خلدتُ للنوم في ساعة متأخرة من مساء يوم الأحد في 06 شباط/ فبراير، بعد يومٍ طويل من والكتابة والبحث في شؤون شعبنا السوري المكلوم وآلامه بعد 12 عاماً كاملة تقريباً، تخللته بعض الحوارات مع أخوة وأصدقاء عبر وسائل التواصل تتعلق بنفس الهموم والمآسي التي أورثها لشعبنا نظام الكيماوي والجريمة والقتل الأسدي، لأصحو مع زوجتي فزعيّن عند حوالي الساعة 04:17 بعد منتصف الليل على زلزلة أرضية واهتزاز فظيع وشديد للبناء الذي أقيم في طابقه الخامس بمدينة أنطاكيا التركية متزامناً مع رعدٍ شديد وأمطار غزيرة جداً، ولوهلة قدرتُ أنها من الهزات المشابهة للهزات التي تتكرر بين الحين والآخر.
وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى كانت الارتجاجات والاهتزازات هائلة، للبناءٍ كله وأصوات تكسر وتكسير للبيتون المسلح والسيراميك والزجاج، فأدركت أننا نخضع لزلزالٍ مغاير عن الهزات المعهودة المتكررة، وزاد تواتر الزلزلات وترنح البناء يمنة ويسرة، لدرجة أننا حين نحاول الوقوف نقع من جديد بعيديّن عن مكاننا، فاستسلمنا لقدرنا لعلَ الله يجعل بعد ذلك أمراً!
لم تتوقف تلكم الاهتزازات الهائلة والمتواصلة بشدة إلا بعد حوالي 10 دقائق كاملة، تخللها انقطاع التيار الكهربائي وشبكة الغاز وبالتالي التدفئة والإنترنت وجميع وسائل التواصل مع الناس، ومازالت أصوات التكسير والتحطم المتقاطعة مع أصوات الناس التي سبقتنا إلى الشوارع، تمالكنا أنفسنا قليلاً وحاولنا النهوض للمرة العاشرة فنجحنا بعد إبعاد قُلطق وكنبايات الجلوس التي كومها الزلزال حولنا، وتساقطت المكتبة الكبيرة التي تحوي التلفزيون قربنا، والتقطتُ الهاتف الجوال كي أستفيد من ضوئه والسير بين الحطام بأمن نسبي، وكلٌ منا لم يتذكر أي شيء سوى محاولة الوصول للباب الرئيسي والخروج الذي لم ننجح به إلا بعد عدة محاولات، إذ أنه كلما حاولنا التقدم للأمام نجد أنفسنا وقد قُذفنا للخلف، وإن حاولنا مجدداً للخلف فنقذفُ إلى الأمام!
وأخيراً نجحت زوجتي بالخروج من باب الشقة وهي تشدد عليّ بالخروج مسرعاً، وهيهات مني السرعة في هكذا جو، فرجوتها أن تنزل لأسفل البناء مع الحرص والحذر من تساقط الاسمنت وقطع البيتون عليها ببيت الدرج، فحمدتُ الله أنها اقتنعت ونزلت، فبحثتُ بسرعة عن مفاتيح الأبواب ووضعتهم في جيب البيجاما مع الموبايل وهرعت خارجاً من باب الشقة، وأنا أصغي لأصوات التشققات- كشجرةِ أجراسٍ للزجاج والسيراميك- بجدران بيت الدرج ورخام الدرجات المتكسر تتكسر، فضلاً عن ترنحي مع ترنح كتلة البناء كله بشكلٍ مخيف ومُرعب، لأجد زوجتي تنتظرني وتناديني في الأسفل بعد أن قامت بمساعدة الجيران بالخروج من مداخل شققهم والمدخل الرئيسي للبناء بسبب قطعه ومحاصرتهم من أحد الجدران الذي سقط على المدخل الرئيسي من الخارج للبناء من شقة الطابق الأول فأغلق الطريق كلياً.
تنفسنا الصعداء، ونحن نشاهد الهلع ونسمع صراخ الأولاد والنساء من هول الكارثة التي لم يعتقد أحدٌ منا أنه سيعيش ليشهد أهوالها، والأمطار الغزيرة استقبلتنا مع العديد من الاهتزازات الارتدادية المخيفة لننتقل مسرعين إلى حديقة قريبة، ونتلفت ببعضنا نحن وباقي المتواجدين فيها والذين أنجاهم الله من هذه المحنة.
