د- عبدالله تركماني
تتمثل إشكالية واقع جامعة الدول العربية، منذ تأسيسها في العام 1945 حتى اليوم، بعدم إيجاد صيغة لنوع من السيادة العربية الجماعية في بعض المجالات من دون التفريط بجوهر السيادة الوطنية لكل دولة عربية. خاصة على ضوء تعرّض النظام الإقليمي العربي إلى تهديد خطير من قبل النظام الإقليمي الشرق أوسطي، بعد بروز القوى الإقليمية الأخرى، إسرائيل وإيران وتركيا، وانحسار الدور العربي.
وإذا كانت محاولات إصلاح هيكلية الجامعة وتفعيل دورها قد جرت مرات عديدة في الماضي، فإنّ هذا الإصلاح أصبح اليوم أكثر إلحاحاً وأهمية. ويبدو أنّ الإصلاح المنشود يثير مجموعة من الأسئلة والفرضيات حول: تقييم عمل الجامعة وهيكلتها، وطبيعة التغيّرات التي ينبغي إدخالها لتحسين الأداء بهدف الاستجابة للتحديات.
إنّ الحاجة ماسة إلى نظام إقليمي عربي جديد يتكيّف إيجابياً مع التغيّرات الإقليمية والدولية، ويتمكن من التعاطي المجدي مع التحديات، ويستند إلى دول عربية عصرية تقوم على أسس الحق والقانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويدرك عناصر القوة الكامنة لدى الدول العربية ويفعّلها لما يخدم الأهداف المشتركة.
لقد أثّرت مجموعة عوامل في إضعاف أداء الجامعة، ومن أهمها:
(1) – غياب التمثيل الشعبي والمشاركة الشعبية في أجهزة الجامعة ومؤسساتها، إذ بقيت الجامعة ممثلة لسلطات الدول العربية فقط.
(2) – عدم وجود آلية لمتابعة مدى التزام الدول بقرارات الجامعة، وعدم الأخذ بالمنهج الوظيفي لتحقيق الأهداف المشتركة المقرّة في إطار الجامعة.
وهكذا، إنّ تحديد أهم العوامل التي أضعفت أداء جامعة الدول العربية يشير إلى خلل بنيوي وسلوكي، إذ يبدو أنّ الأمر يتعلق بضرورة إعطاء الجامعة سلطة ” ما فوق وطنية ” مقابل تنازل الدول الأعضاء عن جزء من سيادتها، كما أنّ تحوّلاً سلوكياً في اتجاه التوافق بين الدول الأعضاء على الحلول الوسط يبدو ضرورياً أيضاً.
إنّ إحياء دور النظام العربي يتطلب تعامله بنجاح مع تحديات خمسة:
(1) – المصالحة بين منطق الدولة ومنطق الأمة، إذ إنّ الدولة الوطنية تبقى المدماك لتحويل الأمة من انتماء وجداني إلى واقع حي وفعّال، خاصة من خلال التطور المؤسسي الشامل الذي يحقق المشاركة الفاعلة للقوى الاجتماعية والسياسية داخل كل قطر عربي والنجاح في إنجاز تنمية شاملة مجدية.
(2) – المصالحة السياسية، من خلال إطلاق حوار سياسي عربي ممأسس ومبرمج يضم فعاليات حكومية وغير حكومية، بغية إعادة صياغة العلاقات على قواعد ثابتة وواضحة ومستقرة، تسمح بإعادة تشكيل السياج الواقي للنظام العربي، وتساهم في إيقاف الانهيار والتفكك الحاصلين.
