علي محمد شريف
“إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي سيطلق المستقبل نيران مدافعه عليك” رسول حمزاتوف.
ما الذي حدث وكيف، تساؤلات ممضّة سيضاف لها لاحقاً: من ولماذا ومتى وأين..؟. إنها لحظة الحقيقة الصادمة آتية بلا ريب بكل ما تحمله من قسوة وألم وأمل، حيث تخرس البنادق وتهدأ الجبهات لتبدأ دوّامات الأسئلة في محاولة لاستعادة حكاية لم يكتب فصلها الأخير بعد.
هل يمكن بناء علاقة تصالحيّة مع الماضي بديلاً من الرعب والقهر المصاحبين لحضوره والمحاولات المضنية لنسيان تفاصيله المؤلمة…؟
كيف لنا، نحن الضحايا، أن ننسى، وهل يمكننا أن نتجاوز عن الجرائم والارتكابات التي نكابد آثارها الكاوية، أن نبتلع الأسئلة المقلقة ونمحو من ذاكرتنا صور ضحايانا وخساراتنا الكبرى، وأن ” ندفن” مفقودينا في قاع المجهول؟
سيكون النسيان أشبه بخيوطٍ من الفولاذ تلتفّ على عنق الحقيقة وتنسج للضحيّة كفنا يضمن خلودها في الجحيم.
لا يمكننا قتل الماضي ولكن قد يبدو أمر ترويضه ممكناً. علينا، بداية، أن نطيح جانباً بمخيلتنا المنحازة، وبرواياتنا وتصوراتنا الذاتية عنه. ينبغي الوصول إلى الحقائق التي ينطوي عليها والإلمام بعناصرها وآليّات تشكلها، ومعرفة أسبابها وسياقاتها وتسلسلها الزمني، سيغدو كلّ تفصيل فيها مهمّا للبناء، فالماضي حاضر في أذهان الجميع، بل هو الذاكرة المستمرة التي تقضّ مضجع الجاني والضحية، لكنّ الماضي دون معرفة الحقيقة أشبه بالنفق المظلم الذي ينهض كشبح مانعاً أيّ شكلٍ من الألفة أو التصالح معه، بل أكثر من ذلك إنّه حالة تهديدٍ دائم تستحيل معه الحياة الطبيعية المستقرّة.
ولكن ماهي الحقيقة وما السبيل للوصول إليها ومن يضمن للمعنيين بها وصولهم إليها ويلتزم بتطبيق مقتضياتها؟
معرفة الحقيقة حق مستقل غير قابل للتصرف ومرتبط بواجب الدولة والتزامها.. يرتبط هذا الحق ارتباطاً وثيقاً بالحقوق الأخرى وله بعد فردي ومجتمعي في آن معاً وينبغي اعتباره حقاً لا يجوز المساس به ولا يمكن إخضاعه لقيود.
وفق هذا التعريف الأمميّ يمكن النظر إلى أهمية معرفة الحقيقة بوصفها حقّا ًللفرد والأسرة والمجتمع، وواجباً منوطاً بالدولة..، وباعتبارها الأساس والمزوّد بالمعلومات والوثائق لجميع العمليّات التالية في إطار العدالة الانتقالية، بما فيها المساءلة والمحاكمة الجزائية وبرامج جبر الضرر والتعويض، الرامية لتحقيق العدالة والانتصاف للضحايا والوصول للمصالحة والمسامحة، وبالتالي تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في الدول التي تعرضت للانتهاكات الخطيرة عبر ردح طويل من الاستبداد والطغيان، والنزاعات المسلحة الداخلية.
ولكن أيّ التزام يمكن أن تفي به دولة محتلّة ومصادرة من قبل أجهزة أمنية وعسكرية ودول تقوم هي ذاتها بارتكاب الجرائم والانتهاكات؟
كيف نبني روايتنا الوطنية لماض طويل من الاستبداد ما يزال يمارس عبثه في حاضر سورية ويتحكم في مستقبلها، إن لم نقل يكاد يقضي على وجودها. فالطاغية ماضٍ بالتشبث بالسلطة، مستمرّ عبر آلة قمعه العسكرية والأمنية بارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتهجير والإخفاء القسري والاعتقال والتعذيب المفضي للموت..، كما أنّ بعض الفصائل والمليشيات، خاصة الطائفية والمتطرفة، كان لها حصتها من الارتكابات وإن بنسبة ضئيلة مقارنة بالحجم الهائل لجرائم النظام الحاكم.
ثمّ لو حدث انتقال سياسي وفق مقررات جنيف والقرار 2254، هل نحتاج حقاً لتوثيق حكايتنا الفجائعية وكتابة مصفوفتنا السردية عنها، وهل ستكون معرفة الحقيقة حينها ممكنة. ما الذي يدفع بالسوريين جميعهم للاعتراف بالحقيقة، وللتوافق على سرديّة واحدة تشكل تاريخهم القريب، ولأن يتنازل كل فريق عن روايته المنقوصة المشوبة، ربما، بالوهم والزيف والتصوّرات المسبقة، وكيف له أن يتخلص من مظلوميّته وأحقاده ومخاوفه لصالح رؤية منصفة للأحداث والوقائع، وينتقل برؤيته للآخر من كونه مسؤولاً عن مأساته وشريكاً في الجريمة إلى النظر إليه كضحيّة وشريك مثله في المآلات والمصير.
لا بدّ من معرفة الحقيقة لتحقيق العدالة وصياغة وعيٍ جديد وهوية وطنية راسخة، وللخروج من شرنقة الماضي وأسئلته التي تجرح الروح وتذبح القلب، إنّ أهمية معرفة الحقيقة بوصفها حقاً ثابتاً ومستقلاً، وباعتبارها آلية رئيسة من آليات العدالة الانتقالية ترتبط بها العديد من الحقوق والقضايا والآليّات، وكونها شرطاً لمنع تكرار الانتهاكات الخطيرة ولعدم تجدّد العنف، وأساساً ومدخلاً للوصول إلى المصالحة الوطنية والسلم المجتمعي..
إنّها حكايتنا السوريّة الناقصة التي تنتظر نهايتها العادلة، ودون الحقيقة لا يمكن تدوين هذه النهاية وستبقى الحكاية المبتورة جمرة في الحلق لا تنطفئ، وجرحاً مفتوحاً على عوامل الإنتان والموت.
المصدر: إشراق