د- عبدالله تركماني
لا يشمل مفهوم الأمن القومي الصراعات المسلحة على الحدود فقط، لكنه يشمل أيضاً قضايا الداخل الوطني، أي إقامة دولة الحق والقانون لكل مواطنيها المتساوين في الحقوق والواجبات، وكذلك الدفاع ضد الجريمة المنظمة والمرض والكوارث الطبيعية والبيئية والإرهاب، إضافة إلى مواضيع اقتصادية واجتماعية كالفقر والصحة والتعليم والهجرة. فقد أثبتت الأحداث أنّ القوة العسكرية عنصر من عناصر القوة الشاملة للدولة، وهي أقل فاعلية اليوم عما كان يحدث في الماضي، إذ أصبح الصراع بين الدول يعكس مجموع عناصر قوى الدولة في المجالات المختلفة.
لقد أظهرت السنوات السابقة في الألفية الجديدة أنّ القوة الصلبة لم تتمكن، كما أظهرت الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق، من حسم المواقف في الميدان. وترتيباً على ذلك فإنّ عالم اليوم سوف يرى استخدام القوة الناعمة متمثلة في الردع دون استخدام القوة، بل بالتهديد بها وفي الإقناع والحوار والتفاوض، إذ أظهرت الأحداث أنّ الإفراط الأميركي في استخدام القوة الصلبة أدى – عملياً – إلى أن فقدت مصداقية ما تعلنه من أهداف ديمقراطية، مما سيفقدها تأثيرها على المدى البعيد، وهذا يقودها إلى التورط مما يدفعها إلى الانسحاب، أو تقليص تواجدها العسكري، حتى لو تدثرت بورقة توت، إذ أصبح الجميع قادرين على العقاب والعقاب المضاد.
إنّ الأمن العالمي لم يتحقق، فعلى الرغم من أنّ التحديات لا تفرق بين دولة وأخرى بين الشمال الغني والجنوب الفقير، فإنّ جداول أعمالها متباعدة. فإذا كان الكل يتحدث عن تضييق الثغرة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، إلا أنّ دول الشمال الغنية لم توافق على إلغاء الدعم التصديري على الصادرات الزراعية. ومعنى ذلك أنّ دول الجنوب النامية تحاول تحقيق أمنها القومي في ظل نظام عالمي لا يؤمن بالأمن المتبادل وينفذ الشرعية الدولية بطريقة انتقائية، ولا يريد تحقيق العدالة للدول النامية.
ويبدو أنّ سمات نموذج الأمن القومي الجديد بدأ يتشكل انطلاقاً من قاعدة مفادها: إنّ مصدر الخطر الأكبر على الأمن القومي لن يأتي من الدول التي قد تمتلك أسلحة الدمار الشامل فقط، وإنما من الفجوة الكبرى والعميقة بين الدول التي دخلت بعمق إلى عالم العولمة بكل تجلياتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وتلك الدول التي بقيت على هامش هذا العالم. وتتعدد أسباب عدم دخول هذه الدول دائرة العولمة، فقد تكون دولاً فاشلة سيطرت عليها نخب سياسية حاكمة استبدادية فشلت في اتخاذ الديمقراطية كنظام سياسي مع أنها أصبحت هي روح القرن الحادي والعشرين، أو خاب تخطيطها الاقتصادي نتيجة إصرارها على تطبيق مذهب رأسمالية الدولة بطريقة جامدة تعتمد على اقتصاد الأوامر، ولا تلقي بالاً إلى حيوية نظام السوق، أو اعتمدت على أهل الولاء وأبعدت أهل الكفاءة عن إدارة مواردها الاقتصادية والبشرية.
