مايكل برينس فان جاكسون
رحب الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء باحتمال حصول تنافس طويل الأمد مع الصين باعتباره تحدياً من شأنه أن ينتج أفضل ما في الولايات المتحدة. وعلى مدى سنوات، وصفت واشنطن الصين بأنها الخصم العسكري الوحيد الجدير باهتمام الجيش الأميركي، إضافة إلى أنها تمثل تهديداً من النوع الذي من شأنه أن يؤدي إلى حشد الإرادة الوطنية وشفاء ما هو عليل في الديمقراطية الأميركية.
لم يفعل الغزو الروسي الكارثي لأوكرانيا شيئاً سوى تعزيز صلابة هذه الحكمة التقليدية. وعلى الرغم من أن جذور تلك الحرب لا تتعلق بالصين، فإنها شجعت واشنطن على رؤية هاتين القوتين العظيمتين [روسيا والصين] بوصفهما من نوع واحد. وتماماً وفق ما يفترض بأن المنافسة مع الصين هي السبيل إلى التجديد الأميركي اعتبر الصراع الدائر ضد روسيا أنه “حرب حسنة” يمكنها أن تؤدي إلى إنقاذ قناعة مستمدة من أيام “الحرب الباردة” [حقبة من الصراع الذي دار أساساً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، امتدت بين نهاية الحرب العالمية الثانية وتسعينيات القرن العشرين]، بإمكانية شن معارك يمكن الانتصار فيها على المستبدين. وتذكر أوكرانيا العالم بالفضائل المتأصلة في الديمقراطية وباحتمال حصول شراكة بين الحزبين من النوع الذي يفترض أنه قد تحكم بالشؤون العالمية في أعقاب “الحرب الباردة”. ووفق ما كتب المفكر فرانسيس فوكوياما في مارس (آذار) 2022، فإن “روح عام 1989 قد نامت، والآن يجري إيقاظها من جديد”.
في المقابل، فإن إعادة تصميم السياسة الخارجية الغربية من أجل صراع القوى العظمى لن تعين على استعادة الديمقراطية في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر. وهناك القليل من الأدلة على أن المنافسة بين القوى العظمى تعزز الروابط المدنية، أو الحقوق المتساوية، أو الأمن الاقتصادي، وكثير [من الأدلة] للإيحاء بأن ذلك يمكن أن يمعن في جعل الديمقراطية تنقلب ضد نفسها. وفي الواقع، إذا كانت الولايات المتحدة تريد نظام حكم يعمل على نحو جيد مع مجتمع مدني يعيش بسلام، فإن آخر شيء يجب أن تسعى إليه هو تنافس القوى العظمى. ولا يمكن ضمن الإطار التنافسي إيجاد حلول لعدد من التهديدات الأكثر إلحاحاً للديمقراطية على غرار تغير المناخ، والقومية البيضاء [التي تروج لفكرة أن البيض يشكلون شعباً وقومية يجب أن تسيطر في أميركا وأوروبا] وكراهية الأجانب، والأوبئة، وغياب المساواة الاقتصادية. وبدلاً من الرهان على أن الصراع مع الصين وروسيا سينشط الغرب ينبغي على الولايات المتحدة وشركائها تعزيز مؤسسات الحكم الإقليمي والعالمي من أجل تخفيف الضرر الذي لا بد أن تلحقه منافسة القوى العظمى بالديمقراطية.
لا يعتبر الانشغال بمنافسة القوى العظمى إشكالياً لمجرد أن هذه المنافسة ليست استراتيجية بل أيضاً لأنها تجعل شعاراً ما، أو بقول أكثر تحديداً، دافعاً تنافسياً معدوم النتيجة، بديلاً من هدف استراتيجي. وتسقط من الحساب احتمال وجود استراتيجية كبرى أكثر ديمقراطية تكون قادرة على تمكين جميع المواطنين، وتعكس إجماع الغالبية، وكذلك تبرز الطموحات الديمقراطية في الداخل والخارج. تحتاج الولايات المتحدة إلى سياسة خارجية تعمل من أجل جميع الأميركيين، وليس إلى سياسة خارجية تعمل لصالح الشركات أو حتى الطبقة المتوسطة.
