ندرك جميعاً أن هول ووقع الكارثة الزلزالية التي ضربت جنوبي تركيا وشمالي سوريا كان كبيراً ومؤلماً، وأوقعت عشرات آلاف الضحايا من الأتراك والسوريين من جرّاء زلزال مدمّر لم تشهده المنطقة منذ عقود طويلة.
واستطاع الشعب التركي وكذلك السوري تحمل المسؤولية في مواجهة تبعات الكارثة الكبرى، وفعل كل ما يلزم من أجل بلسمة الجراح النفسية والجسمية التي أنتجت مئات الآلاف من المعوقين وعشرات الألوف من الضحايا، وأكثر منهم من المهجّرين والنازحين إلى مناطق أخرى أكثر هدوءاً وأبعد نسبياً عن مخاطر الهزات الارتدادية، التي ما برحت تفعل فعلها في بث الذعر والخوف لدى قطاعات واسعة من الناس، من حيث إنها تؤشر إلى احتمالات ممكنة في انهيارات جديدة للأبنية التي سبق وطالها التشقق.
لذلك لا بد من التوقّف وقراءة مستقبلات الأيام وما سوف تتركه حالات الزلزلة المستمرة، محاولة قراءة التداعيات الأولية، وأيضاً المتوسطة، وطويلة الأمد، بعد كل هذه الخسائر، وبعد حالة الفجيعة الكبرى التي نالت من السوريين والأتراك في ظل التفاتة إقليمية وعالمية متميزة وقفت إلى جانب المتضررين وأمسكت بأيديهم، ولو بشكل نسبي، من منطلق إنساني وبعيد عن المصالح السياسية، التي لا يجوز أن تتمظهر في هكذا حالات، مع العلم أننا شهدنا العديد من التحركات التي ظاهرها كان إنسانياً لكن مضامينها سياسية بامتياز.
الكثير من التداعيات التي يمكن الحديث فيها وعنها التي خلّفها وسيخلفها هذا الزلزال/الكارثة، والتي ستترك آثارها وتبعاتها على كلا الشعبين المتأثرين بالزلزال وأعني التركي والسوري، منها تداعيات سياسية، داخلية واقتصادية وأيضاً إقليمية ودولية، من الممكن أن تكون أكثر وقعاً وأمضى تأثيراً، نذكر منها:
الزلزال ترك مئات الآلاف من المنكوبين الذين يحتاجون إلى المأوى والطعام والشراب والخدمات والتعليم والعلاج، ومن ثم الاشتغال الحثيث والصعب لإعادة تأهيل هذه المناطق من جديد، في ظل واقع تضخمي اقتصادي ومعيشي غاية في الصعوبة، سبق أن تركت ذيوله جائحة كورونا، وأيضاً الحرب الروسية على أوكرانيا التي دخلت عامها الثاني، وسط توقعات في استمرارها لفترة أطول.
هناك أيضاً الآلاف من التلاميذ الذين باتوا من دون تعليم بسبب انهيار مدارسهم، أو من جرّاء واقع الزلزال الذي فرض بالضرورة أن تكون هذه المدارس مراكز ضرورية جداً للإيواء.
ناهيك عن حالات تفشي مرض الكوليرا شمالي سوريا بعد الضرر الكبير الذي لحق في قطّاع الصرف الصحي من خلال ما فعله الزلزال في الكثير من مناطق الشمالي، وهي مسألة تحتاج إلى إمكانيات كبيرة في الصحة والمتابعة، ما زالت مفتقدة كلياً أو جزئياً في ظل عجز الحكومتين المؤقتة والإنقاذ عن فعل أي شيء نتيجة شح الإمكانيات وندرتها.
النقطة الأخرى تتركز حول الوعود الأوروبية في مساعدة تركيا والسوريين من أجل الخروج من آثار كارثة الزلزال، حيث يتساءل السوري والتركي: هل يمكن أن تفي الدول الأوروبية والغربية عموماً بوعودها وتسهم في عملية لملمة جراح تركيا ودعمها بينما هي بالأصل لم تكن ولا تريد لحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، أن تنجح في الانتخابات المقبلة، والتي أضحت على الأبواب.
والتحدي الآخر هل ستتمكن تركيا من إنجاز الوعد في إجراء الانتخابات التركية بموعدها بعد كارثة الزلزال، وماذا يمكن أن يحدث فيما لو تم التأجيل ولصالح مَن ستكون النتائج في ظل هجوم لا يهدأ واستغلال من قبل المعارضة على الجهود الكبرى التي تبذل (في مواجهة الكارثة) من قبل مؤسسات الدولة التي تديرها حكومة العدالة والتنمية.