لقد شكل مذهب ” الاحتواء ” مرجعية استراتيجية عقب الحرب العالمية الثانية، وكان يقوم على التطبيع المخطط لكل من ألمانيا واليابان لاستئصال النزعة العسكرية في البلدين وإدخال النظام الديمقراطي فيهما. والسؤال المطروح اليوم: هل تملك الولايات المتحدة الأميركية رؤية استراتيجية متكاملة شبيهة بمذهب ” الاحتواء ” يكفل اتساق سياستها العملية مع ما تعلنه من مبادئ؟
والإجابة لا بشكل قاطع. ولا يكمن السبب في فشل الإدارات الأميركية المتعاقبة في التخطيط الاستراتيجي، ولكن لأنه بعد سقوط نموذج الأمن القومي القديم، وانفلات الإرهاب العالمي، هناك حاجة عالمية لوضع قواعد جديدة لسلوك الأمم ولسياسات الدول، وهي مهمة لا تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها، ولكن على عاتق المجتمع العالمي بكل دوله، سواء منها الداخلة في إطار العولمة أو تلك التي مازالت على هامشها.
ولكي نترجم هذا إلى معادلة الواقع الحالي في منطقتنا العربية نقول: إنّ الولايات المتحدة الأميركية تستطيع أن تكون جزءاً من الجغرافيا السياسية، عبر النفوذ أو الأنظمة الحليفة أو الموالية أو بوجود قواتها في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، لكنها لا تستطيع أن تكون جزءاً من الجغرافيا الاستراتيجية لأنها تفتقد إلى الاحتكاك مع البشر والتاريخ.
لذلك، ظلت معالم المشروع الأميركي لإعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط مجرد معالم افتراضية أو نظرية طيلة السنوات الماضية، لكنها الآن تتكشف دفعة واحدة، إذ تتبدل أنماط التفاعلات والتحالفات، ليس فقط بين دول المنطقة ولكن أيضاً داخل كل دولة على حدة.
إذا بدأنا بأنماط الشراكات الإقليمية سنجد أنها تتبدل وتأخذ أشكالاً وأنماطاً أخرى شبيهة، إلى حد ما، بأنماط التحالفات السابقة التي كانت تريدها الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية عهدها الجديد في الشرق الأوسط في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وبالذات سياسة الأحلاف. ففيما تسعى واشنطن إلى ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط، نجد توجهات إقليمية جديدة، تنحو نحو المصالحات الإقليمية من جهة، وصوب الصين على الصعيد العالمي من جهة ثانية.
إنّ مجمل هذه التفاعلات يسهم الآن في رسم معالم خريطة جديدة للتحالفات الإقليمية، تتبلور إحداها حول إيران والعراق ولبنان، المرتهن لحزب الله، وسورية آل الأسد، والثانية حول تركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات.
كل ما سبق يمكن وصفه بأنه الجانب الأول لمشروع إعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط، وهو جانب بناء الشراكات الجديدة. أما الجانب الآخر فهو داخلي عربي – عربي ينطوي على جانب ” الهدم ” الذي يجري للنظام العربي وبقوة، بدءاً من تفكيك علاقة الدول العربية بالقضية الفلسطينية، وإهمال كارثة الشعب السوري، لإكمال تفكيك بنية النظام العربي. من خلال فرض النموذج العراقي على أساس الفرز القومي والطائفي، بما يمكن أن يؤدي إلى القضاء نهائياً على نموذج الدولة الوطنية لصالح بزوغ دويلات أخرى مجزأة على أسس الهويات الفرعية. وعندما يشيع هذا النموذج ويتم تعميمه، عندها فقط، سيتحقق مشروع إعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط تحت اسم ” نظام إقليمي جديد للشرق الأوسط “.
وربما يكون الاقتراح بعقد مؤتمر إقليمي/دولي للسلام يتوج بإعلان دول عربية إقامة علاقات مع إسرائيل مخرجاً للدول العربية وإعفاءاً مناسباً لها من الحرج، وإن كان بعضها تجاوز هذا الحرج بمسافات واسعة. عندها سيفرض مشهد جديد للعلاقات الإقليمية تتحول فيه العلاقات العربية – الإسرائيلية من علاقات صراعية إلى علاقات تعاونية، وتتحول أنماط علاقات الصراع إلى مستويين آخرين: الأول، بين الدول العربية في ما بينها. والآخر، داخل كل دولة عربية، ومن ثم ينهار النظام العربي كلية لصالح نظام إقليمي بديل يرتكز على الثلاثي إسرائيل وإيران وتركيا.