عبد الباسط حمودة
لأن التاريخ لا يقبل الفراغ وبعد مضي قرن كامل على تأسيس الجمهورية التركية، وتكامل أوضاعها الداخلية المُلائمة، مع أحوال إقليمية متغيرة في بناء قوة دفع لدور تركي جديد، ضمن هذا الفهم تبدت الاستدارات الاستراتيجية للكثير من الدول الإقليمية- ومنها تركيا- للعمل على توفيق أوضاعها ومصالحها وفق حسابات متغيرة بتخفيف التوتر ومد خيوط التعاون الاقتصادي بقدر ما هو متاح، كان ذلك استباقاً للانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية الكاشفة لحقائق الموقف التركي ضمن مراجعة ونظرة للمستقبل في إقليمٍ يتغير، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن أجواء “العار العربي” تبدت في “لمة” قادة “سجاني” العرب، بقمةٌ للسلطات العربية، فـ“الشعب” (مجازاً، لأننا لسنا شعوباً، بل رعايا وأتباع) العربي معتقل، مُبدَّد، مقهور، يعيش انعدام الأفق، يعاني فقراً وجوعاً واضطهاداً وتنكيلاً وتقييداً، والقمة غير معنية أبداً بالحياة الحقيقية التي يعيشها “المواطن” العربي، مع التأكيد، أن “المواطن” العربي ممنوع منعاً باتاً من “الحرية” و“ممارسة حقوقه الدستورية” التي “سُطرت” في دساتير بلاده حبراً على ورق ليس إلا!
الأمر المريب والمُعيب كأن الزمن بدأ في “لمة” جدة التي كرست مفهوم “الدمار طريق لإعادة الإعمار”، “لمة قمة” غير معنية بفلسطين وشعبها، وغير معنية بما خلفته حربُ النظام الأسدي الفاشي على سورية وشعبها منذ 2011 من قتلى ودمار بشع ومُكلف، فها هي “تكافئ القاتل” بمصافحته وشكره على تنفيذ رغباتهم وأمانيهم؛ فإعادة الإعمار تثير شهية الشركات ذات الأرباح الخيالية، يصاحبها، ديون مستحقة، يدفعها “الشعب” إلى يوم الدين، ذلك، أن جميع أشكال الحكم العربجي: ملكي، أميري، عسكري، وسلالي، قد صادر الحرية والإنسانية، وألزم الناس أن يبدّدوا آلامهم وأمالهم، وأن يتحسسوها بصمتٍ وكتمان في “سجنهم الكبير”، مع “هبل سياسي” يحظى بحضورٍ طاغٍ من الكذب واستحمار الناس في وسائل الإعلام العالمية والعربية والمحلية!
بهذه الأجواء الاقليمية السائدة التي تُحطم كل سوري وعربي، تأتي “الدورة الثانية من الانتخابات التركية” بأجواء من “الحرية والديمقراطية” كأجواء الدورة الأولى، والتي شهد لها كل متابع مهتم “خاصةً السوريين” منهم، الذين فُرض عليهم اللجوء لتركيا، باعتبارهم “فئة هاربة” من التعذيب والقتل والتشريد والاعتقال؛ فلماذا لم يتم تحييد ملف اللاجئين عن النزاعات والمنافسات السياسية الداخلية التركية؟، إن الاستمرار في تناول “قضية اللجوء السوري” في الحملات الانتخابية والخطابات السياسية، يساهم بعدم تقبّلهم بالمجتمع التركي كمكون فرضته الظروف السياسية والجغرافية، مما يُعقد ويُصعّب عليهم الاندماج؛ فخلافًا لما يروَج من “عنصرية مقززة” لمتشددين أتراك ضد السوريين، فإن الصراع في سورية لا يندرج تحت مسمى “الحرب الأهلية”، إنما هو حربٌ ممنهجة، فاشية بغيضة، مورست من قبل نظام أمني مستبد، مخابراتي قمعي ضد شعبه.
فقرار اللجوء ومغادرة الوطن هو قرارٌ مصيري يُخلف وراءه الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، والعودة للوطن هي رغبة ومطلب لجميع السوريين أيضاً بعد زوال أسباب لجوئهم، إلا أن البقاء في تركيا يُعدّ أمراً “إلزامياً” لهم نظراً لإجرام النظام السوري القاتل والمسبّب الأول للجوئهم ومغادرة بلادهم، وأن إدخال الملف السوري في المنافسات السياسية التركية وتحميل اللاجئين السوريين مسؤولية المشاكل الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، قد ساهم بشكل ملحوظ بتأجيج “خطاب الكراهية” ضدهم في المؤسسات والمرافق العامة والخاصة، وأدّى لارتفاع جرائم العنف والكراهية التي تسبّبت في خسارة الأرواح أحياناً فضلاً عن الخسائر الاقتصادية والمعنوية، علماً أن ورقة طرد السوريين والتضييق عليهم قد بدأت منذ أكثر من عامين في تركيا وما تزال موضوعة على الطاولة برسم الاستخدام لكنها أضعف مما يعتقد البعض وبعد الانتخابات ستكون أكثر ضعفاً.
وبطبيعة التشابكات والمصالح المتعارضة إقليمياً “قد” تأخذ تركيا بعد الانتخابات الرئاسية مباشرةً خطوات أكثر راديكالية بمعادلات الإقليم، نحو إجراءات عملية على الأرض “قد” تساهم في إنهاء أو تخفيف وطأة أزمة اللاجئين السوريين في الداخل التركي، مستفيدةً من التحولات حولها على مستوى الأنظمة والسلطات العربية، فجاءت الانتخابات تأكيداً على دور «أردوغان» بعد (22) عام من إمساكه بمقادير الأمور، ففي “الجولة الأولى” تصدر النتائج دون أن يحسمها، وتفوق حزبه «العدالة والتنمية» دون أن يكتسحها؛ والأمل معقود بـ“الدورة الثانية” بجولة الإعادة الرئاسية على الإمساك بمقادير الأمور من جديد وبشكل أكثر مضاءً وباكتساحٍ يحسم الموقف السياسي ديمقراطياً، بحدثٍ إقليمي ودولي على “درجة عالية من الأهمية والحساسية”، في عالمٍ يرقب كله نتائجها ليستبين حدود التغيير في قواعد اللعبة بأكثر أقاليم العالم احتشاداً بالأزمات.
فتركيا في زمن حكم «أردوغان» أقام فيها ملايين من العرب الهاربين من جحيم بلدانهم: سوريين ومصريين ويمنيين وعراقيين وليبيين وفلسطينيين ولبنانيين، ولهم ملايين الأشباه الذين “يتماهون” معهم حماسةً له وكرهاً لخصومه، ويسجل انحياز «أردوغان» لانتفاضات عربية عديدة، لا تقلّل من أهميته حقيقة أنه فعل ذلك انطلاقاً وانسجاماً مع “مصلحة وطنية تركية” و“قناعاتٍ دينيةٍ إسلامية”.
لقد رافق ذلك حالة ذهول للاجئين السوريين في تركيا تبدت من خلال مشاهداتهم للمساواة التامة في “ممارسة الحق الانتخابي”، وهم ولأجيال كاملة لم يمارسوا مثل هذا الشكل الحر والانتخاب الديمقراطي الذي رأوهُ في الحياة السياسية التركية، وكلٌ منهم يُجري المقارنات والمقاربات الذهنية الذاتية بعد كل تلك السنين من القهر والاستبداد التي تخللتها سنوات “الثورة المُجهضة” بعد آذار/ مارس 2011، بأنهم لم يكونوا على دراية بالعملية الديمقراطية واستحقاقاتها بحياتهم المعاشة في سورية وخارجها قبل وبعد الثورة ومؤسساتها أيضاً، فالفراغ الديمقراطي العربي لا “يُعوَّض” بأي انتخاباتٍ حتى ولو كانت ديمقراطية في أيِ بلدٍ غير عربي.
المصدر: اشراق