في المقلب الآخر فإنّ الحديث يجري متتابعاً وكثيفاً عمّا يمكن أن يجنيه بشار الأسد بعد الزلزال وبعد أن راحت بعض الدول العربية تهرول تباعاً إلى دمشق، وتدعو رأس النظام إليها كما جرى في سلطنة عُمان، وتوجّه وزير خارجية مصر إلى دمشق وأنقرة، لكن ما يبدو واضحاً حتى الآن أن بشار الأسد لن يُشتغل على إعادة تأهيله السياسي، غربياً على الأقل، كمنتج جانبي للتعاطف الدولي والعربي مع نكبة السوريين الزلزالية. أوروبا لن تستعجل التطبيع معه وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، التي أعلنت أنها ستصد كل محاولات البعض لتجاوز العقوبات المفروضة على النظام السوري.
في الحديث عن الذي تم البدء به قبل ذلك بأشهر من محاولات التطبيع والمصالحة بين تركيا والنظام السوري، فإنه وكما يرى المتابعون قد يكون هناك تحسن في العلاقة التركية السورية اضطراراً بسبب الكارثة الزلزالية الصعبة، لكن ما قيل عن إمكانية تقارب تركي سوري على مستوى الرئاستين، سيشهد جموداً وتراجعاً نسبياً كما هو مرجّح.
أما حكومة الملالي في إيران ستضطر (بحسب مراقبين) لأخذ تأثير الزلزال في كل من تركيا وسوريا ضمن سياقات مشاريعها وأيضاً بعض خياراتها الإقليمية في الاعتبار، وعلى الأرجح أنها ستتأنى كثيراً، لأنّ هذه الكارثة الزلزالية ليست إنسانية فقط، وإنما تداعياتها الإقليمية والجيوسياسية قد تفعل فعلها في احتمالات العودة إلى مستديرة رسم بعض الاستراتيجيات السياسية، وكذلك السيناريوهات التي كانت.
في أميركا فإن الكونغرس الأميركي الذي يهيمن عليه (الحزب الجمهوري) يتوقّع أن يكون بالمرصاد لأية مشاريع روسية وإيرانية ضمن الجغرافيا السورية، وكذلك لأيّ محاولة تعويم وتأهيل نظام بشار الأسد الكبتاغوني أو لتجاوز العقوبات.
وهو كذلك سيعارض سياسات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فيما لو سمحت باستثناءات أوسع وأكثر لـ”قانون قيصر” الشهير، وعموماً فإن إدارة بايدن وأيضاً الكونغرس لا يُعتقد أنهما في وارد رفع العقوبات عن النظام السوري تحت ضرورات إنسانية خلفتها الكارثة الزلزالية، حيث تعمل الولايات المتحدة في البحث عن آليات جديدة وإضافية لعمل المنظمات الدولية للإغاثة، كحال المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وأميركا لن تسمح في التعاقد مع النظام لإيصال المساعدات إلى المناطق المتضررة سواء أكانت تحت سيطرة النظام أو حتى المعارضة كما هو بائن.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تركيا اليوم في حالة اقتصادية صعبة، وما محاولاتها اتخاذ قرارات اقتصادية كتخفيض سعر الفائدة وما رافقه من قرارات، إلا ضمن سياقات مواجهة التحديات الكبرى التي خلّفها الزالزال، ويبدو أنه حتى الآن ما زالت قادرة على معالجة ذلك عبر ما تبذله من جهود حثيثة لا تهدأ في لملمة الجراح وبلسمة أوضاع المتضررين، فهناك مدن كبرى وولايات عشر دُمِّرت، بما يتطلّب مليارات الدولارات التي لن تستطيع أن توفيها حقها بعض المساعدات التي تسددها الدول الأوروبية بملايين الدولارات، فأوروبا مكبّلة بمشاكلها وبحربها مع روسيا، واقتصاداتها متضعضعة والتضخم يزداد اضطراداً، كما أن أولوياتها ليست في دعم الأتراك ولا السوريين بعد حرب أوكرانيا.
وصدق من قال (أكثر أنواع الزلازل مأساوية هي التي تصيب القناعات الراسخة المقدسة)، وهو مالا نأمله أبداً لكلا الشعبين الصديقين السوري والتركي، عسى أن تؤتي الكارثة دفعاً ميدانياً موضوعياً مشتركاً لإنجاز النهوض بعد الزلزال من جديد، والإرادات الصادقة والجادة من الممكن أن تتمكن من ذلك، فيما لو بنيت على أسس موضوعية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا