محمود علوش
على مدى السنوات التي أعقبت انخراط تركيا مع روسيا وإيران في منصة أستانة في 2017، سعت موسكو إلى إيجاد أرضيةٍ مشتركةٍ مع أنقرة للتوفيق بين أهدافهما الجيوسياسية المتناقضة في سورية، فضلاً عن لعب دور ضابط الإيقاع في التنافس التركي الإيراني. بقدر ما كان التعاون التركي الروسي مهماً في إيجاد هذه المساحة وتطويرها بعد ذلك إلى تنسيقٍ في مجالات وقضايا إقليمية أخرى، مثل ليبيا وجنوب القوقاز والتعاون الدفاعي، فإن طهران ودمشق نظرتا إليه على أنه حدّ من طموحات نظام الأسد باستعادة السيطرة على المناطق التي لا تزال خاضعة للمعارضة. ومن جهة ثانية، ضغط على المصالح الجيوسياسية الإيرانية في البلاد. مع ذلك، اكتسبت منصّة أستانة أهمية في إدارة عملية التنافس بين الدول الثلاث، بالنظر إلى دورها في تطبيع الوضع الأمني في مناطق كثيرة، عبر اتفاقات وقف إطلاق النار وتحويل هذه القوى إلى دول ضامنة، فضلاً عن إضعاف الدور الغربي في الصراع.
في هذا السياق، أكّدت قمة طهران التي جمعت الأسبوع الماضي الرؤساء الإيراني إبراهيم رئيسي والروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، استمرارية هذه الشراكة، لكنّها اكتسبت، هذه المرّة، أهمية أكبر مقارنة بالقمم السابقة المماثلة، كونها تأتي في خضم تحولات إقليمية ودولية كبيرة تؤثّر على طبيعية الدينامية التي تسير بها الشراكة. فمن جانبٍ، تسعى إيران إلى الاستفادة من تحوّل الاهتمام الروسي نحو حرب أوكرانيا بهدف تعزيز حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي في سورية. ومن جانب آخر، تسبب دعم تركيا أوكرانيا بطائرات مسيرة والقيود التي فرضتها على حركة وصول القوات الروسية إلى سورية عبر البحر والجو، بزيادة الضغط على العلاقات التركية الروسية. رغم استراتيجية التوازن التي تنتهجها أنقرة في الصراع الروسي الغربي، إلّا أنها بدت مُصمّمةً على الاستفادة من التحوّل الروسي لتحسين موقفها في سورية. نتيجةً لهذا التصميم، تُلوح أنقرة منذ فترة بشن عملية عسكرية جديدة ضد وحدات حماية الشعب الكردية، وتعتقد أن الظروف الراهنة تبدو مناسبةً لفرض واقع جديد في حربها ضد المشروع الانفصالي الكردي.
لقد حققت الدول الثلاث أهدافاً مختلفة من منصّة أستانة. عزّزت روسيا دورها القيادي في سورية ودفعت تركيا وفصائل المعارضة التي تدعمها إلى التخلي عن مشروع إطاحة نظام الأسد والانخراط جزئياً في جهودها لإنهاء الصراع. وبالنسبة لإيران، شكّل التحول التركي إقراراً بفشل جهود إطاحة الأسد. أما أنقرة، فاستطاعت، إلى حد كبير، التفرّغ لمواجهة المشروع الانفصالي الكردي. مع ذلك، كانت الشراكة الثلاثية، على الدوام، عرضة لتضارب المصالح. يكمن السبب في ذلك في أنّ هذه الشراكة كانت في الواقع نتاج شراكتين متناقضتين. الأولى، روسية ـ إيرانية ترتكز على مصلحة مشتركة في دعم استمرارية نظام الأسد وتقويته، لكنّها تتنافس في التأثير عليه. والثانية، روسية ـ تركية تتجاوز في دوافعها الجغرافيا السورية، لكنّها قيّدت قدرة دمشق وطهران على استعادة السيطرة على ما تبقى من مناطق المعارضة. علاوة على ذلك، كان الدور القيادي لروسيا يحدّ من نطاق أنشطة إيران في سورية من خلال الشراكة مع إسرائيل والعلاقة التعاونية مع تركيا.
في الوقت الراهن، لا تزال موسكو تولي أهميةً للشراكة مع أنقرة، لكنّ العزلة الغربية التي تعرّضت لها بعد حرب أوكرانيا تدفعها إلى التركيز بشكل أكبر على تطوير العلاقة مع إيران إلى شراكة استراتيجية. يتطلع بوتين إلى الاستفادة من تجربة إيران الناجحة في التعايش عقوداً طويلة مع العقوبات، وتطوير مجالات الشراكة معها لتشمل قطاعاتٍ مختلفة، منها الطاقة التي تُعد أحد المجالات الرئيسية في الصراع الروسي الغربي. كذلك ترغب موسكو في اقتناء الطائرات المسيّرة الإيرانية لاستخدامها في الحرب ضد أوكرانيا. من شأن ذلك أن يُقلّص من المزايا التي تحصدها تركيا من منصّة أستانة. تُبرز المعارضة الروسية الإيرانية الموحّدة لرغبة تركيا في شن هجوم جديد ضد الوحدات الكردية كيف أن موسكو باتت تميل إلى الأخذ بالاعتبار موقف إيران تجاه الدور التركي في سورية. نتيجة لذلك أيضاً، ستجد إسرائيل صعوبة في مواصلة عملياتها العسكرية ضد الوجود الإيراني في سورية.
في غضون ذلك، تجد القوى الثلاث مساحة مشتركة للتفاهم عليها في هذه المرحلة، وهي الدفع باتجاه الانسحاب الأميركي من شمال شرق سورية وتحجيم المشروع الانفصالي الكردي. أدّى الانسحاب الأميركي من أفغانستان واتجاه واشنطن إلى تخفيف انخراطها في المنطقة إلى طرح تساؤلات حول مستقبل الوجود الأميركي في سورية. استطاعت قمّة طهران وضع قضية الوحدات الكردية في إطار تفاوضي ثلاثي من خلال الاتفاق على التعاون في مكافحة الإرهاب. لا يزال هذا الاتفاق غير واضح، ومن المحتمل أن يفشل، في نهاية المطاف، بالنظر إلى عدم استعداد أنقرة للقبول بعودة منطقتي تل رفعت ومنبج في غرب الفرات إلى سيطرة النظام. يكمن التحدّي الرئيسي في كيفية ترجمة التوافق الثلاثي حول التعاون في مكافحة الإرهاب على أرض الواقع.
على الرغم من خلافاتهم، حرص بوتين ورئيسي وأردوغان على التعبير عن رغبتهم بمواصلة التعاون في سورية. ويُشكل اتفاق سوتشي الذي توصلت إليه أنقرة وموسكو في عام 2019 بخصوص منبج وتل رفعت أرضية مناسبة للشروع في مفاوضاتٍ بشأن التسوية المحتملة. على عكس موسكو التي سعت باستمرار إلى التأكيد على مراعاتها الهواجس الأمنية التركية بخصوص المشروع الانفصالي الكردي، كانت طهران تتجنّب تبني هذا الخطاب لعدم منح شرعية للوجود العسكري التركي في سورية. مع ذلك، أصبح الخطاب الإيراني اليوم أكثر واقعية في مقاربة الدور التركي. لقد أبدت طهران، خلال زيارة وزير خارجيتها أخيراً أنقرة، استعدادها للعب دور الوساطة بين أنقرة ودمشق. وهناك تفسيرات عديدة لهذا التحول في الخطاب الإيراني أن طهران تسعى إلى ترطيب علاقاتها مع أنقرة على أمل إبعادها عن الانخراط في تكتل إقليمي مع إسرائيل ودول الخليج لمواجهة نفوذها في سورية والمنطقة. ثانياً، ترى إيران في الانشغال الروسي في حرب أوكرانيا فرصةً لتعزيز حضورها في الشمال السوري. والتعاون مع تركيا في مكافحة الوحدات الكردية يُقلل من مقاومة أنقرة طموحاتها.
مع انشغال روسيا في حرب أوكرانيا التي تبدو طويلة، لا يستطيع بوتين تحمّل أي اضطراب في التوازن السوري، والذي سيتطلب منه استثمار مزيد من الموارد العسكرية هناك. في نهاية المطاف، الاستراتيجية الروسية والإيرانية في سورية واضحة. بقاء الأسد في السلطة ومساعدته على استعادة السيطرة على كلّ البلاد. انطلاقاً مما سبق، ستبقى الشراكة الثلاثية التركية الروسية الإيرانية في سورية مترابطة في المستقبل المنظور، حتى لو قرّرت أنقرة المضي في خطة عمليتها العسكرية. وفي ما يتعلق بالعلاقة الروسية الإسرائيلية في سورية، فإنّ مستقبلها مرهون بمسار الصراع الروسي الأوكراني. في حال نجحت موسكو والغرب في وضع حد للصراع بشروط روسية، فإنّ من المرجح أن يعود بوتين إلى الوضع السابق في العلاقة مع كلّ من إيران وإسرائيل في سورية. خلاف ذلك، سيُكرس الوضع الجديد الناشئ بين إيران وروسيا.
المصدر: العربي الجديد