هارون ي. زيلين
أصبحت «هيئة تحرير الشام» أول جماعة جهادية تدعو الولايات المتحدة إلى شطبها من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. ولكن الأولويات الاستراتيجية والعوامل السياسية والجمود المؤسسي تجعل من الصعب إزالة جماعة معيّنة من القوائم الحكومية الأمريكية للجماعات الإرهابية حتى لو أن هذه الجماعة لم تعد تفي بمعايير التصنيف، مما قد يؤدي إلى إرباك صناع السياسة في الولايات المتحدة.
شكّلت «هيئة تحرير الشام» سابقة فريدة من نوعها في العام الماضي عندما أصبحت أول جماعة جهادية تدعو الولايات المتحدة بجدية إلى شطبها من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. ففي مقابلة مع مارتن سميث من قناة “بي. بي. إس فرونتلاين” في شباط/فبراير 2021، اعترض زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني على تصنيف المنظمة [على قائمة الجماعات الإرهابية]، واصفاً ذلك بأنه “تصنيف غير عادل”. وتابع: “إنها تسمية سياسية لا تحمل أي صدق أو مصداقية، لأنه خلال رحلتنا التي استمرت 10 سنوات في هذه الثورة، لم نشكل أي تهديد للمجتمع الغربي أو الأوروبي: لا يوجد تهديد أمني، ولا تهديد اقتصادي، ولا أي شيء آخر. لهذا السبب تم تسييس هذا التصنيف. ندعو الدول التي اتخذت هذه الإجراءات إلى مراجعة سياساتها تجاه هذه الثورة”.
صحيحٌ أن «هيئة تحرير الشام» قد تغيرت قليلاً منذ تأسيسها في كانون الثاني/يناير 2012؛ وعلى وجه الخصوص، انفصلت عن تنظيم «الدولة الإسلامية» في نيسان/أبريل 2013 وعن تنظيم «القاعدة» في تموز/يوليو 2016. ولكن هناك عدداً من العوائق المحتملة التي تواجهها «هيئة تحرير الشام» فيما يتعلق بقيام الحكومة الأمريكية بشطبها بالكامل من قائمة التصنيف، وهي عوائق خارجة عن سيطرة التنظيم. وهناك ثلاثة أسباب لعدم احتمال حدوث ذلك في أي وقت قريب: الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، والاعتبارات السياسية لوزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين، والجمود المؤسسي العام. وتُعد هذه القضايا مقبولة بالنسبة للسياسة الأمريكية في الوقت الحالي، حتى لو لم تكن مثالية. ولا تزال «هيئة تحرير الشام» تستوفي العتبة القانونية للتصنيف [على قائمة الإرهاب]، على الرغم من أن القضية قد أصبحت أضعف بكثير مما كانت عليه في السابق – ولكن إذا تغير ذلك، فإن هذا التغيير قد يعرقل جهود السياسة المستقبلية الهادفة إلى تقويض الدول المعادية في الساحة السورية، بما فيها نظام الأسد، وروسيا، وإيران، وشبكة وكلاء إيران.
نشأت «هيئة تحرير الشام» باسم «جبهة النصرة»، وسعت لأن تكون ركيزة أخرى من ركائز الحركة الجهادية العالمية – على الرغم من أنها تعلّمت دروس فشل الجهاد في العراق قبل أكثر من عقد من الزمن. واليوم، تسعى «هيئة تحرير الشام» إلى بناء شرعيتها في الأوساط المحلية التي تسيطر عليها في شمال غرب سوريا. وحدثَ هذا التحول نحو التركيز المحلي بشكلٍ تدريجي، حيث تغيّرت الديناميكيات في الحرب الأهلية السورية وانفتحت الانقسامات الاستراتيجية والأيديولوجية بين الجولاني وقيادة حلفاء «هيئة تحرير الشام»، أولاً مع تنظيم «الدولة الإسلامية» ثم تنظيم «القاعدة» لاحقاً. وهذا ما يجعل «هيئة تحرير الشام» معقدة للغاية من منظور السياسة الأمريكية: فقد تنصلت من الجهاد العالمي ولكنها تحتفظ بآراء متطرفة وتعمل كنظام استبدادي في المناطق التي تسيطر عليها. وإذا فتحت الجماعة بجدية نظامها السياسي الذي كان محصوراً بزمرة النخبة من الرجال وتنصلت من إرهاب «حماس» أو الهجمات المتعلقة بحالات التجديف المزعومة في الغرب، فمن المحتمل أن توفر نقطة انطلاق حقيقية لواشنطن لأخذ طلبات الجولاني على محمل الجد.