إن وجهة نظر المؤسسة [السياسية الأميركية المتمركزة] في واشنطن بأن صراع القوى العظمى هو خير محض بالنسبة إلى الولايات المتحدة مستمدة من قراءة مشوهة لتاريخ “الحرب الباردة”. ومن وجهة النظر تلك، لقد أثار التنافس مع الاتحاد السوفياتي [عمليات] إقرار تشريعات الحقوق المدنية، وسباق الفضاء الذي قاد إلى ابتكارات في التكنولوجيا والحوسبة، وكذلك جعل اقتصاد “الحرب الباردة” الثراء ممكناً، وأتاح لعديد من الأميركيين امتلاك منازل. ويكمن هذا التفسير التاريخي لـ”الحرب الباردة” وراء التشريعات الحديثة، بما في ذلك “قانون المنافسة الاستراتيجية” Strategic Competition Act في عام 2021 وقانون أميركا تنافس America COMPETES Act في 2022، وكلاهما يسعى إلى حشد الموارد الفيدرالية بهدف تحفيز التنمية الاقتصادية وتوفير فرص عمل، وكل ذلك ضمن محاولة للتنافس مع الصين.
من زاوية مقابلة، فإن تأثير “الحرب الباردة” أشد تعقيداً وقسوة بكثير من التوصيف المعياري المعتمد لدى صناع السياسة، صحيح أن “الحرب الباردة” سببت نمواً اقتصادياً وازدهاراً هائلين، بيد أنها أحدثت إلى جانب ذلك تأثيرات مؤذية على حرية التعبير، والمساواة العرقية والاقتصادية، والتعددية الديمقراطية، إذ أدى التنافس مع الاتحاد السوفياتي إلى إثارة “الذعر الأحمر” [حالة الخوف من الشيوعية] في خمسينيات القرن الماضي التي شهدت اتهام الناس بكل بساطة بعدم الولاء الكافي لحكومة الولايات المتحدة، وفقدوا وظائفهم ووضعت أسماؤهم على القائمة السوداء في واشنطن وهوليوود. وكذلك أدى “الذعر الأحمر” إلى منع تنفيذ الأجزاء الأكثر طموحاً في أجندة الحقوق المدنية، والتضحية بإمكانية خلق فرص عمل والاستثمار في البنية التحتية لمجتمعات الأميركيين السود من أجل دفع التكاليف الناجمة عن حرب فيتنام. وكذلك جرى إرجاء تنفيذ إصلاحات مطلوبة في شأن أحوال الجندر من خلال الضغط على النساء لتأدية أدوار الدعم العائلي المحلي وقمع الحركة النسوية الذي استمر إلى أن وجدت تلك الحركة صوتاً لها إلى جانب جهود نضالية أخرى من أجل العدالة خلال حقبة حرب فيتنام. وإذ شنت هجمات على برامج التوظيف الكامل، والرعاية الصحية، والنقابات العمالية باعتبارها “اشتراكية” أو “شيوعية”، فقد أدى ذلك إلى إضعاف النظام الاقتصادي لـ”الصفقة الجديدة” التي جرى وضعها في ظل قيادة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت.