لقد طال الوقوف لساعتين- وكأنهما سنتين- تحت الأمطار وبظروف مرعبة، فقررنا أمام البرد القارس أن نتجول سيراً بالأماكن المفتوحة والطرق الممكنة كي نحصل على بعض الدفء، فشاهدنا حجم الكارثة التي حصلت على الطبيعة ونحن نتشبث بالأمل والحياة.
شاهدنا الأبنية المتهدمة فوق رؤوس قاطنيها وغوص بعضها في الأرض لأكثر من 4 أمتار ونحن نقول أين من كانوا نائمين فيها، يا للهول، أبنية منزاحة انزلاقاً للأمام قاطعة الشوارع أمامها مع ألواح الطاقة الشمسية وخزانات المياه، وأبنية مصفوفة بلاطات شققها فوق بعضها، وكأن أحداً رصفها دون وجود لجدران أو هياكل من الداخل، فنسمع صراخ المحاصرين تحت الركام، ونرى ضحايا محمولين أمواتاً خارج أبنيتهم، وأحدهم قد أخرج أولاده الصغار وطلب منهم الذهاب بعيداً لأنه سيعود ليُحضر أحداً، ذهب الأطفال مسرعين لكن والدهم لم يخرج فقد سقط البناء عليه دون أن يعلم أولاده ما جرى لأبيهم وهم ينتظرون قدومه للمكان الذي طلب منهم الذهاب إليه!
حاولت مراراً الاتصال بأولادي، ولكن عبثاً أحاول، لعدم وجود اتصالات هاتفية بسبب سقوط أبراج شبكات الانترنت، فبعد حوالي نصف ساعة من المحاولة- وأنا أسير مع زوجتي بالشوارع المحيطة والقريبة من حينا- لترد ابنتي وقد أيقظتها مبكراً من النوم في اسطنبول وهي ملهوفة: خير بابا؟
حاولتُ تهدئتها قليلاً في هذا الوقت المبكر وقلت: بابا تعرضنا في أنطاكيا لزلزال- دون وصفه- لأطلب منها إخباري إن كانوا بخير ولم يحصل لديهم ما حصل عندنا.
طمأنتني عنها وعيالها وزوجها، واستعادت وعيها قائلة: يا لطيف يا لطيف!
قلت لها: نحن بخير بابا، وفي العراء بهذا البرد والأمطار الغزيرة، أخبري إخوتك جميعاً أننا بخير.. حاولت المتابعة ولكن الاتصال انقطع!
استمر هذا المشهد لمدة يومين وليلتين كاملتين والأمطار والاهتزازات الارتدادية وأصوات الرعد- السماوي والأرضي- لم تتوقف أبداً، وأنا أحاول البحث عن وسيلة نقل للذهاب إلى اسطنبول دون جدوى، حتى يوم الأربعاء 08 شباط/ فبراير 2023 قبل الظهيرة، إذ بباص بولمان متوجه إلى اسطنبول فغادرنا أنطاكيا وهول الكارثة التي عشنا نكبتها، وبعد مسير حوالي 50 كم بعيداً عنها عاد الاتصال الهاتفي والنت، ومذاك حتى لحظة كتابة هذه المادة المأساوية لم تهدأ أعصابنا وخلجات مفاصلنا وعضلاتنا واتصالاتنا بالأحباب وذويهم للسؤال عنهم وعن أصدقائنا.
اليوم، وبينما شعبنا السوري يعاني ويلات الزلزال المدمّر الذي شمال سورية وجنوب تركيا في منطقة لطالما تعرضت تاريخياً لمثله، تصبح الأمثال جوفاء وباردة كصقيع من يُصرّ على استثمار الأزمات والنكبات، فالناس في المناطق المنكوبة بلا مأوى أو غذاء أو كساء، لكن نظام القتل الأسدي- وحلفه المشبوه- يمعن في سلبهم حتى أحلام وصول المساعدات.
الحمد لله أن نجانا وسلمنا مع من نجا، والرحمة والجنان لمن فقدنا من سوريين وأتراك في هذه النازلة والكارثة الطبيعية التي ألمت بشعبينا.
المصدر:إشراق