من وجهة نظر الحكومة الأمريكية، فإن إعادة النظر في مكانة «هيئة تحرير الشام» كجماعة إرهابية لا تشكل أولوية. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، حدثَ تحولٌ في تركيز واشنطن ومواردها تجاه القضايا المتعلقة بالحركة الجهادية. فلم تعد تتصدر جدول الأعمال، كما كانت لفترة دامت ما يقرب من عقدين من الزمن. فمع توجُّه المؤسسات نحو المنافسة مع الصين وروسيا، أصبح نطاق المجهود المخصص للتعامل مع المسائل المتعلقة بالإرهاب أضيق نطاقاً. بالإضافة إلى ذلك، حتى في مجال مكافحة الإرهاب نفسه، تُعتبر «هيئة تحرير الشام» ذات أولوية منخفضة بشكل خاص. أما تنظيمي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة» فلهما الأسبقية، لأنه يُنظر إليهما على أنهما جهتا تهديد فعليتان يمكن أن تضرا بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وأمنها بشكل مباشر. ومع ذلك، تحوّلت «هيئة تحرير الشام» نحو محاربة نظام الأسد وحلفائه في سوريا فقط، وتنصلت من العمليات الخارجية؛ وقد قلل ذلك من المخاطر من وجهة نظر الولايات المتحدة. ومن نواحٍ عديدة، أدى تحوّل «هيئة تحرير الشام» بعيداً عن الأجندة المناهضة للولايات المتحدة إلى جعل الجماعة أقل أهمية للسياسة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن القرارات بشأن تصنيفات الإرهاب تستند إلى الحقائق، إلّا أن إخراج جماعة من القائمة يمكن أن يكون مثيراً للجدل ويُنظر إليه على أنه قرار سياسي، خاصة إذا ظلت الجماعة نشطة. وقد وفّر الجدل حول شطب الحوثيين اليمنيين المدعومين من إيران، حتى مع استمرارهم في شن هجمات إرهابية ضد السعودية والإمارات، قدراً وافراً من الوقود لمعارضي سياسات إدارة بايدن. وبالطبع، لا يريد أي شخص في الحكومة الأمريكية أن يُنظر إليه على أنه متساهل مع الإرهاب، والطريقة التي تضخم بها وسائل الإعلام المتحالفة مع الحزب الجمهوري الانتقادات المتعلقة بالأمن يمكن أن تخلق قضايا سياسية داخلية للديمقراطيين، كما تبيّن مع المسرحية السياسية المرتبطة بالهجوم على المنشآت الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي، ليبيا عام 2012.
وقد أعرب لي أشخاصٌ من الحكومة الأمريكية أيضاً عن مخاوفهم من أنه حتى لو تحوّلت جماعة مثل «هيئة تحرير الشام» [من منظمة إرهابية]، فإنهم ما زالوا قلقين من احتمال عودة [هذه] الجماعة إلى اتباع تكتيكات التمرد والإرهاب إذا قرر نظام الأسد وحلفاؤه استعادة الأراضي التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام». وستصبح هذه الجماعة بلا أراضي، ولن تكون قادرة على استخدام بناء الدولة كشكلٍ من أشكال الشرعية البديلة. ويرى الأشخاص الذين تحدثتُ إليهم في الحكومة الأمريكية أنها فرصة محتملة لارتباط «هيئة تحرير الشام» مجدداً بتنظيم «القاعدة» – وإن يبدو ذلك غير مرجح من وجهة نظري. ويتم استقراء هذه الافتراضات من الكثير من التساؤلات عن نتائج الأحداث المحتمَلة، ولكنّ التخطيط الجيد في مجال السياسات لا يعتمد على سيناريوهات أفضل الحالات ويحتاج إلى مراعاة أسوأ المخاطر السياسية ورد الفعل العكسي.
