عبد الباسط حمودة
نعيش في حقبةٍ مُظلمة، هذه الحقبة هي عصرٌ من عصور التاريخ بسقفٍ كئيب يعكس أوضاع الإذلال السياسي/الأخلاقي وحتى الديني، إنه وضعٌ اغترابي يواجه مجتمعنا وبالذات منه الوسط الديني الإسلامي، ويواجه عالماً يتعرض إلى تغييرات هائلة نقف أمامها مذهولين لا حيلة لنا تجاهها سوى الخضوع!، والإحساس العميق بالمسؤولية التاريخية يدعونا إلى التسامح والسماحة باعتبار ذلك من أولويات الإيمان بالله والحرية فضلاً عن أولوية ذلك في الدين، أي دين، ويتكامل هذا الإحساس بتقبل الاختلاف وقراءة التراث بعينٍ معاصرة هدفها الإنسان أولاً، وأن الدين والتدين كظاهرة إنسانية اجتماعية سياسية، تبدو مقلقة بالنظر إليها بالترابط مع العلم والقانون وتطورهما، فما زالت الحقبة المُظلمة تسكن الكثير من عقولنا، وتتحكم في سلوكنا وتهيمن على عاداتنا وتقاليدنا لتفرض الركود والرتابة، وتجرّنا للماضي بدلاً من التطلع للمستقبل.
ففي عالمٍ عربي وإسلامي مفتت، تتقهقر فيه المعرفة، ويتكاسلُ العقل، وتنمو وتتبرعم العصبيات، يأتي الحديث بموضوع العلاقات بين أفراد المجتمع العربي والإسلامي وأهمية الفرد والأفرادية، ليعيد إلى العقل مغامرة التساؤل، وللإيمان رفعة الروح وقيمة الإنسان التي جاءت بها رسالات السماء وتم تبديدها بهذا القدر أو ذاك، ولقد مرت عصور وأحقاب طويلة تم وسمها بالإسلامية كلها!، فهل كانت تمثل جوهر الدين ومندرجاته الاجتماعية؟ أم أنتجت ديناً أرضياً موازياً؟ ألم تكن عبارة عن صراعات سياسية داخلية بلبوس ديني؟ ألم يحاول فريق تسيُّد المشهد الإسلامي وسحب الإسلام لصفه ودمغ الآخر المعارض بالكفر؟ إلى أي درجة كانت السلطة قابعة في كل ذلك؟ هل نكتفي بقراءة التاريخ دون عبره ودروسه؟ أم أن الضرورة تقتضي فهمه وتفنيده والإفادة من أخطائه بل من خطاياه أيضاً؟
إن معرفة التاريخ ووعيه هو كشاف الحقيقة ومدخلها، وتاريخنا العربي الإسلامي منذ الراشدين فالأمويين والأندلسيين والعباسيين فالسلاجقة والقرامطة مع الفاطميين والأيوبيون والبويهيين وتفرعاتهم وإماراتهم المتناثرة، وصولاً إلى المماليك والعثمانيين كان صراعاً سياسياً على الحكم، وكل المعارك والسجالات الفكرية الدينية لم تكن بعيدة عن مسائل السلطة، وجميع الأفكار كانت تسعى لكسب المشروعية بلبوسها لبوس الدين، وبتفسيرات خدمت السلطات تحت ما سمي فقه الوقائع، بقلب الموقف السياسي لموقف ديني عقدي، وبذلك تحول الإسلام إلى إسلامات كلٌ منها بفقهٍ ومذاهب مختلفة ومتخالفة غالباً، الأمر الذي أورثنا ما نحن عليه من تشظٍ واحتراب وتخثر!
فمَن دفع ضريبة هذه النزاعات والصراعات غير الإنسان الفرد، وكلها بعيدة عن رحمانية وسماحة الإسلام، وبالتالي دفع ضريبتها المجتمع كله، الذي يُعاد تشكيله بكل مرحلة وفق غايات ومصالح الحكم والسلطة، تحت تبريرات فقهية دفعتنا ومازالت إلى النكوص والتذرر المذهبي والأقوامي، والجميع يزعم الإيمان بنفس المصحف الكريم الذي أنزله الله ليكون ناظماً ليس للعبادات فقط بل للعلاقات الاجتماعية وفض النزاعات بشكل سلمي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13] كل ذلك ضمن أمة واحدة (إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ)[الأنبياء: 92]؛ فلماذا كان التفرق والتشتت والتشدد المذهبي، الذي أورث شعوبنا هذه التلاوين الإرهابية الميليشياوية التي تتلطى بالإسلام وتستلُ من مكتبة فقهه ما يبرر نهبها وجرائمها فضلاً عن عمالتها لأعداء الأمة خاصةً إيران، وهو ما نعيش تداعياته في ثورتنا السورية بعديد المسميات الإسلامجية، سنية وشيعية؟؟ أليس الظلمُ ظلامٌ ودمار وخرابٌ للديار؟ فلماذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة للمدينة؟ هل هاجر بسبب كفر أهلها أم بسبب ظلمهم؟ وهل أمر أصحابه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة لإيمان حاكمها أم لعدالته؟ وإلا كيف تم دعم التنظيمات الإسلاموية الإرهابية؟ ألا يمثل ذلك وجهاً آخر لمعاداة الإسلام؟!