وأدى تنافس القوى العظمى مع السوفيات إلى تفاقم التفاوت الطبقي الذي مهد الطريق أمام اتساع نطاق سياسات التقشف في ثمانينيات القرن الماضي. وبعد ذلك، اشتملت الوصفات النيوليبرالية من أجل إدارة الاقتصاد على دولة رفاهية ضعيفة، وتحرير الشركات من القيود، وخصخصة السلع والخدمات العامة، بالتالي لقد أفرزت تلك الأمور كلها تفاوتاً متنامياً في الأجور، والمداخيل، وفرص العمل، بين الطبقة العاملة والأثرياء الأميركيين. وكذلك وفر الاقتصاد السياسي الذي يعتمد على الإنفاق العسكري وظائف في قطاعي الهندسة والتكنولوجيا، غير أن ذلك عاد بالفائدة في المقام الأولى على أصحاب التعليم الرفيع المستوى والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة. إن صعود اقتصاد مرحلة ما بعد الصناعة في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته كان يعني أن على الأميركيين من خارج ميادين التكنولوجيا، والأعمال الأكاديمية، والهندسة (وهي المجالات التي حظيت بدعم الإنفاق الدفاعي أثناء “الحرب الباردة”) والذين لم يحوزوا درجات علمية متقدمة أن يبحثوا عن وظائف في صناعة الخدمات التي توفر عملاً متدني الأجر وغير آمن بشكل مستمر، ومن دون فرصة كبيرة في الحراك الاجتماعي [بمعنى التحرك بين طبقات المجتمع، خصوصاً الانتقال من طبقة أدنى إلى أعلى]، بالتالي شكلت “الحرب الباردة” صراعاً لم يعد بالفائدة على الطبقة العاملة.
شكلت “الحرب الباردة” أيضاً سابقة من نوعها لجهة الإنفاق الفيدرالي الذي جعل السلاح يأتي بالضرورة على حساب الخبز والزبدة [بمعنى مستوى العيش اليومي]. وبينما بلغ متوسط إنفاق البنتاغون 7.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الإنفاق على التعليم لم يتجاوز ثلاثة في المئة بين عامي 1946 و1960. وكذلك شكلت مزايا الضمان الاجتماعي أثناء ذروتها في عام 1982 [انحدرت بحدة بعد ذلك]، نحو خمسة في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي (كانت نفقات الرعاية الصحية وحدها تنافس الإنفاق على الدفاع الوطني من حيث النسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي خلال “الحرب الباردة”). وكان التوازن مختلاً بين الأولويات الدفاعية والاجتماعية للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
وزاد الطين بلة حينما جعل ليبراليو “الحرب الباردة” الاستثمارات المحلية مشروطة بالتنافس بين القوى العظمى، إذ ترجم ذلك بفصل الأساس المنطقي للسلع العامة عن الرؤية الإيجابية للمجتمع وفق شروطه الخاصة، بالتالي، حل بديلاً من ذلك محاولة ربطه [منطق السلع العامة] مع ما يمكن أن يلحق أكبر الأذى بالسوفيات. وأدى ذلك إلى إمكانية أن يعارض الإنفاق المحلي بمنطق ملتوٍ مفاده أن ذلك [الإنفاق] يضر بالمنافسة مع السوفيات. وقد شرع حتى الديمقراطيين في تبني وجهة النظر الملتوية هذه عن دولة الضمان الاجتماعي مع حلول عقد السبعينيات من القرن العشرين، ما أدى عملياً إلى تخليهم عن القاعدة العمالية للحزب الديمقراطي لصالح شريحة انتخابية من ذوي الياقات البيضاء [إشارة إلى الموظفين أساساً في قطاع الخدمات] تتمتع بثقافة تكنولوجية، والتي رأى الحزب الديمقراطي أنها أقدر على التفوق في مواجهة العدو الجيوسياسي للولايات المتحدة. ودفعت هذه الصفقة [قبول نظرة إلى الدولة تعطي الأولوية للتنافس الجيوسياسي مع السوفيات على حساب الأولويات الداخلية] بالحزب الديمقراطي إلى البحث عن روحه السياسية في عشرينيات القرن الحالي. كذلك أفادت الصفقة نفسها بشكل أكبر بكثير السياسيين اليمينيين والقوميين ممن جادلوا بشكل منتظم بأن الأموال التي يجري إنفاقها على خفض مستوى الفقر، في البلاد وخارجها، يكون من الأفضل لو أنها صرفت على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية، وعلى برامج الدفاع الصاروخي وسياسة خارجية أكثر قوة بشكل عام. وساعد هذا الميل نفسه [المتضمن في الصفقة في شأن أولوية التنافس مع القوة الخارجية العظمى] في تبرير شبح الإرهاب النووي الذي لا يزال العالم مجبراً على العيش في ظله حتى الآن، غير أنه فعل القليل، مثلاً، من أجل تعزيز الديمقراطية الأميركية أو إعداد الولايات المتحدة [لمواجهة] وباء عالمي، أو رفع مستوى فقراء أميركا.