وهناك عواقب لهذه الاعتبارات السياسية. وإحدى هذه التداعيات هي الجمود المؤسسي، الأمر الذي يتسبب في جعل هذه الأنواع من القرارات تستغرق وقتاً طويلاً قبل اتخاذها. وعادةً، لا تُشطَب أي جماعة إلا بعد مرور وقت على حلّها أو إذا كانت هناك مصلحة أمريكية إيجابية ليس لها جوانب سلبية سياسية كبيرة، مثل إخراج “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” (“فارك”) من قائمة الإرهاب بعد اتفاق السلام الذي توصلت إليه مع الحكومة الكولومبية. وبدون مصلحة ملحة، يمكن لجماعات وأفراد البقاء على قائمة [الإرهاب] لسنوات. وتُعتبر حالة نيلسون مانديلا هي الأكثر فظاعة للخلل المؤسسي المتعلق بالإدراج على قائمة الإرهاب، حيث ظل مدرجاً عليها حتى عام 2008، على الرغم من أنه تنصل من الإرهاب قبل ذلك بعقدين من الزمن وكان زعيم جنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري.
منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تم شطب خمس جماعات جهادية فقط من قائمة الإرهاب، مع حدوث اثنتين من هذه العمليات من الشطب في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، على النحو التالي: «الجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة» في تشرين الأول/أكتوبر 2010، و «الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة» في أيار/مايو 2013، و «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» في كانون الأول/ديسمبر 2015، ومؤخراً «الجماعة الإسلامية في مصر» و «مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس» في أيار/مايو 2022. ولم تكن أي من هذه الجماعات قائمة عند شطبها من لائحة الإرهاب. ولم يتم شطب أي جماعة جهادية من القائمة بينما تواصل عملياتها النشطة. وحتى حين توقفت هذه الجماعات عن العمل، استمر الجمود (وربما استمرت المخاوف السياسية أيضاً) في تأدية أدوارها. ويبدو توقيت عمليات شطب هذه الجماعات عشوائياً بعض الشيء أيضاً. فقد استغرق الأمر حوالي ست سنوات بعد أن توقفت «الجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة» عن نشاطها لكي يتم إزالتها من القائمة، وتسع سنوات لـ «الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة»، وأربع سنوات لـ «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» المقاتلة، و 24 عاماً لـ «الجماعة الإسلامية في مصر»، وتسع سنوات لـ «مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس».
وقد يتم شطب منظمات إرهابية أخرى من القائمة على نحوٍ مماثل. فهناك عدد من الجماعات الجهادية التي لا تزال مدرَجة في القائمة ولكنها غير موجودة في واقع الأمر – لأنها إما توقفت عن عملياتها أو اندمجت في جماعة أخرى مثل تنظيم «الدولة الإسلامية». على سبيل المثال، لم تتبن «جماعة أبو سياف» في الفلبين أي هجوم منذ ثلاث سنوات، و «حركة أوزبكستان الإسلامية» منذ سبع سنوات، و «الجماعة الإسلامية في إندونيسيا» منذ خمس سنوات على الأقل، و «اتحاد الجهاد الإسلامي الأوزبكي» منذ 13 عاماً، و «أنصار الدين في مالي» منذ خمس سنوات، و «أنصار الشريعة في ليبيا» منذ ست سنوات، و «أنصار الشريعة في تونس» منذ ثماني سنوات. والأمر الأكثر إرباكاً هو إعلان قيادة «كتائب عبد الله عزام» اللبنانية حل التنظيم في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وفي ذلك الوقت لم تكن قد شنت أي هجوم لفترة دامت أربع سنوات، ولكنها ما زالت واردة على القائمة. ويبدو أنه لا توجد معايير أو مقاييس واضحة للشطب، ولا يوجد معيار للمدة التي تلي توقف الجماعة عن نشاطها بحيث تعيد الحكومة النظر في تصنيفها. ومع ذلك، فوفقاً للقانون، يُفترَض أن يتم تخصيص مدة أقصاها خمس سنوات لإجراء عملية مراجعة لكل تصنيف. ويسلّط هذا التناقض في العملية الضوء على دور الجمود البيروقراطي وعدم وضع إعادة التقييم ضمن الأولويات المهمة.
