في زمن ما، وفي مكان آخر، ربما كان لصرخة مظلوم، وقعها وصداها في الضمائر، كي تحافظ البشرية على ماهيتها الإنسانية ومعنى وجودها. إذ ليس صدمة أخلاقية فحسب أن تتبدد صرخات ملايين المعذبين، في الزمن السوري الواقف على ناصية الإنكار، فاللغة التي تعبّر عن فواجع وفظائع هذه الرقعة من العالم، لازالت مفرداتها عصية على الوصول إلى نخاع الألم والحقيقة. كل معرفة أوسع بخارطة الخرائب والنكبات السورية، تكشف ما هو أكبر من كل تصور، عن سقوط غير مدوي لتواريخ الأنسنة، في غفلة عارمة يزيدها ضجيج السياسة نفوراً من يقظة الحواس. فما يصل إلى شعوب بعيدة لا تعرف عن سوريا سوى أنها ساحة حرب، يتحول لديهم إلى خبر شاحب حالما يغوصون في تفاصيل المشهد ومآسيه، فيما يمضي كل شيء كأنه سياق غرائبي لأسباب مبهمة لا تثير فضول النخب المعوّلمة. ثمة هباء في المعنى كلما طفح الوجع وغاب بصيص أمل يخفف من ضراوة الفجيعة، فكيف حين ينعدم اليقين؛ بأن كل شرائع هذا الكون فشلت في تعطيل ماكينة القتل والإجرام، وحلَّ بدلا منه شكٌ راسخ بأن قضية السوريين، ملف عالمي وإقليمي من العيار الثقيل، لا يجوز لصرخات الضحايا أن تحرف أنظار اللاعبين عن أدوارهم فيه. سبع سنوات كانت كافية جداً، كي يتحول العالم إلى قرية كونية في التفاعل الإنساني، وليس مجرد أثيراً خالياً من نبض الأرواح. كانت كافية على الأقل كي لا يمر كل هذا التوحش والجنون بلا ثمن أو ضريبة. لم يخطر على بال من حلموا بوطن حر بعد أن طافت أواني الصبر، أن يسألوا عن الفارق بين القضايا الخاسرة وتلك الرابحة في نظر صنّاع المعايير والأحكام، ركنوا مطمئنين أن الحرية والكرامة، بداهة فطرية لا تقبل الخلط بين الحق والباطل، وأن حركة التاريخ مهما تعثرت بين الأرجل ستواصل صعودها نحو الجلجلة. حتى في أشد لحظات الخيبة واليأس، تشبثوا بما يؤمنون به، كي لا يكون موتهم نذير موت القيم على مذبح الخذلان. لم يشفع لروايتهم الممهورة بالدم، أن تجد من ينقذها وينتشلها من عمومية الوصف، فلا تبقى قرينة نزاعٍ بين أطراف وأذرع، تختلط فيها هوية الجلاد والضحية في نشرة أخبارٍ صماء. كان الانتظار فقط هو الجواب المعلّق على حبال الوهم، لا يُطعم طفلةً جائعةً بين أضلاع الحصار، ولا يهدئ روع أمٍ تنتظر ولدها المعتقل في زنازين الغياب، ولا يستثير سوى تجار الحروب والمشاريع والويلات، ممن نقلوا البنادق من كتفٍ إلى كتف، واستبدلوا المصطلحات وفق هوى الممولين، فأضحى التهجير القسري في أديباتهم الاستشراقية “هندسةً ديمغرافية” والمهجرون من بيوتهم ظلماً، موضع عدالةٍ انتقالية ناعمة الخدين.
من مجزرة إلى أخرى، ومن كارثة تليها مذبحة، واظب “حراس التمدن والحداثة ” على تلاوة الخطب الرنانة، عن البلد التي أرهبت “الحضارة” بشعبها المذبوح، ومن فرط شلالات الدم في ركام مدائنها وأريافها وشوارعها، أصاب السأم مجلس المدافعين عن حقوق الإنسان، فرقص نشطائه على إيقاع جراح وصرخات ايتامها، فيما وقف الموت اختناقاً بالكيماوي، حجر عثرة أمام بيانٍ دولي بلا أثرٍ أو قيمة. سبع سنوات والأبد الأسدي يحصد البشر والحجر، فيما يواصل هذا الكوكب العائم على بحور التدليس والنفاق، حياته العادية بلا دهشة أو ارتياب. لا يكف عن السقوط في هاوية التنكر والإنكار، ويبتعد أكثر وأكثر عن منطقة أصابها الوباء، وعن شعبٍ كُتبَ عليه الفناء كي لا يؤرق الفلاسفة بهزيمة الفضيلة والأخلاق، ولم يكن عليه أن يثور كي يحيا، طالما أنه مستثنى من نهاية التاريخ السعيدة. المتاح الوحيد في هذه السردية المغلقة، أن يكون السوري لاجئاً في بلاد تحتاج أطفاله كي يتجدد شبابها، أو كاتب تقارير لدى أجهزة استخباراتها، أو قطاً يتسمّن على موائد منظماتها، أو قرداً في مختبرات المناعة من لوثة “التطرف والإرهاب” كل ذلك هو معيار التفاعل العربي والأممي مع السوري الممكن قبوله وهضمه، أما السوري الإنسان؛ الذي يواجه التنكيل والموت بكل صنوف الأسلحة، ويختبر الحصار والجوع والاعتقال، ويحمل قهره في دروب التهجير القسري، فهو السوري الشهيد الحي، وما عليه سوى أن يدفن حلمه بالحرية في وطن استحال مقبرة. هذا السوري المُغيّب في معايير التسليع والتعليب البشري، وتحت وطأة قوانين شريعة الغاب، هو النموذج الصارخ لكل ضحايا الاستبداد والاحتلال والنهب، في بلاد العرب المستباحة بلا حدود، هو الفلسطيني والعراقي واليمني، ومن ينتظرون الانضمام إلى قوافل الجحيم المفتوحة. هو يوسف العربي الذي تبرأ منه أخوته قبل الغريب، ولازال يحمل صليب أوجاعه بين خيامٍ تفترش بقايا آدميته المهدورة، ويكتب على طينها حكايته الموزعة بين أنياب القتلة الطامعين.