وكذلك ارتدت الحرب ضد عدو شيوعي ضخم موحد في الخارج، على الداخل الأميركي على شكل عنصرية وكراهية للأجانب ضد المهاجرين. ولقد ألزم “قانون الأمن الداخلي” Internal Security Act لعام 1950 أعضاء الحزب الشيوعي بالتسجيل لدى الحكومة الفيدرالية، وكذلك أتاح لسلطات الولايات المتحدة ترحيل مهاجرين أجانب يحملون الجنسية الأميركية وذلك للاشتباه في “عدم ولائهم”. وبعد إلغاء قانون الاستبعاد الصيني Chinese Exclusion Act في عام 1943 [أقر الكونغرس القانون في 1882 وتضمن منع قدوم مهاجرين من الصين لمدة عشر سنوات]، أجبر المهاجرون الصينيون خلال “الحرب الباردة” على “الاعتراف” بوضعهم غير القانوني كمهاجرين، حتى إن لم يخرقوا أي قوانين حين مجيئهم إلى الولايات المتحدة، لنيل حقوق المواطنة. وعبرت مثل هذه السياسات هيستيريا المكارثية المعادية للشيوعية التي استمرت إلى ستينيات القرن العشرين. وحتى حينما تبنى الديمقراطيون في نهاية المطاف قضية الحقوق المدنية، بحسب توضيح المؤرخة ماري دودزياك، فقد جاء ذلك بطريقة ضيقة وضعيفة، إضافة إلى مجيئه متأخراً بضعة عقود من الزمن بسبب التدمير المبكر لحركة تقدمية موحدة شكلت النصير المنظم الأول للمساواة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. [في 1924، ظهر لفترة وجيزة في أميركا الحزب التقدمي الذي نادى بسيطرة القطاع العام على المصادر والثروات الطبيعية، وملكية الدولة لخطوط السكك الحديدية وخفض الضرائب وتشريعات اجتماعية متنوعة. استند إلى إرث حزب حمل اسم التقدمي في 1911]. وجرى تفكيك ذلك التحالف من قبل الليبراليين المعادين للشيوعية، بمن فيهم ديمقراطيون وجمهوريون، ممن تقلصت رؤاهم للتغيير من طريق رسم حدود سياساتهم [بحيث تكون موجهة] ضد العدو بدلاً من [التركيز على] نظريتهم الخاصة عن الديمقراطية.
واستطراداً، أدى الإخفاق في رؤية “الحرب الباردة” على حقيقتها إلى بقاء الولايات المتحدة غير مستعدة لإدارة المخاطر التي تتأتى من التنافس بين القوى العظمى، على المجتمع الديمقراطي اليوم. وتعتقد إدارة بايدن أن هذا التنافس سيفيد الطبقة المتوسطة الأميركية وفي العالم، لكنه يسمم سلفاً السياسة الأميركية، ويساعد الرئيس الصيني شي جينبينغ، ويراكم مخاطر استراتيجية يمكن تجنبها.
التنافس والعنصرية
تماماً مثلما كانت العنصرية والعنف بدوافع عرقية جزءاً من تجربة “الحرب الباردة”، فقد أصبحت تلك الأمور نفسها الثمن الواضح والمباشر أكثر من غيره للمواجهة الراهنة مع الصين وروسيا، إذ ارتفع في الأشهر القليلة الماضية وحدها عدد الهجمات المعادية للأجانب التي استهدفت المهاجرين الروس والصينيين في الولايات المتحدة. وقد تزايدت جرائم الكراهية ضد الآسيويين الأميركيين بنسبة 339 في المئة منذ عام 2021، بما في ذلك إطلاق النار على مجموعات في مدينة “أتلانتا” في مارس 2021 ما أدى إلى مقتل ست نساء آسيويات أميركيات. وفي أعقاب غزو أوكرانيا قوطعت الشركات الروسية في الولايات المتحدة، وأوقفت شركة “ديزني” إطلاق فيلمها الجديد في روسيا. حتى إن إيريك سوالويل، وهو نائب ديمقراطي، ذهب إلى حد التوصية بـ”طرد كل طالب روسي إلى خارج الولايات المتحدة”، وتتردد في هذه الأمور أصداء مقلقة للإقصاء الذي شهدته فترة “الحرب الباردة”.
في المقابل، لقد شجب الرئيس الأميركي جو بايدن بحق أعمالاً عنصرية صريحة وأخرى نابعة من كراهية الأجانب، مورست ضد المهاجرين الروس والصينيين، ولكن السياسة المناهضة للعنصرية والمعارضة لمظاهر العداء للأجانب، لا تكون مجرد سياسة تندد بالافتراءات العنصرية أو المنطق الحضاري المتعصب، إذ يتوجب على سياسة كتلك أن تزيد أيضاً صعوبة الاتجار بالمشاعر العنصرية، بدلاً من أن تسهل [التلاعب] بهذه الأحاسيس. وعلى هذا الأساس، تفشل حكومة بايدن [في سياسة مناهضتها للعنصرية]. ومن دون قصد، تعطي كل إشارة إلى “التفوق في المنافسة على الصين” تشجيعاً للنزعة القومية العرقية في الوطن وخارجه. يجب على صانعي السياسة الأميركيين أن يفهموا أن شي جينبينغ يستمد قوة من التنافس، على غرار ما يفعله المتطرفون من أقصى اليمين في أميركا، وأصحاب نظريات المؤامرة وسياسيو واشنطن الديماغوجيون الذين يسعون لاسترضائهم.
واستطراداً، فإن أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين أمثال توم كوتون وتيد كروز وجوش هاولي، يجمعون في الوقت نفسه بين تأييد مصالح المجتمع الراقي [مجتمع الطبقات العليا] في واشنطن من جهة، ودعم اليمين المتطرف من جهة ثانية. كيف؟ إنهم يفعلون ذلك من خلال التذرع بخطاب الكراهية والترويج لسياسات الإقصاء التي تعجب أنصار نظرية تفوق العرق الأبيض وأصحاب نظريات المؤامرة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على قشور الشرعية الخارجية من خلال الزعم بأنهم يستهدفون الحزب الشيوعي الصيني، أو “الصين” بوضوح بالغ، وهي بمثابة “آخر” ينطوي على تهديد غامض ويوقع في شراكه مجتمع الأميركيين الآسيويين. وبعد أشهر من اندلاع الجائحة في عام 2020، دافع كروز عن استعمال ألقاب مشفرة بشكل عنصري تستهدف الصين، بما في ذلك “إنفلونزا كونغ” و”الفيروس الصيني”. كذلك عمد كوتون، بصورة شخصية إلى الاتجار بهذه الاستعارات [العنصرية] من قبيل “الخطر الأصفر” [التي توحي بأن الآسيويين يشكلون خطراً وجودياً على الغرب] واللغة المملوءة بصور وتعابير غايتها استقطاب الدعم [من جانب العنصريين وكارهي الأجانب]، كذلك كان راعياً مشاركاً لتشريع في ذلك العام من أجل منع الطلاب الصينيين من الحصول على تأشيرة دخول لدراسة العلوم، أو التكنولوجيا، أو الهندسة، أو الرياضيات في الولايات المتحدة. وقد شكل هاولي موضوعاً لعنوان رئيس في مجلة “فانيتي فير” جاء فيه “جوش هاولي يعلن بفخر عن نفسه كمؤيد لجرائم الكراهية” وذلك بعد أن أدلى بالصوت الوحيد ضد “قانون جرائم الكراهية الخاصة بكوفيد-19”. وخاض هاولي أيضاً حملة من أجل إعادة انتخابه استعمل فيها إعلانات تضمنت توصيف استيلاء رجال أعمال صينيين على المزارع الأميركية، ما أدى إلى إلصاق وصمة عنصرية بأولئك الذين يجب أن يسمح لهم بامتلاك أهم الأصول المادية الملموسة في اقتصاد الولايات المتحدة.
كذلك أتاح التحريض على هذا التنافس [بين أميركا والقوى العظمى] للمحافظين تجنب المحاسبة السياسية عبر تسييس السلوك الشرير الصيني، بدلاً من أن يتحملوا عبر صناديق الاقتراع مسؤولية السلوك الذي اتبعوه أثناء وجودهم في مناصبهم. ومثلاً، بعد وقت قصير من الهجوم في 6 يناير (كانون الثاني) عام 2021 على مبنى الكابيتول الأميركي، سألت “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) مايك بومبيو وزير الخارجية المنتهية ولايته آنذاك عن كيفية تأثير ذلك الحدث في صورة أميركا العالمية، فأجاب “أنا في الواقع أعتقد أن هذا السؤال هو عبارة عن دعاية صينية”. وبشكل مماثل، أصدرت اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ تعليمات إلى المحافظين ممن يترشحون لمنصب عام في 2020 تفرض إبلاغ الناخبين أن “فيروس كورونا كان هجوماً صينياً على طريقة (اضرب واهرب) [أحد تكتيكات حرب العصابات] تلته تغطية كلفت الآلاف من الأرواح”، وأن الديمقراطيين “متساهلون مع الصين”، إضافة إلى دعوتهم لممارسة “الضغط من أجل فرض عقوبات على الصين بسبب دورها في نشر الجائحة”. وتمثل هدفهم الصريح في تجنب إجراء الاستفتاء على السياسات المحافظة المطبقة خلال عهد ترمب وإساءة إدارته لاستجابة الولايات المتحدة للجائحة.
استطراداً، لا ينحصر التحريض على الكراهية باليمين السياسي، فبدلاً من إدانة سياسات الجمهوريين التي تسبب التهجم اللفظي العنصري وتبث الفرقة، يبدي عديد من الديمقراطيين شيئاً من الاهتمام بتلك الفرضيات نفسها. ولم يكن تيم رايان، وهو ديمقراطي مرشح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، بنادم على استعداده لإلقاء اللوم في المحنة الاقتصادية للعمال من أصحاب الياقات الزرقاء على بعبع الصين، عبر شعارات “الصين تربح والعمال يخسرون” و”نحن ضد الصين”، التي استخدمها في أحد الإعلانات. لقد تواطأ الديمقراطيون في خلق الاقتصاد الذي زج بملايين الأميركيين في وضع مالي غير مستقر، ولا عجب في أنهم أيضاً يفضلون إلقاء اللوم على الصين بسبب الحال الذي وصلت إليه الأمور بدلاً من التفكير في ذنبهم هم.
لقد راهن الديمقراطيون أيضاً على قدرتهم على كسب الدعم للاستثمار في البنية التحتية من خلال صياغة تشير إلى ضرورة تعزيز الولايات المتحدة المنافسة مع الصين على المدى الطويل، لكن وبشكل نافر وغير متوقع، رد الجمهوريون والديمقراطيون المحافظون بأن التنافس مع الصين قد يعني بدلاً من ذلك عدم الاستثمار في مستقبل الولايات المتحدة على المدى البعيد. ومثلاً، خرج السيناتور جو مانشين، وهو ديمقراطي من “ويست فيرجينيا”، بتبرير منطقي للتصويت في العام الماضي ضد تشريع “البناء بشكل أفضل من جديد” [الذي قدم الرئيس بايدن موازنة على أساسه، تشدد على الاستثمار الكثيف في البنية التحتية، ضمن أشياء أخرى] على أساس أن الولايات المتحدة في حاجة إلى الأموال لحالات الطوارئ العسكرية ضد الصين وروسيا. وفي وقت سابق من العام الحالي، انضم مانشين إلى كوتون في تحويل أربعة مليارات دولار من صندوق المناخ إلى البحث والتطوير في البنتاغون، مشيراً إلى المخاوف في شأن الصين.
وأياً كانت مزايا الإنفاق العسكري، فإنه يأتي بالضبط على حساب تمويل المشاريع التي من شانها أن تفيد بشكل مباشر الشعب الأميركي، تماماً على غرار ما حصل خلال “الحرب الباردة”. ويعني ذلك أن الديمقراطيين الذين يستغلون المنافسة الأجنبية كمفتاح لتجديد شبابهم السياسي داخلياً، يراهنون بشكل رديء يسيء فهم حقائق السياسة الأميركية.
جعل الزعماء الأقوياء أقوى
يؤدي التنافس الجيوسياسي إلى تداعيات مماثلة في الصين، إذ يعتمد الاقتصاد السياسي الصيني الذي يقوده نظام شي جينبينغ على الأوليغارشيين ممن يستغلون النظام الضعيف لحقوق العمال وعدم الاستقرار الشديد للعامل، ثم ينقلون أرباحهم إلى الخارج [حيث توضع في] استثمارات غالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر وموجهة من قبل الدولة. وتعتبر هذه العملية مصدر تمويل مبادرة الصين المسماة “الحزام والطريق” التي ترى واشنطن أنها تؤشر إلى طموحات الهيمنة لدى بكين. وبعبارة أخرى، لقد جرى بناء تأثير الصين الاقتصادي خارجياً على عدم المساواة والقمع في الداخل.
واستكمالاً، يؤدي التنافس إلى إطالة أمد هذه الدينامية. ولا يستطيع النمو الاقتصادي الذي يضفي القدر الأكبر من الشرعية على السياسة الاستبدادية، أن يمضي قدماً إلى الأبد في التصاعد بخط مستقيم. وحينما تنخفض معدلات النمو، وهذا ما يحصل حالياً بمعايير نسبية، يحتاج النظام الحاكم مصدراً بديلاً للشرعية. وبالنسبة إلى شي جينبينغ، يتمثل البديل بالقومية العرقية التي تعد بمنزلة الغراء الذي يحفظ تماسك النظام السياسي ضمن نظام اقتصادي استغلالي إلى درجة كبيرة.
وتعتبر القومية العرقية الصينية، شأنها شأن ابنة عمها الأميركية، مشكلة لأنها تولد العداء. ولا تدل دبلوماسية “وولف واريور” (الذئب المحارب) التي يتبناها الحزب الشيوعي الصيني، وهي الأسلوب العدواني في الدبلوماسية الذي جرى تبنيه في ظل إدارة شي جينبينغ [لا تدل] على شعور بانعدام الأمن بقدر ما تمثل واحداً من أعراض القومية التي يجري تأجيجها لأغراض سياسية متعمدة، إذ تعمل النزعة القومية العرقية عبر تبرير مشاريع التحديث الواسعة لجيش التحرير الشعبي، تماماً على غرار ما يجري استخدام المشاعر الشوفينية ذات المسحة العرقية نفسها في الولايات المتحدة من أجل تسويغ ميزانيات البنتاغون الهائلة، بالتالي فإن الرجعيين في واشنطن وبكين هم صورة طبق الأصل لبعضهم بعضاً، ويستفيدون سياسياً من التعاضد السلبي للتنافس بين القوى العظمى.