ومع ذلك، لا تزال «هيئة تحرير الشام» تواجه تحديات أخرى تتعلق بإلغاء تصنيفها كمنظمة إرهابية. فحتى لو يُفترض أن يتم حذف «هيئة تحرير الشام» من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، إلّا أنه تبقى هناك قائمة الإرهابيين العالميين التابعة لوزارة الخزانة الأمريكية، والتي أُدرجت فيها أيضاً «هيئة تحرير الشام» كجماعة وقيادة هذا التنظيم كأفراد. وبالتالي، لا يزال من المعقول تصنيف القادة الرئيسيين في «هيئة تحرير الشام» [على لائحة الإرهاب]. وفي تصريحاته، دعا الجولاني بشكل خاص إلى شطب «هيئة تحرير الشام» من قبل جميع الدول والمنظمات التي أدرجتها على قوائم الإرهاب. وفيما يتخطى قوائم الإرهاب التي تحتفظ بها الحكومة الأمريكية، هناك أيضاً قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، والتي تضع الأفراد والجماعات، بمن فيهم «هيئة تحرير الشام»، تحت العقوبات. إن الولايات المتحدة ملزمة قانوناً باتباع قائمة الأمم المتحدة. ومن المرجح أن تظل «هيئة تحرير الشام» على قائمة الأمم المتحدة للإرهاب في المستقبل المنظور؛ بإمكان روسيا استخدام مقعدها في مجلس الأمن الدولي لدعم نظام الأسد، حليفها في سوريا، وتعزيز رؤيتها لـ «هيئة تحرير الشام» كتهديد إرهابي.
وعلى الرغم من تطلعات الجولاني، إلّا أن العوائق التي تحول دون شطب «هيئة تحرير الشام» من أي قوائم إرهابية، في الولايات المتحدة أو في أي دولة أخرى، هي عراقيل كبيرة. ويبقى سلوك هذه الجماعة وخطابها متطرفيْن، وبالتالي فإن الوضع الراهن يبدو مقبولاً. ولكن حتى إذا لم تعُد الجماعة تستوفي العتبة القانونية للتصنيف، فقد تستغرق عملية شطبها من قائمة الإرهاب سنوات [عديدة]. ونتيجة لذلك، فإن القضية محل نقاش من بعض النواحي، بسبب العوامل التي لها علاقة بالحسابات الاستراتيجية والسياسية والمؤسسية للحكومة الأمريكية أكثر من تصرفات الجماعة نفسها. ومن غير المرجح أن يتم حذف قائمة «هيئة تحرير الشام» في أي وقت قريب، لكن طلب الجولاني غير المعتاد يثير أسئلة جدية حول ماهية العملية السياسية على وجه التحديد فيما يتعلق بشطب الجماعات الإرهابية ويشير إلى أن المعايير الأكثر وضوحاً قد تكون مناسبة.
هارون ي. زيلين هو “زميل ريتشارد بورو” معهد واشنطن ومؤلف دراسته الأخيرة “عصر الجهاد السياسي: دراسة في «هيئة تحرير الشام»”. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “لوفير”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى