إبراهيم درويش
نشر موقع مجلة “فورين أفيرز” مقالا لمارك لينتش، استاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن قال فيه إن النظام السياسي الجديد الذي تحاول واشنطن بناؤه في الشرق الأوسط هو القديم نفسه.
وقال إن زيارة الرئيس جوي بايدن للشرق الاوسط لم تنته بانفجار صاخب ولكن نشيج. وكانت تحيته بالقبضة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان غير مهمة، فلم تعبر السعودية عن التزام بزيادة معدلات انتاج النفط، ولم يتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولم يتم التطرق إلى حقوق الإنسان إلا عندما رفض إبن سلمان انتقادات الصحافيين له بقتل الصحافي جمال خاشجقي، وعندما أشار لاهتمام الأمريكيين بمقتل خاشقجي وصمتهم على مقتل الصحافية الفلسطينية – الأمريكية شيرين أبو عاقلة. ولم تعلن السعودية عن خطوات للتطبيع مع إسرائيل ولم يظهر تحالف أمني جديد.
وكان لدى إدارة بايدن طموحا أوسع من سجل النقاط قصير المدى، فقد اعتقدت واشنطن بأهمية إعادة ضبط العلاقة مع السعودية وبقية الحلفاء بالمنطقة والعمل من أجل صالحها لكي تكون قادرة للتعامل مع كم واسع من القضايا. وزاد من إلحاح الزيارة إمكانية فشل المحادثات مع إيران بشأن ملفها النووي والتداعيات المدمرة لاجتياح القوات الروسية أوكرانيا.
وفي الوقت الذي ثبت خطا الشائعات حول تحالف عربي- إسرائيلي ضد إيران إلا أن هدف الزيارة كان بناء نظام عربي- إسرائيلي لمواجهة إيران برعاية أمريكية. وحققت الزيارة نوعا من التقدم البسيط في هذا الإتجاه، لكن ليس بالطريقة التي أرادتها أمريكا، لكن المعمار الأمني الذي تصورته الإدارة لن يكون جديدا.
فالتعاون العربي- الإسرائيلي ضد إيران قائم منذ عقود وأخرجته اتفاقيات إبراهيم للعلن، وهي اتفاقيات التطبيع التي وقعتها دول عربية مع إسرائيل برعاية إدارة دونالد ترامب وأخرجت رسميا فلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة.
ويرى لينتش أن الولايات المتحدة تقوم بالرهان على قدرة الدول العربية المستبدة تبني نظاما إقليميا يضم إسرائيل بدون الإهتمام بردة فعل الرأي العام في الدول هذه. ولكن المخاطرة وسط أزمات اقتصادية واجتماعية واقتصادية ستترك آثارا عكسية كما هو الحال في الماضي. وكان اهتمام الولايات المتحدة بإقامة نظام أمريكي- شرق أوسطي بمثابة هواية أمريكية منذ عام 1991 وعندما احتل صدام حسين الكويت. ولكن الشرق الأوسط لا تتوفر فيه الظروف التي تجعله يتبع أوامر أمريكا.
ويحبذ قادة الشرق الأوسط تحويط رهاناتاتهم فيما يرون أنه عالم متعدد الأقطاب، كما هو واضح من رفضهم اتخاذ مواقف داعمة لامريكا وأوروبا في المواجهة مع روسيا. ولو نجح بايدن بجمع الحكام العرب المتسلطين وإسرائيل في تحالف ضد إيران، فإنه يقوم بتكرار أخطاء الماضي، وهو ما سيزيد من انهيار النظام الإقليمي ويعكس الإنجازات التي تحققت باتجاه خفض التوتر وسيزيد من القمع ويعبد الطريق لانتفاضات شعبية.
وقال لينتش إن الرغبة بإنشاء تحالف إقليمي تقوده الولايات المتحدة تسري في الحمض النووي لواشنطن. وبالتحديد، هناك جيل من صناع السياسة الأمريكيين ينظر لعام 1991 والنظام الذي أقيم في الشرق الأوسط في ذلك الوقت بأنه النموذج الواجب تقليده.
ومن السهل تفسير هذا، فالعصر جاء مباشرة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي مباشرة وكانت القوة الأمريكية في أوجها. وبعد التدخل الأمريكي لإنهاء الإحتلال العراقي للكويت بالفترة ما بين 1990- 1991، قامت إدارتي جورج هيربرت بوش وبيل كلينتون واعتمادا على القطبية الأمريكية الأحادية، بسلسلة من الجهود الإقليمية الطموحة وأنشأتا نظاما إقليميا يخدم المصالح الأمريكية. ولفترة قصيرة، بدا وكأن الطرق تؤدي إلى واشنطن. وأطلقت الإدارة الأمريكية محادثات مدريد لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي ولإنشاء نظام إقليمي يضم العرب وإسرائيل. وحاول حلفاء الإتحاد السوفييتي السابق مثل سوريا البحث عن طرق للدخول في النظام الجديد من خلال المفاوضات مع إسرائيل. وحتى إيران المتعبة من الحرب الطويلة مع العراق تطلعت لتحسين علاقاتها مع أوروبا ودول الخليج وأطلقت “الحوار بين الحضارات” في الأمم المتحدة وقامت بخطوات بسيطة للتواصل مع واشنطن وخففت من تدخلاتها بالمنطقة.
وظهر في الأجواء ضوء إيجابي بالإضافة إلى أرضية عسكرية لنظام تقوده أمريكا في المنطقة، ولو لفترة وجيزة. فقد كانت جهود استعادة الكويت متعددة وصادق عليها مجلس الأمن والقمة العربية. وأدت الجهود الأمريكية في عمليات السلام العربي- الإسرائيلي ما بعد 1991 وإدارتها لمحادثات أوسلو برؤية إيجابية لمستقبل الشرق الأوسط. إلا أن الأسس المعيارية لم تتجذر وبدا النظام الإقليمي عصيا على الإدارة. ويظل حنين أمريكا للشرق الأوسط بنهاية القرن العشرين عميقا ولكنه الفترة لم تكن منظمة كما تقول الأسطورة.
ويقدم فشل النهج الذي تبنته الولايات المتحدة في انتاج نظام إقليمي مستقر وشرعي وحتى في عز القوة الأمريكية العالمية دروسا لليوم.
فلم تدر مرحلة ما بعد 1991 نفسها بنفسها، فما أطلق عليه الإحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران اقتضى وجودا عسكريا شبه دائم وإقامة قواعد عسكرية أمريكية في دول الخليج. وهذا تحول عن العقود الماضية عندما قامت الولايات المتحدة بإدارة المنطقة من وراء البحار معتمدة على حلفائها المحليين وتجنب إقامة قواعد عسكرية ضخمة ودائمة. واقتضى منها أن تخصص جهودا دبلوماسية غير متناسبة وطاقة لمشاكل المنطقة، حيث تطلبت كل أزمة اهتماما أمريكيا كبيرا. وأدى التعامل مع الأزمات اللامتناهية لتجاهل بل والترويج للأنظمة المستبدة التي ستقوض في النهاية النظام. وكان في قلب الإدارة الأمريكية المصغرة للمنطقة هو احتواء العراق، والذي اقتضى الحفاظ على عقوبات قاسية وغير مسبوقة. وكان قطع العراق عن الإستيراد والتصدير سببا في أعداد لا تحصى من الوفيات والبؤس الإنساني والتي قوضت المزاعم الأخلاقية الأمريكية في عيون العرب. وأدت المواجهات حول مفتشي الأسلحة إلى أفعال عسكرية مستمر مثل عملة ثعلب الصحراء، وهي عملية عسكرية استمرت أربعة أيام ضد أهداف عراقية نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا في كانون الأول/ديسمبر 1998. وفي النهاية لم تنجح الجهود، فقد استعل صدام برنامج الطعام مقابل النفط من أجل الحفاظ على نظامه وانهار الإلتزام الإقليمي بالعقوبات.
ورغم الجهود التي أنفقتها إدارة كلينتون لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني إلا أنها فشلت، وبالتأكيد بذلت إدارة كلينتون جهودا إلا أنها لم تستطع التغلب على تداعيات اغتيال اسحق رابين عام 1995 وعمليات حماس والتوسع الإستيطاني. كما وفشلت الإدارة في تحقيق تقدم على المسار السوري- الإسرائيلي. وشهدت سنوات التسعينات من القرن الماضي تقليلا من أهمية الديمقراطية خوفا من انتصارات الإسلاميين في صناديق الإقتراع. وبدلا من ذلك تظاهرت واشنطن بأن المستبدين العرب سيدعمون المجتمعات المدنية وتحضير المواطنين يوما ما للديمقراطية الحقيقية. وهذا بالطبع، هو نفس الجدال الذي طرحته معظم الأنظمة العربية المستبدة اليوم، وهو زعم لم تقدم إدارة بايدن بتحديه. وكانت نتيجة مقايضة الديمقراطية بنظام مستقر هي تمكين الإستبداد العربي بكل أمراضه. ولم تكن مصادفة أن تكون فترة التسعينات هي فترة التمرد الإسلامي في مصر والجزائر والتي كانت فترة حضانة للقاعدة. وفي النهاية فالأيام المجيدة للنظام الذي قادته أمريكا بالمنطقة ليست كما تبدو. فقد فشلت محاولات احتواء العراق وتحقيق التسوية العربية- الإسرائيلية. ولم يؤت التعاون مع الأنظمة المستبدة لبناء الديمقراطية أكله. وكان الدور الأمريكي في مظاهر الفشل سببا في جعل واشنطن هدفا جذابا للقاعدة التي بدأت بالتحول عن “العدو القريب” إلى “العدو البعيد” وفي النهاية 9/11.
وتبعت الإدارات بعد كلينتون خططها الخاصة لبناء معمار للشرق الأوسط يؤكد التفوق الأمريكي، فبعد 9/11 أعلن جورج دبليو بوش عن استراتيجية للمنطقة مركزها “الحرب على الإرهاب”، وعنت في الشرق الأوسط تعاونا قريبا مع أجهزة الإستخبارات وتطفلا أـمريكيا واسعا بالمنطقة. وكان غزو العراق والإطاحة بصدام حسين كارثيا وخلق فراغا في الشرق الأوسط. وأطلق احتلال العراق العنان للحرب الطائفية التي قوت إيران والجماعات الجهادية السنية وبخاصة الدولة الإسلامية الناشئة. وأنهكت حرب العراق قدرات أمريكا واستعدادها للتدخل عسكريا في الشرق الأوسط وادت بإيران كقوة مهمينة على الدولة العراقية. ووسط هذه الفوضى ظهر نظام أطلقت عليه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس “الشرق الأوسط الجديد”، وفي ذروة الحرب الإسرائيلية بلبنان عام 2006. وكان نظاما عنيفا وتنافسيا بشكل جديد ومشابه من الناحية البنيوية اليوم. وأطلق المسؤولون الأمريكيون اسم “محور المعتدلين” على إسرائيل ومعظم الدول العربية الخاضعة للمظلة الأمنية الأمريكية. وعلى الجانب الآخر أطلق “محور المقاومة” على إيران وسوريا ولاعبين غير دول مثل حزب الله وحماس. وتم تناسي أن الإعلام الذي تملكه السعودية دعم بداية الهجوم الإسرائيلي على حزب الله لكراهيتها له، قبل أن يجبرها الرد العام المعادي لتغيير الخط التحريري.
وأدى عدم القبول بالجهود التي قادتها أمريكا لاستفادة كل من تركيا وقطر ولعب دور الدول المتأرجحة القريبة من نبض الرأي العام. وقدم باراك أوباما رؤية مختلفة للمنطقة لنظام إقليمي يقوم على خلق توازن مستقر وعملي بين إيران وجيرانها وعبر الدبلوماسية النووية وتخفيض الوجود الأمريكي.
ومن اللافت أن إسرائيل والسعودية والإمارات عارضت تقريبا كل شيء عرضه أوباما بما في ذلك الإتفاقية النووية مع إيران. والسبب هو أن هذه الدول انتعشت في النظام الإقليمي الذي كان أوباما يحاول تغييره. فلم تكن دول الخليج راغبة، بالتعامل مع أفكار أوباما الداعية لمشاركة الجوار مع إيران واقل مع الأفكار المهرطقة عن الديمقراطية والربيع العربي. وعارض الإسرائيليون جهود أوباما لتحقيق تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وأن حل الدولتين سيقود لعلاقات مع الدول العربية. ولم تظهر إيران استعدادا لتعديل مواقفها في المنطقة واعتمادها على الجماعات الوكيلة في العراق وسوريا واليمن، وحتى بعد توقيع الإتفاقية النووية، كل هذا قوض جهود أوباما لخلق نظام إقليمي.
ولهذا رحبت إسرائيل والسعودية والإمارات وبقية القادة العرب بوعودة إدارة ترامب لعصر جورج هيربرت بوش ونموذج “الشرق الأوسط”. وتبنى ترامب أراءهم وتوقفه عن متابعة حقوق الإنسان أو دفعهم لتسوية مع الفلسطينيين. وتخلت إدارته عن الإتفاقية النووية وتبنت “استراتيجية أقصى ضغط”. وأدى تبنيه لهؤلاء القادة العرب وإسرائيل لتشجيع أسوا الرغبات لدى هذه الحكومات بما فيها التدخلات القاسية والتي زادت من الحرب الأهلية والدول الفاشلة بالمنطقة، من اليمن إلى سوريا وليبيا. كما وزاد القمع في الداخل من مخاطر انتفاضات جديدة. وفي الوقت نفسه، خلقت عمليات استيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينية الأزمات. لكن صداقة ترامب لهذه الأنظمة كانت لها حدود، فقد رفض القيام برد انتقامي عندما ضربت إيران منشأتين للنفط في السعودية عام 2019، مما أثار أسئلة حول الثقة بأمريكا وضماناتها الأمنية. ومن هنا فمفهوم بايدن عن المنطقة تظهر أن هذه الرؤية للنظام الإقليمي مستمرة داخل دوائر صناعة السياسة بواشنطن، رغم كل النزاعات والألام التي ولدتها. وقد كيفت الانظمة العربية نفسها ودفعت بقوة كل محاولات واشنطن تغيير السياسات. وأعضاء إدارة بايدن هم في غالب الأحيان مخلوقات من إدارة كلينتون الذين يعتقدون أنهم تعلموا الدروس من سنوات أوباما وترامب. ومن المفارقة أن النظام الإقليمي الذي يحاولون تصميمه يشبه النظام الذي حاول بناؤه جورج دبليو بوش. وما يهم في تبني فريق بايدن نموذج بوش للنظام الإقليمي هو تخليهم عن “أجندة الحرية”. وربما تخلى بوش عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بعد فوز حماس في انتخابات عام 2006ل إلا أن خطابه عن الديمقراطية قدم على الأقل رؤية إيجابية للنظام. وفي رحلته الأخيرة إلى السعودية تخلى بايدن عن هذا بشكل كامل، وربما كان هذا مفهوما من زعيم أمريكي كان يريد إصلاح الجسور مع القادة العرب وعدم استعدائهم، ولكل هذا ثمن. فالإستبداد العربي كان الغراء اللاصق للنظام الإقليمي الذي قادته أمريكا في التسعينات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وبحسب الكاتب قامت انتفاضات الربيع العربي بكسر هذا بطرق لم يتم فهمها بشكل كامل. ولم تقدم تحولا ديمقراطيا كاملا، حيث وضع انقلاب قيس سعيد في 2021 الغطاء على التجربة الديمقراطية في تونس. واليوم يريد المستبدون العرب من واشنطن الإعتقاد أن النظام القديم عاد وأن الديمقراطية لم تعد مطروحة على الطاولة وانهم عادوا للسيطرة وبشكل كامل. إلا ان هذا الإعتقاد خاطئ في ظل السجل الإقتصادي الصارخ الذي تفاقم بسبب كوفيد والحراك الشعبي المتكرر في مناطق مثل لبنان والعراق والجزائر والسودان. وحتى لو استبعدنا انتفاضات شعبية واسعة فالشرق الأوسط اليوم يختلف عن الأنظمة الإقليمية السابقة. وبات الشرق الاوسط متعدد القطبيات من الناحية الداخلية حيث انتقل مركز الثقل من مصر والمشرق إلى منطقة الخليج.
وباتت الدول غير العربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل تلعب دورا. ولأن الأنظمة تعاني من غياب أمن وجودي منذ ثورات عام 2011، والتي ترافقت مع الحروب الأهلية والدول الفاشلة فقد تغير منطق التدخل وغير ميزان القوة. وأدى رفض أوباما التدخل في سوريا ورفض ترامب الرد على الهجمات ضد السعودية وسحب بايدن القوات من أفغانستان لتغير مواقف الدول العربية من أمريكا كمزود للأمن. وفي نفس الوقت فهذه ليست فترة الهيمنة الأمريكية الأحادية، وهذا لا يعني القول أنها أمام نعيش ثنائية القطبية أو القطبية المتعددة، فروسيا ظلت مخربة أكثر من كونها قطبا منافسا لأمريكا وهي اليوم مستنفزة بالحرب في أوكرانيا. أما الصين فلم تقرر بعد أن تحول نموها الإقتصادي وهيمنتها إلى تأثير عسكري وسياسي. وهي تشترك في معظم الأحيان مع جوهر المصالح الأمريكية وهي الحفاظ على تدفق النفط من الخليج. وحتى بدون النظير المنافس، فلم يعد لدى الولايات المتحدة القدرات السياسية للعب دور المهيمن في الشرق الأوسط. وعلمت الإنتفاضات العربية الزعماء العرب أن أمريكا لن تتحرك دفاعا عن أنظمة عملت من أجل مصالحها. وهذه المواقف القومية والشكوى من الهجر الأمريكي ليست مجرد أوراق مقايضة للحصول على دعم سياسي وصفقات أسلحة، بل وتعكس قدرات الدول العربية وشعورها بعدم الأمن. ولن تنفع محاولات الطمأنة، فالقدرات السياسية والإرادة الأمريكية غير موجودة أو غير كافية.
وربما كان هذا أمر سيء، ولكن يجب ألا يكون هكذا، فبدلا من محاولة إحياء نظام إقليمي تأكلت أساساته بطريقة لم يعد قابلا للحياة، يجب تشجيع المبادرات الإقليمية والإعتماد على النفس وخفض التوتر. ففي العام الماضي أعادت الإمارات بناء علاقاتها مع قطر وتركيا ولا تزال اتفاقيات إطلاق النار قائمة في اليمن وليبيا. بل وبدأت السعودية محادثات مع إيران. ومحاولة أمريكا بناء تحالف إقليمي ضد طهران وزيادة صفقات الأسلحة قد يترك آثارا عكسية. فقد تفككت المنطقة منذ عام 2011 ومحاولة إعادة نظام عفا عليه الدهر سيسهم بالفشل ويزيد من المشاكل الكثيرة التي لا يمكن إحصاؤها. وأصبح الخليج اليوم مستقلا وقادرا ويمكنه التحرك بدون رعاية قوة عظمى.
وخارج الدول النقطية الثرية فما تبقى من عالم عربي هو مجموعة المساحات التي تجري فيها حروب ومنطقة لم يعد فيها المستبد الأشرس قادرا على التمسك بالسلطة امام حجم المشاكل الاقتصادية. وهناك إمكانية لاندلاع الحروب في اليمن وسوريا وليبيا رغم وقف إطلاق النار فيها. ويقدم الملوك والمستبدون في المنطقة صورة عن الإعتيادية والإستقرار إلا أن الأوضاع الإقتصادية والسياسية أسوأ مما كانت عليه عشية الربيع العربي عام 2011. وفي غياب أي أمل لحل الدولتين أو محاولة ضبط للإحتلال ومحاولات اسرائيل المستمرة للتوسع في الضفة وحصار غزة فهناك إمكانية لاندلاع أزمة في أي وقت. وفي نفس الوقت فالولايات المتحدة في حالة فوضى واستنفذها النزاع الداخلي والإستقطاب الحزبي، وتخلت حتى عن مظهر دعم الديمقراطية. ويقول المدافعون عن اتفاقيات إبراهيم في إسرائيل ودول الخليج أنها قد تكون أساسا لبناء نظام إقليمي. وكل الأدلة تقترح أن الرأي العام يرفض التطبيع مع إسرائيل في غياب حل للقضية الفلسطينية. ونظام يعتمد على مستبدين ولقمع الرأي العام بدلا من بناء نظام يحظى بشرعية خارج القصور لن يستقر أو يدوم.
ومن المفارقة لو انتهى هذا النظام كما حدث لنظام كلينتون في التسعينات بحرب كارثية غير ضرورية. وكان قرار ترامب للإنسحاب من الإتفاقية النووية عام 2018 مدعاة لهدم جهود أوبامام بناء نظام إقليمي بديل.
ولم يكن بايدن قادرا على تجاوز الآثار السامة هذه، ففي الوقت الذي تقترب فيه الإتفاقية النووية من الإنهيار، فإن الولايات المتحدة قد تنزلق نحو دعم جهود تغيير النظام. وكان بايدن حذرا من الحديث عن استخدام القوة. وأعطاه الإنسحاب من أفغانستان مصداقية وتجنب خوض حروب واسعة. لكن الضغوط للتحرك ستتزايد مع ضيق الخيارات بين قبول إيران نووية أو التحرك عسكريا. والطريق الذي يمضي فيه بايدن لاعادة بناء النظام الإقليمي يجعل من تلك النهاية الكارثية محتومة.
المصدر:“القدس العربي”