(3) – تجديد البناء المؤسسي وتكييفه مع التحديات السياسية والوظيفية الجديدة ليستطيع التعامل معها بفعالية، ومما قد يسهّل هذا التجديد أنّ ميثاق الجامعة يتيح المجال لإمكانية اعتماد مبدأ الملاحق لمأسسة بعض الوظائف والأدوار الجديدة، كما أنّ العالم يعيش ثورة تنظيمية هائلة تساعد في هذا المجال، وكذلك وجود العنصر الثقافي المشترك الذي يسهّل لغة وطبيعة التفاعلات بين مكوّنات الجامعة، خاصة إذا ما توفّرت الإرادة السياسية لذلك. أما مجالات التجديد التي تستوجب تركيز الإصلاحات عليها فهي:
(أ)- تطوير وظيفة الديبلوماسية الوقائية، من خلال إيجاد آلية لتسوية الخلافات العربية – العربية وإدارتها، وتفعيل ميثاق الشرف للأمن والتعاون العربي الذي أُنجز منذ سنة 1995، وإحداث محكمة العدل العربية بعد أن تبين أنّ وسيلتي الوساطة والتحكيم القائمتين على الترضية السطحية والوقتية غير كافيتين لتسوية النزاعات، والنظر في نظام القرارات في الجامعة.
(ب)- المجتمع المدني العربي، من خلال صيرورة الجامعة ” حزام نقل ” في الاتجاهين بين القرار العربي الرسمي من جهة وهيئات ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى، بما يفتح في المجال للقيم السياسية الحديثة مثل: الديمقراطية وعناصر الحوكمة الرشيدة، وبما يعزز البعد الشعبي العربي للجامعة ويوفّر الآليات لمشاركة كافة هيئات المجتمع في صياغة القرارات المشتركة. ولعلَّ تحقيق هذا التواصل يتطلب تطعيم أجهزة الجامعة بالخبرات العربية من خارج ” الكوتا ” الرسمية، كما يتطلب تفعيل ” الميثاق العربي لحقوق الإنسان “، وإحداث سلطة برلمانية شعبية عربية تمثل الدول الأعضاء عن طريق الانتخابات المباشرة.
(4) – صياغة العلاقات العربية مع دول الجوار، فإذا كان مستقبل العلاقات مع إسرائيل مرتبط بمدى فشل أو نجاح عملية السلام، طبقاً لمبادرة السلام العربية، وما يحمله كل من الاحتمالين من تحديات، فإنّ العلاقة مع إيران وتركيا تستوجب صياغة رؤية عربية استراتيجية لتحديد العلاقة مع كل من الدولتين ضمن أطر شاملة وذات آفاق مستقبلية، على أن نحذر من تغلغل النفوذ الإيراني في سورية ولبنان والعراق واليمن، وضرورة كف يدها عن التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، ومع محاولة إيجاد حلول عادلة لمشكلة المياه بين تركيا وكل من سورية والعراق ومتابعة تنامي العلاقات التركية – الإسرائيلية وتأثيرها على التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
(5) – إعادة صياغة علاقات النظام العربي على الصعيد الدولي انطلاقاً من المتغيّرات الدولية، التي ستؤول بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك من خلال إجراء تقويم بشأن كل علاقة ثنائية مع قوى العالم الجديد.
وإذا ما تم كل ذلك يمكن القول: إنّ الجامعة العربية منظمة إقليمية لها أهدافها ورؤيتها، وتمتلك آليات تنفيذ قراراتها، وتتمكن من إيجاد توازن من نوع جديد بين العالم العربي ودول إقليم الشرق الأوسط، قد يمكّن من فرض سلام عادل للصراع العربي – الإسرائيلي ونقل الصراع إلى مواجهة حضارية تتماشى مع قواعد اللعبة الدولية الجديدة.
إننا نعيش مرحلة انتقالية منفتحة على مختلف الاحتمالات خاصة على ضوء تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، إضافة إلى مآلات الاتفاق حول نووي إيران، وحالات فشل بعض الدول (العراق، سورية، لبنان، اليمن..). ولن يكون لنا ما نريد سوى بالتخطيط والعمل الاستراتيجي في المديين القريب والبعيد، للتعاطي المجدي مع الامتحان العسير في الأفق المنظور، فإما أن نتدارك مفاعيل الانفجار القادم بشكل إيجابي، أو تُفرَض نظم إقليمية أخرى تمسخ الطابع العربي للمنطقة.