لقد أوضح التاريخ الحديث أن تنافس القوى العظمى لا يساعد في الجهود الرامية إلى إضعاف الحكام المستبدين، وقد ينتهي الأمر بهذا التنافس إلى تحقيق نتائج معاكسة، إذ لم تتمخض المنافسة بين القوى العظمى عن ظهور قادة من أمثال فلاديمير بوتين الروسي، أو رودريغو دوتيرتي الفيليبيني، أو رجب طيب أردوغان التركي، أو فيكتور أوربان الهنغاري. وفي المقابل، لا تستطيع تلك المنافسة أيضاً أن تدير القوى التي دفعت بأولئك القادة إلى السلطة كالقومية العرقية، والتفاوت الاقتصادي، والتراجع الديمقراطي، بالتالي فإن التنافس بين الدول ليس إطاراً عملياً صالحاً من أجل تحقيق تحسن ديمقراطي في الداخل. وبدلاً من ذلك، تجبر المنافسة الجيوسياسية الولايات المتحدة على تقديم تنازلات أخلاقية غير ديمقراطية باسم الديمقراطية. وفي اندفاعها لإقناع الجميع بأن “أميركا عادت” زعيمة لـ”العالم الحر”، رسمت إدارة بايدن معالم فروق تنضح بالنفاق في التمييز بين الديكتاتورية والديمقراطية، كأساس أيديولوجي للتنافس بين القوى العظمى، لكن تجنيد حكومات أجنبية لصالح أجندة سياسة خارجية معادية للصين ولروسيا يشكل سلوكاً انهزامياً، ويشكو من التناقض المنطقي، حينما تبرر تلك العقلية [بشأن الانخراط في التنافس بين القوى العظمى] ذاتها، دعم الولايات المتحدة طغاة ديماغوجيين من تركيا إلى الفيليبين وما وراءهما. ومن الممكن استثمار النفوذ السياسي المحدود للولايات المتحدة بشكل أفضل من ذلك [دعم الطغاة] بكثير.
وإذا بقي تنافس القوى العظمى أساساً وحيداً للاستراتيجية الأميركية الكبرى فإنه سيصبح دائرياً، بمعنى أنه يثبت سلامة المسارات العسكرية لروسيا والصين ويسوغ بيروقراطية الأمن القومي الأميركية التي تتمتع بقوة عظمى والمستعدة لخوض صراع لا ينتهي. وكذلك سيفشل ذلك التنافس في تصحيح مصادر الضعف الديمقراطي الذي يضرب جذوره العميقة في الهشاشة الاقتصادية، والفساد السياسي والعنصرية. وسيؤدي ذلك إلى انتخاب قادة مستبدين يشجبون الإخفاقات المحلية للولايات المتحدة ويربطونها بسياستها الخارجية الضعيفة المفترضة.
ونظراً إلى وجود رغبة مستمرة لدى الناس في رؤية الولايات المتحدة تستثمر أكثر في الداخل، فقد حان الوقت لتغيير المسار، إذ يبحث الأميركيون عن سياسة خارجية أميركية متماشية مع التطلعات الديمقراطية والرأي العام. وستبذل قوة عظمى حقاً قصارى جهدها من أجل معالجة القضايا المعلقة التي زادها الوباء، أي عدم المساواة العرقية والاقتصادية، وأزمة الصحة العامة، والتدهور البيئي الجامح. ولن يفعل التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى، أياً من تلك الأمور
مايكل برينس، المدير المؤقت لـ”برنامج برادي جونسون للاستراتيجية الكبرى”، ومحاضر في التاريخ في جامعة ييل.
فان جاكسون، محاضر متقدم في العلاقات الدولية في “جامعة فيكتوريا ويلينغتون بنيوزيلندا”، وزميل متميز في “مؤسسة آسيا والمحيط الهادئ” الكندية، وزميل “الدفاع والاستراتيجية” في “مركز الدراسات الاستراتيجية” بنيوزيلندا.
فورين آفيرز يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2022
المصدر: اندبندنت عربية