أمام هذه الصورة القاتمة، نحن بحاجة للانفتاح والاستعداد لتفهم واستيعاب ما يجري بالقرن21، هذا يعني أنه علينا أن نفهم روح العصر باختيار الطريق الصحيح للتفكير المتمثل بالعقلانية، ويتناول بالدرس والتحليل مفاهيم الدين والعقل والواقع، أي يبحث عن دين العقل، بعقلنة الدين وفهم الواقع، فلقد أصبح الاهتمام بقضايا المجتمع ودراسة الظواهر الاجتماعية علمٌ له أصوله ومصادره التي تتطور مع تطور الحياة بشكل مستمر، وبناء الأسرة على أسس تربوية سليمة، وفهم المشكلات التي يقع فيها الأزواج ومشكلات التربية بوجود الأبناء، ودراسة الظواهر السلوكية والمظاهر الدينية والعقائد والأفكار والثقافات والطبقات الاجتماعية والعرقية، كلها تحتاج إلى وعي وعلم بكيفية التعامل معها وفهم فروعها وتفاصيلها، دون خلطها بالدين، أي دين، بل هي علوم تتطور مع البشر وتنهض بنهوضهم بحيادٍ عن الدين ومندرجات السياسة، أي فصلُ القداسة عن السياسة.
إن علم الاجتماع يتناول العلاقات على مستوى الأفراد والمؤسسات لتحقيق المصالح الفردية والعامة، ضمن ضوابط وأطر تسهم في البناء السليم لهذه العلاقات، فهي تعني المؤمن وغيره، من خلال المراقبة الذاتية وسيادة القانون، وأن ما هو إيماني جزاءه بالآخرة، مع مراعاة الضوابط التي تقوي الأمة وتحميها من الفرقة والشتات، وما يترتب على ذلك من ثواب وعقاب (مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ)[فصلت: 46]، فهل كانت المبادئ الإسلامية السامية مرعية خلال الحقب السابقة كلها؟ أم تم التعاطي معها بشخصنة تخدم السلطات والحكام والأمراء، وهو الأرجح دائماً؟ لهذا كان تخلفنا الفردي والجماعي، والانهيار عند كل الامتحانات ذات الصلة بمصالح الحكم والحكام!
فماذا فعلنا بالمساواة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13]، وماذا فعلنا ببر الوالدين (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الإسراء: 23]، وإغاثة الملهوف والعلاقة بالأرحام، وجميع الخُصل الحميدة والتعاليم الإسلامية التي تحض على التعاون والود والمحبة، ألم تُستخدم شعارات وعناوين لكسب الرأي العام الإسلامي، دون تطبيق حقيقي لها، كجزء من عدة الشغل لما يسمى رجال الدين؟ وهل المرأة حقاً عورة وناقصةُ عقلٍ ودين، وهي تمثل نصف المجتمع؟!، هل هذا ما أراده المُشرع العظيم أم تحريفٌ واضح لمقاصده، بُني عليها تاريخٌ من الإقصاء والاستلاب؟، إنها مسألة حساسة وشائكة في ظل فقه ذكوري، وتقاليد اجتماعية متخلفة واستعلائية، وبمواجهة الحديث عن دونية النساء نجد أن الإنسان مفردة حياتية ترمز إلى الرجل والمرأة والكرامة الإنسانية الواحدة، لكن الصدام الكبير أو التحالف التاريخي الظالم هو بين قوانين الأحوال الشخصية الجائرة والأحكام الدينية الأرضية الظالمة.
فلم يعد من الممكن للمُجرمين من حكام سورية والعالم العربي بعد ثورة 2011، أو لعُلماءِ الدين المفتونين بأنفسهم ومكانتهم في المجتمع، أن يُدَغْدِغوا عواطف الشّعوب بِمَنحِها من دين الله ما يُسكتها عن اِستلاب الدين كلّه، بأبعاده الرّبانيّة الحضاريّة الأخلاقيّة الإنسانيّة!، فافتِتّاح معاهد تحفيظ القُرآن، والسَّماح بِحلقاتِ العِلم بالمساجد، وتصديرِ الدُّعاة المحلِيّين للفضائيات، والسماح للمسلمات باِرتداء الحجاب في بلادهن المسلمة!!، ما عاد يُغني النّاس عن روح الدين، التي اِستَلَبها مِنهم الطُّغاة لتركيعِهِم، وصَمَتَ عن استِلابِها أشياخُ الدين، لِتسكين آلامِ قيودِ العُبوديَّة في الرِّقاب، ظنّاً منهم، بأنهم إنما يَحفظون هُويّة المُجتَمَع، ببعض مَظاهِرَ التدين على هامِش هذا الاِسْتِلاب المَهول، إنه تحالُف الطَّغاةِ المُزمِن مع رجال الدين في بلادنا، يُتاجر المُستَبِدون من خلاله بدين الله، ويُقايّض مُدّعو العِلم فيه بعضَ الدينِ بالدينِ كلّه، روحه ومبادئه ومعاملاته وآدابه وقيمه العُليا وربانيته، وإن أول ما سقط في ثورتنا السورية، ذلك التحالف البئيس بين حكامٍ مُتوحشين ورجالُ دينٍ مُستَلَبين ومُنبَطحين ومنافقين، كائنةً ما كانت قُدرةُ أولئِك على البطشِ والإرهاب، وبالِغَةً ما بلغت قُدرةُ هؤلاء على التَّفَيْهقه والمُداراة والمُحاباة.
الدين لا يُصنع تبعاً لإرادة الإنسان، أو بعمل عقلي محض، إنه ينتج عن ظواهر خارجة عن تلك الإرادة، واللحظات التاريخية هي التي تعمل لظهوره، إذاً الدين ينطلق من تجربة عميقة فيها معاناة إنسانية، وجدانية وعاطفية، إنه ينطلق من أرضية بحث الإنسان عن معنى لوجوده، ففي تاريخ الفلاسفة الكبار نهاية العصر الوسيط، اندلعت تجربة اجتاحت أوروبا في وقتها، وهي تجربة النقاش الجدلي بين أصحاب المعتقدات الفلسفية المختلفة، لم يتركوا أي جانب بالحياة دون مناقشة أو جدل وسِجال يتحوّل في أحيان كثيرة إلى صراع حاد بين المفكرين، من أصحاب الاجتهادات المختلفة، ومن جراء ذلك ظهرت دراسات ومعلومات أثَرَتْ وبِعُمق في حياة المجتمعات وتطورها.
إنه دين العقل، وهدفه هو إصلاح المجال الديني بإضفاء صفة العقل والعقلانية عليه، وخصوصاً لا يوجد فهم واحد موحد للدين، فإننا إذاً بحاجة للعقلانية لكي يصبح الدين دينُ المعرفة والعقل لا دينُ الجهل والخرافة، وإن القراءة هي الحياة ومستشفى العقول (ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ)[العلق: 1] بل هي حيوات أخرى يُضيفها القارئ لحياته من خلال الاطلاع على عُصارة الخبرات والأفكار التي يضعها الكُتاب في كتبهم، فيكتسب القارئ مزيداً من الملكات الفكرية والقدرات الإدراكية في النقد والتحليل، وإن هناك ترابطًا بين التاريخ والاستنباط والاجتهاد، فالوعي بالتاريخ لا يعني استعادته، بل استحضار تجاربه بما يفيد الحاضر والمستقبل، وهذا جزء من مهمة الاجتهاد، وهو ما يؤدي لتجديد الخطاب الديني، فلا تجديد دون اجتهاد، أي استنباط الأحكام وفق المتغيرات والمستجدات والتطورات التي تحدث في المجتمع، حيث (تتغير الأحكام بتغير الأزمان).
إن المنهج النقدي العقلاني قاد إلى اكتشافات علمية، ولأجل تحرير السياسة من القداسة وتخليص المجتمع من الخرافات، ينبغي اعتماد العقلانية، ونقد كل القضايا بما فيها القضية الدينية، لكن هذا الشرط يحتاج إلى ترسيخ الحرية الفكرية، كمشروع تنويري لتجديد الفكر الديني، وتقديم تفسير جديد للنصوص الدينية المقدسة وفق أساس عقلاني، وهذا المنهج العقلاني يهدف لإقامة مجتمع إنساني حر.
المصدر: إشراق