الأول من عام 2013 إلى مدينة عدرا العمالية, ومن المعلوم أن عدرا العمالية تشكل تقاطع اوتسترادات من و إلى الغوطة ودمشق وحمص والعراق, وبطبيعة الأحوال هي طرق مراقبة بشكل كبير, ومن غير المنطقي أن تتفاجأ بهجوم يجتاح عدرا خلال ساعات الصباح الأولى, لقد تُركت عربات وعناصر جبهة النصرة تدخل دون أي مقاومة تذكر, وبالفعل دخلت جبهة النصرة وارتكبت العديد من الفظائع من قتل واختطاف وحرق لكل الذين ينتمون إلى طائفة النظام الدينية أو حتى المؤسساتية, والذي أكده لي رامي في حينها أنه عندما استقدموا وحدات من القوات الخاصة ونالت هزيمة ساحقة على أيدي جبهة النصرة, كانت تلك الوحدات الخاصة هي من الشباب الذين تخلفوا عن خدمة العلم و تم سوقهم حديثاً من الطرقات, أي أن أكثرهم خبرة, تعامل مع السلاح منذ شهرين أو أكثر قليلاً, لأن النظام وبحسب رامي كان يريد أن تبقى المدينة العمالية شاهدة على حالة من نزوح الأهالي وعمليات الخطف والقتل التي استغلها النظام في مؤتمر (جنيف 2) الذي تلا دخول جبهة النصرة لعدرا بحوالي الثلاثة أيام.
أما الثانية فقد كنت أنا وأغلب سكان دمشق وضواحيها شاهدين على نتائجها وهي توافر المحروقات وجرات الغاز بأسعار مقبولة أثناء استلامه لمهامه في عدرا, فقد حدث أن ارتفعت أسعار المحروقات بشكل غير مسبوق في أواخر عام 2013 وخاصة جرة الغاز التي وصل سعرها في حينها إلى 4000 ل.س هذا إن وجدت, وبحسب ما أخبرني رامي أنه عندما تسلم مهامه في عدرا تبين له كذب الدعاية الاعلامية للنظام التي كانت تقول أن المسلحين ينهبون الشاحنات النفطية وسيارات الغاز المنطلقة من عدرا إلى دمشق, وراح يُوَصِف لي طرق النهب, حيث يتم إحداث حُفَر كبيرة في أماكن تعبئة الصهاريج ويبلغ مدى كل حفرة سعة 100 ليتر, ومن ثم يتم اهدار المحروقات على الأرض أثناء تعبئة الصهاريج فتسيل تلك المحروقات إلى هذه الحفر ثم يتم تجميعها مرة أخرى داخل براميل لبيعها لحساب الضابط الفلاني أو رئيس المفرزة الفلانية, ويتم تسجيلها على أنها هدر بسبب خلل فني في بنية المؤسسة, وكان أول ما فعله رامي أن قام بردم تلك الحفر وإغلاق الصنابير التي حُفرت في جدران خزانات النفط, وتحويل جميع العساكر الذين ضبطت معهم مبالغ طائلة من خلال عملهم ببيع المحروقات إلى المحكمة العسكرية, وبعد سيطرة جبهة النصرة على المدينة العمالية لاحظ أن سيارات الغاز تتجه إلى طريق اوتستراد الغوطة المسيطَر عليه من قبل جبهة النصرة, وعندما التقيته أخبرني كيف يتم تفريغ الحمولة لدى من تعتبرهم السلطات أنهم الارهابيين الذين روعوا سكان عدرا, وعندما قرر رفع المعلومات إلى وزير الدفاع جاءه مدير المحروقات في مكتبه ينصحه أن هذا الأمر أكبر منه, وأن وزير الدفاع لن يحل أو يربط في هذا الموضوع وأن من الأفضل له أن يبقى في مكتبه ولا يتحرك منه وسيصله في كل يوم مئة ألف ليرة, وهذا ما رفضه رامي مدافعاً عن شرفه العسكري الذي لا زال متمسكاً به بالمعنى الوطني للكلمة, وهو ما جعله في آخر مرةٍ رأيته بها, أكثر قلقاً وتوتراً وهو يخبرني عن رسائل تهديد تأتيه على أنها قادمة من عناصر في الجيش الحر, وقد كان على يقين أن الأمر غير ذلك بسبب أن التهديدات كانت تخبره باسم زوجته وابنه والمكان الذي يعيش فيه في ضاحية قدسيا, أقلقني الأمر أنا الآخر للحد الذي رجوته أن يتغاضى عن هذه التجاوزات التي تبدو صغيرة أمام كل ما يحدث لكنه لم يستمع.
قتل رامي على يد مجموعة من المسلحين على طريق عدرا بعد أسبوع من لقاءنا الأخير، أو هكذا تم إخبار زوجته من قبل جهاز أمن الدولة.
قد تبدو قصة رامي قصةً سورية عادية جداً أمام هول الدماء والوحشية وحصارات الجوع والروح التي يعيشها السوري في كل بقعةٍ على هذه الأرض, لكن يمكننا أن نعتبر انتماءه للطائفة العلوية التي أوقَع النظام ضميرها تحت سلطته, هي ما كان يدفعه لتجاوز الاشكالية الأكبر في حياته, وهو أنه كان يخشى من أن انتقاده لكل التجاوزات التي كانت تحصل كانت بدافع الحصانة الطائفية التي يمتاز بها ويريد تجاوزها في آن, وكان يعلم في داخله أن تجاوزها لا يتحقق إلا بموته .
لقد غادر رامي .. الفتى المدلل والجميل .. الذي أحبه كل أقرانه في حي جوبر الدمشقي… وأحبهم حتى الموت.