منذ انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، أظهرت تركيا نجاحا في تحقيق توازن دقيق بين حلفائها الغربيين وشريكها الاقتصادي روسيا. وتتجلى هذه الاستراتيجية في مفاوضات دبلوماسية واسعة والوساطة المستمرة بين كييف وموسكو. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تتعرض لضغوط متزايدة مع استمرار الحرب وتصاعدها.
ومن ناحية، أثبتت أنقرة موثوقيتها كعضو في الناتو حيث كانت تركيا من أوائل الدول داخل الحلف التي قامت بتزويد أوكرانيا بأسلحة مهمة. وتركزت المساعدات العسكرية على الطائرات بدون طيار، خاصة “بيرقدار” التي أثبتت فعالياتها القتالية وقلبت الطاولة ضد القوات الروسية. ومنذ 24 فبراير/شباط، أرسلت تركيا حوالي 50 طائرة بدون طيار إلى القوات المسلحة الأوكرانية.
إلى جانب ذلك، قدمت تركيا حلولًا لبعض المشكلات الاستراتيجية الملحة في أوكرانيا. وبعد أيام قليلة من بدء الحرب، سارعت أنقرة إلى استدعاء اتفاقية مونترو وإغلاق مضيق الدردنيل والبسفور أمام السفن الحربية الروسية. ووسط حصار ميناء أوديسا وأزمة الغذاء العالمية، عملت أنقرة مع الأمم المتحدة لإنشاء “ممر الحبوب” الذي مكّن السفن المحاصرة في الميناء الأوكراني من الإبحار إلى الأسواق الدولية.
بالإضافة إلى ذلك سهلت تركيا عمليات الإجلاء واللجوء السياسي الاستثنائية. ومن الأمثلة المهمة هنا الاتفاق الأخير مع الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلنسكي” على احتضان قادة كتيبة آزوف حتى نهاية الحرب. وتمثل آخر دور لعبته أنقرة في تسهيل تبادل السجناء بين روسيا وأوكرانيا في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي.
ومع ذلك، راعت أنقرة القيود الاقتصادية والجغرافية التي تفرضها علاقاتها مع موسكو، حيث تشترك تركيا في الحدود البحرية مع روسيا، ويعد توازن القوى بين موسكو وأنقرة أمرا بالغ الأهمية للأمن في منطقة البحر الأسود، ولدى البلدين أيضًا روابط اقتصادية لا يمكن إنكارها. علاوة على ذلك، أبدت روسيا مرارًا وتكرارًا استعدادها لسد الثغرات في متطلبات الأمن الملحة في تركيا، وقد تجلى ذلك في تزويد تركيا بمنظومة الدفاع الجوي الروسية “S-400”.
لذلك بينما يعزز “أردوغان” القدرات العسكرية لأوكرانيا أمام العدوان الروسي، فإن الرئيس التركي يجذب أيضًا “بوتين” بقوله إن تركيا يمكنها أن تعتبر مقاتلات “سوخوي 35” الروسية بديلاً لتحديث طائرات “إف16” الأمريكية. كما ترتبط روسيا وتركيا بمشاريع استراتيجية للطاقة، بما في ذلك محطة “أك كويو” للطاقة النووية والخطة الأخيرة لمشروع خط أنابيب ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
ومع ذلك، قد يؤدي استهداف الصواريخ الروسية والمسيرات الإيرانية للأهداف المدنية والبنية التحتية الأوكرانية إلى تحول تركيا تمامًا ضد روسيا. لكن ذلك يتطلب اعترافا من قبل الغرب بالمخاوف الأمنية المشروعة لتركيا. وفي هذه المرحلة، سيكون تعزيز الثقة بين تركيا وحلف الناتو أمرًا بالغ الأهمية.
وعلى مدى عقود، كانت استراتيجية “الفصل بين الملفات” التركية ناجحة في معظم الظروف. ومع ذلك، قد يكون دور أنقرة كوسيط في أزمة أوكرانيا شارف على نهايته. ويظهر ذلك في بيان وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” في أوائل أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وقال “جاويش أوغلو” إن أوكرانيا وروسيا “ابتعدا بسرعة عن الدبلوماسية”. ويعد هذا التوازن في إلقاء اللوم منطقيا حيث تعتمد تركيا على روسيا في مختلف القطاعات الحرجة، بما في ذلك الطاقة والسياحة والأمن.
وبالرغم من الخطط الجديدة لتحويل تركيا إلى مركز للطاقة لنقل الغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية، فإن تشغيل “ترك ستريم” قد لا يكون في مصلحة بعض حلفاء أنقرة الغربيين.
وبالرغم أن هذا المشروع سيصب في مصلحة “أردوغان” محليًا، إلا أنه قد يضع تركيا في موقف أكثر صعوبة في مواجهة الولايات المتحدة، التي تحاول تقليل اعتماد الغرب على روسيا في مجال الطاقة.
وفيما يخص الجانب المالي، يتعرض النظام المصرفي التركي لضغوط متزايدة من الغرب، مما أدى إلى قيام البنوك التركية الكبرى بتعليق العمل بنظام مير الروسي. ويدفع هذا القرار تركيا إلى التفكير في بدائل أخرى لإنجاز المعاملات مع روسيا، خاصة مع انتقال الشباب الروس الفارين من التعبئة إلى تركيا بأعداد أكبر. كما أن حاجة موسكو لطرق العبور قد تضع مزيدًا من الضغط على أنقرة.
وتحت ضغط روسيا والناتو، تمشي تركيا على سطح هش، وقد يصبح أكثر هشاشة مع اقتراب فصل الشتاء. وفي الواقع، فإن تشجيع أنقرة على اتخاذ القرار الصحيح تجاه حلفائها في الناتو يتطلب حوارًا مفتوحًا يركز على المصالح المشتركة واعترافا بمخاوف واحتياجات تركيا الأمنية.
المصدر | سينا أوز كاراشاهين/ جيمس تاون – ترجمة وتحرير الخليج الجديد